يَصِحّ أن يُقالَ الكَسبُ تَوجِيهُ العَبدِ إرادتَهُ نحوَ الفِعْل

Arabic Text By Jul 12, 2013

قال شيخنا رحمه الله

يَصِحّ أن يُقالَ الكَسبُ تَوجِيهُ العَبدِ إرادتَهُ نحوَ الفِعْل.

فمَعنى قولِ سيّدِنا عليّ أنّ الله خلَقَ كُلّ شىء بقَدَر حتى العجز والكيس، العَجزُ هو القُصُورُ الذي يحصُل في العبدِ، وأمّا الكَيسُ فهوَ النّشَاطُ الذي يحصُل في العبدِ ، حتى قصُور العبدِ أي ضَعفُ همّتهِ وفتُورُها بتقدير الله، وكذلكَ مُقابلُ ذلك وهو النّشاطُ وقوّةُ الهِمّة والذّكاء هذا أيضًا بتقديرِ الله، هذا كلامُ سيّدنا عليّ عبارةٌ عن أنّ كلَّ أحوالِ العبدِ هي بخلقِ الله وتقديرِه، قالَ رضيّ الله عنه “وإليهِ المشيئةُ ” معناهُ أن الله تباركَ وتعالى شاءَ كلَّ ما يَدخُل في الوجود قبلَ خَلقِ العالَم، فلا يُستثنى شىءٌ دُونَ شىء، فمَا شاءَ الله في الأزلِ دخولَه في الوجودِ لا بُدّ أن يَدخُلَ في الوجودِ وما لم يَشإ الله في الأزلِ دخُولَهُ في الوجودِ لا يَدخُل في الوجود، فالذي شاءَ فِعْلَ شَىءٍ أو الوصولَ إلى شىءٍ فإمّا أن يصِلَ إلى ذلكَ الشىء وإمّا لا يصل إلى ذلك الشىء، كلُّ هذه المشيئات بعدَ مشيئةِ الله الأزليّة، فكُلّ مشيئاتِنا هذه التي تَتنفّذُ لنا والتي لا تتَنفّذُ لنا إنما تحصُل هذه المشيئاتُ فينا بمشيئةِ الله الأزليّة، أي أنّ الله تعالى شاءَ هذه المشيئات التي تحدُث فِينا التي تتَنفّذ منها والتي لا تتَنفّذ، أمّا ما شاءَ الله تعالى أن يتَنفّذَ فلا بُدّ أن يتَنفّذ أمّا مشيئاتنا فهي قسمانِ قِسمٌ منها شاء اللهُ وجودَها وحصولها منّا ونَفاذَها، فهذه المشيئاتُ تحصُل مِنّا لا بُدّ وتتَنفّذ ومشيئاتنا التي شاءها اللهُ تعالى أن تحصلَ منّا مِن غيرِ أن تتَنفّذَ فلا بُدَّ أن تحصلَ هذه المشيئاتُ، أمّا تنَفُّذُها فإن لم يشإ اللهُ أن تتَنفّذ فلا تتنَفّذ، هذا معنى قولِ سيّدنا عليّ “وإليه المشيئة” معناه ليسَ مشيئة الله تعالى متأخِّرةً عن مشيئةِ العبادِ بل مشيئةُ الله هيَ السّابقةُ ولا تحصلُ مِنَ العباد مَشيئةٌ إلا بمشيئتهِ الأزليّة، هذا معنى قولِ سيّدِنا عليّ ” وإليهِ المشيئة “، فمَن تأمّلَ في أمرِ سيّدِنا عليّ وتحقّقَ عَلِمَ أنّ عليّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه هو أُوتيَ عِلْمًا كبيرًا وبَلاغَةً في القَولِ وفصَاحةً في التّعبِير فسُبحانَ الله الذي خَصّه بما شاء.

