253-قال المؤلف رحمه الله تعالى: فَصلٌ في أصحابِ الذّنوب قوله: أي أبي جعفر الطحاوي ولا نكفِّر أحَدًا مِن أهلِ القِبلةِ بذَنبٍ ما لم يستَحِلَّه ولا نقُول لا يضُرُّ مع الإيمانِ ذَنبٌ لمن عَمِلَه، هاتانِ قاعِدَتان مِن قواعِد أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، الأُولى لا نُكفِّر أحدًا مِن أهلِ القِبْلَة بذَنبٍ ما لم يَستَحِلَّه معناها أنّ المسلم الذي آمنَ بالله ورسولِه وتجنّبَ الكفريّاتِ لا يُكفَّر مِن أجلِ ذَنبٍ أي مِن أجلِ أنّه قتَل إنسانًا ظُلمًا ولا مِن أجلِ أنّه زَنى ولا مِن أجْلِ أنّه شَرِب خمرًا ولا مِن أجلِ أنّه سرَق ولا مِن أجلِ أنّه انتَحَر أي قتَلَ نَفسَه ولا مِن أجلِ ما سِوى ذلك منَ الذّنوب كبائرِها وصغَائرِها، لا نكَفّرُه مِن أجلِ هذا الذّنب ما لم يَستحِلَّه، ما لم يعتقد أنّ هذه المعصيةَ حَلالٌ فمَن اعتقَد أن هذه المعصيةَ حَلال فعندئذٍ نكفِّرُه أمّا ما لم يَستحِلَّه فلا نكفّرُه، نقولُ هوَ مِن عُصاةِ المسلمينَ يفعَلُ اللهُ بهِ ما يشَاءُ إنْ شاءَ يَغفِرُ لهُ ولا يُعَذِّبُه وإنْ شاءَ يُعَذّبُه ثم يُخرجُه منَ العَذابِ ولا يؤبّدُه في النّار، والقاعدةُ الثّانيةُ لا نقُولُ ولا يَضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ لمن عمِلَه أي لا نقُولُ ما تقُولُه المرجئة الطّائفةُ الضّالّةُ قالوا لا يضُرُّ معَ الإيمانِ ذَنبٌ كما لا يَنفَعُ معَ الكُفرِ حسَنَة.
هذه قاعدَتهُم الضّالّةُ نحنُ نُخَالفُهم في ذلكَ فنَقُول الذّنبُ يَضُرُّ صاحبَه لا بمعنى أنّه يتَحَتّمُ أن يُعَذَّبَ في الآخِرة بل بمعنى أنّ اللهَ إنْ شاءَ يُعَذّبُه بذلكَ الذّنب وإنْ شاءَ غفَر لهُ، هذا في الذي لم يَتُبْ أمّا الذي تابَ نقُول كما قال الرَّسول:“*التائبُ منَ الذّنْب كمَن لا ذنبَ لهُ*رواه ابن ماجه”. ولا نقولُ
أيضا
إنّ الذي يَستغفِرُ اللهَ مِن ذَنبِه وهو مقِيمٌ على ذلكَ الذّنْب كالمستَهزأ بربِّه هذا ورَد فيه حديثٌ ضعِيف لا نَأخُذ بهِ نحن، نحنُ نقُولُ الذي يَستَغفِرُ اللهَ مِن ذَنبِه ولو كانَ مقِيمًا عليه لا يَترُكْه أي لم يُقْلِع عنه أنّ هذا الاستِغفارَ ينْفَعه، الاستغفارُ اللّساني يَنفَعُ لكن بشَرط أن يكونَ في قَلب المستغفِر شَىء لو لم ينوِ لكن يُشتَرط أن يكونَ في قَلبِه نَوعٌ منَ الاستِشعَار بالخَوف منَ اللهِ أو تَعظيمُه أو محبَّتُه أو رجَاءُ رَحمتِه ليسَ مجرَّد أنّه تَعَوّد أن يقولَ هذا الشّىءَ أمّا إذا كانَ يَستَغفِرُ بلِسَانِه لمجَرَّد أنّهُ تعَوَّدَ لسَانُه على الاستغفارِ فهذا ليسَ فيه فائدةٌ كبيرةٌ، أمّا إذا كانَ يَستَغفِرُ بلسَانِه وهوَ مُسْتَشعِرٌ في قَلبِه بتَعظيم اللهِ أو الخوفِ منهُ أو محبّتِه أو رجاءِ رحمتِه أو التّذلُّل له بالاعترافِ بذَنبِه لأنّ اللهَ يُحِبُّ أن يَعترف العَبْدُ بذَنبه، أليسَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عَلَّم أبا بَكر أن يقولَ: “*اللَّهم إنِّي ظَلَمْتُ نَفسِي ظُلْمًا كَثِيرًا*”
(عن عبد اللهِ بنِ عَمرو رضي الله عنهُمَا عن أبي بَكرٍ الصِّدّيق رضي الله عنه أنّه قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنّه قال يا رسولَ اللهِ عَلّمْنِي دُعاءً أدْعُو به في صَلاتي قال: قلِ اللهُمّ إنّي ظلَمْتُ نَفسِي ظُلْمًا كَثيرًا ولا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنتَ فاغْفِر لي مَغفِرَةً مِنْ عِندِك وارْحَمْنِي إنّكَ أنتَ الغِفُورُ الرّحِيمُ”. هذَا حَديثٌ صَحيحٌ أخرجَه أحمد.)