والصّحابةُ رِضوانُ اللهِ علَيهِم كانوا يَعرفونَ لهُ، حتى عمر بن الخطاب رضي عنه يقولُ “نعُوذُ بالله مِن مُعضِلَةٍ ليسَ لها أبو الحسن ” معناه أن عمرَ يَوَدُّ أنْ يكونَ عليّ بن أبي طالب معهُ إذا حصلَت أيّةُ مُعضِلة أي أيّةُ مشكِلة لأنّهُ أُوتي في ذلكَ خصُوصيّةً، الله تعالى أعطاهُ خصُوصيّةً ولا سيّمَا في عِلْم القَضاء أي المسائل التي تقعُ بالمخَاصَمات التي يترافَعُ الناسُ مِن أجْلِها على القضاءِ الشّرعي، ولم تكن قُوّتُه في عِلم الدّين خاصّةً بالمسائلِ القضَائيّة بل في سائرِ المسائلِ كانَ أُوتيَ قُوّةً كبيرةً، هذه العبارةُ “عظيمةٌ ” ببلاغتِها وهي قولُه وإليهِ المشيئة، قدَّم قولَه “إليه” وأخَّر ” المشيئة” حتى يُفيدَ التّعميم والشُّمُول، أي أنّهُ لا يحصُل شَىءٌ ولا يَدخُلُ في الوجُودِ شىءٌ إلا بمشيئةِ الله الأزليّة، وفي طَيّ ذلكَ أنّ مشيئاتِ العِباد كلّها بمشيئةِ الله أي أن العبادَ لا يشاؤون شيئًا إلا أن يكونَ الله شاءَ في الأزل مشيئتَهم، هذا شَرحٌ لقولِ الله تعالى ” وما تشاؤونَ إلا أن يشَاءَ الله ” قالَ رضي الله عنه ” وبهِ الحَولُ والقُوّة ” الحَولُ هو التّحَفّظُ عن الشّر والقُوّةُ هوَ القُوّة على فِعلِ الخير، يقول رضي الله عنه القوّةُ على فعلِ الخير التي تحصُل في العباد فهيَ باللهِ تبارك وتعالى أي بتَخليق الله وإرادتِه ومشيئتِه وعِلمِه وتقديرِه وتوفِيقِه، هَذا التّحفُّظ مِنَ الرّذائل والمعاصي والقَبائح للعبادِ إنما هو باللهِ أي بتقديرِ الله وتخليقِه يحصُل وإلا فلا يحصُل شىءٌ للعبادِ مِنَ التّحفّظِ عن الرذائلِ والمعاصي، معناهُ كلُّ مَن يتَحفّظُ عن الرذائل والمعاصي فهو بعَونِ الله ومشيئتِه وعِلمِه وتَوفيقِه، الملائكةُ عُصِمُوا مِنَ المعاصي بعِصمةِ الله ليسُوا هُم مالِكينَ لأنفُسِهم هذا الأمرَ مِن دونِ الله، كذلكَ الأنبياءُ إنما عِصمَتُهم هذه بالله تبَارك وتعالى أي أنّ الله تعالى خلَق فيهِم هذه القُوّةَ فحُفِظُوا وعُصِمُوا بالله حُفِظُوا وعُصِمُوا، لا أحَدَ مَعصُومٌ عن المعاصي والرّذائل بذَاتِه مِن دونِ الله بل كلُّ مَن كانَ بهذه الصِّفّةِ فهو بعِصمَةِ الله تعالى، هذا مَعنى “وبهِ الحَولُ ” أي بالله تعالى يحصُل الحولُ أي التّحَفُّظ منَ المعاصي والرّذائل، وأمّا قولُه ” والقُوّة ” فمعناهُ لا أحَدَ مِن خَلقِ الله يَقوَى على فِعْلِ الخير والحسَناتِ والفضَائل إلا بعَونِ الله، فكُلُّ مَن عمِلَ حسَنةً على اختِلافِ مَراتبِهم في ذلك، كُلُّ ذلكَ  بعَونِ الله تبارك وتعالى، معناهُ أنّ العبادَ لا يَستَغنُونَ عن الله في حالٍ مِنَ الأحوال وكلٌّ مِنَ العبادِ الله تبارك وتعالى لهُ الفَضلُ والمِنّةُ فيما يحصُل منهُم مِنَ الخَير والفضَائل لأنّ ذلكَ لم يكن يحصُل منهُم لَولا عَونُ الله تعالى، قال ” إنّ الله خلقَ كُلّ شَىءٍ بقَدَر حتى العجزُ والكيس وإليهِ المشيئة وبهِ الحولُ والقُوّة ” هذا لفظُ سيِّدِنا عليّ وهوَ مأخوذٌ مقتَبَسٌ مِنَ القرآنِ والحديثِ، أحاديثِ النبي، أمّا الجُزءُ الأوّل ” إنّ اللهَ خلَقَ كُلّ شَىءٍ بقَدَر حتى العَجز والكَيس ” هو قَريبٌ مِن لفظِ الحديث الذي رواه مسلمٌ والبيهقي وغيرهما عن رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم  ” كُلّ شىءٍ بقَدَر حتى العجزُ والكيس ” ويجوزُ القراءةُ بالجرّ حتى العَجزِ والكيسِ، هذا في صحيح مسلم وكتابِ الأسماء والصفات للبيهقيّ وغيرِ ذلكَ مِن كتُبِ الحديث، اللفظُ المرويُّ عن رسول الله بدون “إن”، ليسَ عينَ هذا اللفظ الذي قالَهُ سيّدنا عليّ لكن كأنهما شىءٌ واحِد لأنّ المعنى لا فَرقَ فيهِ بينَ هذا وهذا، اللفظُ المرفوع للرّسول واللفظُ الذي قالَهُ سيِّدُنا علي مِن حيث المعنى واحِدٌ، أمّا ما بعدَ ذلك ” وإليهِ المشيئة ” هذه ما وردَت في الأحاديثِ المرفوعة بهذا اللفظِ لكن معناهُ ورَد في القرآن الكريم ” وما تَشاؤونَ إلا أن يشَاءَ الله “، المعنى أنّ مَشيئاتِ العباد أي وسائر ما دخَل في الوجودِ وما سيَدخُل في الوجود فهو بمشيئةِ الله الأزليّة.