فإذا كانَ هذا العبدُ الذي بَعدُ مُقيمٌ على ذَنْبِه يَستَغفِرُ بلِسانِه مع الاستِشعار بتَعظيم الله أو الخوفِ منه أو محبّتِه أو سَعَتِ رَحمتِه يَنفَعُه ذلك الاستِغفارُ مع كونِه مُقِيمًا على ذلك الذّنبِ فتَبَيَّن مِن هذا أنّه ليسَ نَفعُ الاستغفارِ اللّسانيّ مَقصُورًا على حالةٍ واحِدةٍ وهيَ ما إذا أقْلَع عن الذّنْب نقولُ إنْ أقلَع عن الذّنْب وإن لم يُقْلع
بل هو بَعدُ مُقِيمٌ على ذلك الذّنبِ قولُه أستَغفِرُ اللهَ باللّسانِ مع نَوع استِشعارٍ بتَعظيمِ اللهِ فهوَ نافعٌ، ولا يُغْتَرَّ بظَاهر ما نُقِلَ عن بعضِ السَّلَف: استغفارُنا يحتَاجُ إلى استِغفَار، نحنُ لا نَأخُذ بظَاهِر هذا الكلامِ بل نقُولُ الاستغفارُ يَنفَعُ ولو مع الإقامَةِ على الذّنب ولا نَعتَبرُ هذا الحديثَ ثَابتٌ عن رسولِ الله: “*المستَغفِرُ مِن ذَنْبِه وهو مُقِيمٌ عليه كالمستَهزئ بربِّه*رواه ابن عساكر والبيهقي” هذا الحديث لا نعتَبرُه لأنّه ليسَ لهُ إسنادٌ مستقِيمٌ.
قال أبو جعفر رحمه الله: “*ونَرجُو للمُحسِنِين مِنَ المؤمنينَ أن يَعفُوَ عنهم ويُدخِلَهُمُ الجنَّةَ برَحمَتِه ولا نَأمَنُ علَيهم ولا نَشهَدُ لهم بالجنَّة ونَستَغفِرُ لمسيئِهم ونَخافُ علَيهم ولا نُقَنّطُهم*”. يعني أنّه نقُول لمن رأيناهُ بحَسب الظّاهِر منَ المحسِنينَ بحَسب الظّاهِر متَمسّكٌ بطَاعةِ الله نقُول إنْ كانَ خُتِمَ لهذا الرّجُل على هذه الحالِ وكانَ ظَاهرًا وباطنًا هو على مَنْهَجٍ واحِد، ظَاهرًا وباطنًا، فإنْ وافَق ظَاهِرُهُ باطِنَه ليسَ مُرائِيًا بهذه الأعمالِ الحسَنةِ التي ظهَرت منه ولا مُنافقًا بل يَعمَلُ هذه الطّاعاتِ لوَجْه الله تعالى فيما يَعلَمُ اللهُ تعالى منه إنْ كانَ على ذلكَ فإنّا نَرجُو لهُ أن يكونَ مِن أهلِ الدّرَجات العُلَى في الآخرة، “*ولا نَأمَنُ*” أي لا نَجزِمُ بأنّ هذا ناجِي قَطْعًا لأنّ الظّاهِرَ قَد يُخالِفُ الباطِنَ أحْيانًا، نَكِلُ عِلمَه إلى الله نقولُ في أنفُسِنا إنْ كانَ هذا الرّجُل عنْدَ الله تعالى كما يَظهَرُ منهُ أنّهُ متَمسِّكٌ بطَاعتِه فهو عندَ اللهِ مِن أهلِ الدَّرَجات العُلَى تَعَلَّق الأمرُ بمشيئةِ الله هذا معنى قولِه “*ونَرجُو للمُحسِنينَ منَ المؤمنِين أن يَعفوَ عَنهُم ويُدخِلَهُم الجنَّةَ برَحمَتِه*” وإنّما قال برَحمَتِه لأنّ هذا المحسِنَ، معنى العبدِ المحسِن أي المتمَسِّك بطَاعةِ الله، هذا التّمَسُّكُ نِعمةٌ مِنْ نِعَم اللهِ علَيه، اللهُ تَعالى هوَ الذي قَدَّرَه أن يَعمَلَ هذه الحسَناتِ ولَولا إلهامُ اللهِ لهُ وتَقديرُه لهُ ما عمِلَ هذه الحسناتِ، اللهُ تعالى لهُ الفَضْلُ عليهِ وأمّا هو فليسَ لهُ على اللهِ مِنَّةٌ ولا فَضلٌ لأنّ العَبدَ كُلَّ العَبدِ ظَاهرُه وباطنُه مِلكٌ للهِ خَلْقٌ لله.
العبدُ ما خَلَق مِن نَفسِه شىءٌ حَركاتُه وسكَناتُه أيضًا بخَلقِ الله ليسَ يخَلْقِ العبدِ، إذًا دخُولُه الجنّةَ آمِنًا بلا عَذاب يكونُ برَحمَةِ الله تعالى أي بالإحسانِ منَ اللهِ وفَضْلٌ منهُ لأنّه لمّا كانَ وجودُه بخَلقِ الله تعالى وإيجادِه وكانت حركاتُه وسكناتُه الظّاهرةُ والباطِنَة بخَلق الله ومشيئتِه وتقديرِه وعِلمِه الأزليّ كان هذا الثوابُ الذي يَلقاهُ في الآخِرة فَضْلاً مِنَ الله.
قال: “*ولا نَشهَدُ لهم بالجنَّة*” لا نقولُ إن رأيناه متَمسّكًا بطَاعةِ الله تعالى فلانٌ مِن أهلِ الجنَّة، ليسَ لنا ذلكَ، ما يُدرِينا بما في قَلبِه هل وافَق قَلبُه ظاهِره أم لم يوافق، ثم ما يُدريْنا بما خُتِمَ لهُ هل سبَق في عِلم الله أن يموتَ وهو يعملُ الأعمالَ الصَّالحةَ مُطيعًا لله تعالى
أم سَبَق في عِلم الله لهُ أن ينقَلِبَ قَبلَ مَوتِه إلى الفَساد لذلك لا نَشهَدُ له بالتّعيِين،.مِن جملة ما ثبَت عن سيّدنا عمرَ أنّه كانَ يَعتَرض على النَّاس إذا قُتِلَ قَتِيل في بعضِ غزَواتِهم في زَمَن خِلافَتِه إذا قُتِل قَتِيلٌ في معركةِ الكفّار أن يقُولوا استُشهِد فلانٌ كانَ يَستَنكرُ هذه العبارة، كانَ يقُول قولُوا قُتِلَ في سبيل الله، نهَاهُم، لأنّ قولَهم استُشهِدَ معناهُ أنّهُ صارَ شَهيدًا أي نالَ مَرتبَةَ الشّهادةِ، والإنسانُ لا يَنالُ مَرتبَة الشّهادة بمجرّد أنّه صُرِع في سَاحَةِ الحرب مع الكُفّار لأنّ هناكَ أمورًا تَمنَعُ الشّهادَة عندَ الله، منها أن يكونَ هذا الرّجلُ عقيدتُه فاسِدة ومنها أن تكونَ نيّتُه فاسِدة كأن يكونَ قَصدُه بهذا القتالِ أن يُقالَ عنه فلانٌ جَريءٌ بطَلٌ هذا مُرائي والمرائِي لا ثوابَ لهُ عندَ الله، أو يكونُ ما كانَ ببَالِه ابتغاء الأجر، أو كانَ ببَالِه ابتغاء الأجر والغنِيمَة، أن يَحصُلَ على أمرين فهَذان عندَ الله تعالى لا أجرَ لهما. أمّا الذي لهُ ثوابٌ فهو الذي حَضَرَ لِلأجْرِ فقط أي لأنّ اللهَ يُحِبُّ الجِهَادَ في سَبِيْلِه.أمّا الذي شَهِدَ لهُ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بأنّهُ شَهيدٌ نقُولُ شَهيدٌ، حمزةُ بنُ عبدِ المطّلب وغيرُه منْ شُهداءِ أُحُد نقولُ عنهم فلانٌ الشّهيدُ فلانٌ الشّهيدُ لأنّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لهم، كذلكَ أهلُ بَدْر نقولُ عنهُم أهلُ الجنَّة، الذي قُتِلَ في المعركةِ(من هؤلاء) والذي رجَعَ سالِمًا نقولُ عنه مِن أهلِ الجنّةِ لأنّ الرَّسولَ شهِدَ لهم بالجنَّة، شُهداءُ أُحُد وشُهَداء بَدر وكذلكَ أهلُ الحُدَيبِيَة الذين بايَعُوهُ في الحُدَيبِيَة وهمْ نحوُ ألفٍ وخمسُمائة هؤلاء أيضًا شَهِد لهم بأنّهم لا تَمسُّهم النّار، كذلك أُنَاسٌ شَهِدَ لهم بالشَّهَادة كانت امرأةٌ يُقال لها أمُّ ورقَة رضيَ الله عنها كانَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لها أن تَؤُمَّ أهلَ دارِها كانَ يقولُ للصّحابةِ قُومُوا بنا نزُورُ الشّهيدة، فنالتِ الشّهادةَ بالقَتْلِ ظُلْمًا، قُتِلَت ظُلْمًا كانَ لها غُلامَان مملُوكَانِ لها مِلْكُ يَمين فَمَكَرا لها مَكْرًا، ذاتَ يوم لم يكُن أمامَهُما غيرَهما فجاءا فغَمَّاها أي خنَقَاها فماتَت، هذا حصَلَ بعدَ وفاةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم في خِلافةِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، فتَحقَّق قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيها، هذا القولُ قالَه رسولُ الله بوَحْيٍ منَ الله، أَوْحَى إليه أنها ستُقتَل ظُلْمًا وتنَالُ الشَّهادةَ.
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: “*ونَستَغفِرُ لمسِيئِهم ونَخافُ علَيهم ولا نُقَنّطُهم*” المسلمُ العاصي نَستَغفرُ اللهَ لهُ ونخَافُ علَيهم نقولُ إنْ ماتوا قبلَ التّوبة يجُوز أن يُعَذّبَهمُ اللهُ تعالى ويجُوز أن يُسامِحَهُم “*ولا نُقَنّطُهم*” لا نَقولُ لهُ أنتَ مِن أهلِ النّار، لا نقولُ له هذا لأنّنا لا نَدري هل هذا الإنسانُ كتَب اللهُ لهُ أن يموتَ على الإيمان قبلَ التّوبة وهو عاصِي متَلوّثٌ بذنُوبه ويكونُ شاءَ اللهُ لهُ أن تُغفَر ذنُوبُه فيَدخُلَ الجنّةَ بلا عذاب، لا نَدري لذلكَ لا نقُول لهُ أنتَ مِن أهلِ النّار ولا لغَيرِه فُلانٌ مِن أهلِ النّار، معنى “*ولا نُقَنّطُهم*” أي لا نَجعَلُهم يَقنَطُونَ مِن رَحمةِ الله، المسلمُ مَهما كثُرَت ذنُوبُه لا نُقَنّطُه مِن رحمةِ الله نَنصَحُه بالتّوبةِ،
نقولُ له هذا العملُ الذي أنتَ عليه يُوْجِبُ النَّار لفاعِله تُبْ إلى الله، المعنى إن شاءَ الله تعالى أ
ن
يُعذّبَك بذنوبِك هذه ومُتَّ قبلَ أن تتوبَ منها أنّك تَستَحِقّ النَّار، أمّا أن نقولَ أنتَ مِن أهلِ النّار ونجزِم فلا يجُوز