وأمّا الجزء الأخيرُ وهو “وبه الحولُ والقوّةُ ” هذا اللفظُ لم يَرِدْ مَرفوعًا إلى رسولِ الله لكن ورَد فيما ثبَتَ عن رسولِ الله وهو قول ” لا حَولَ ولا قوّةَ إلا بالله “

هذا عن رسول الله ثابِتٌ صحيحٌ مشهور، وعبارةُ سيِّدِنا عليّ وبهِ الحَولُ والقُوّة ترجع إلى الحديث، فكُلّ هذه الجُمَل مأخوذةٌ مِنَ القرآن والحديثِ بعضُها باللفظ وبعضُها بالمعنى.

قال البيهقيّ أخبرَنا أبو عبد الله الحافظُ قال أخبرنا أبو الطيّب يوسُف ابنُ أحمدَ الدَّيْرعَاقُولي قال أخبرنا أبو القَاسم حمزةُ بنُ القاسم السَّمسَار قال حدثنا الصّلتُ بنُ الهيثم الضَّرير قال حدّثنا الحسنُ بنُ عليّ الشَّعراني قال حدّثنا أبي قال حدثَنا أبو جعفر محمدُ بنُ عليّ الباقِر عن أبيهِ قال قال أبي الحسين بنُ علي بنِ أبي طالب رضي الله عنه ” واللهِ ما قالَتِ القَدريّةُ بقول الله ولا بقولِ الملائكة ولا بقَولِ النّبيّين ولا بقولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقولِ أهلِ النارِ ولا بقَولِ صاحبِهم إبليس”، القَدريةُ همُ المعتزلة يقالُ لهم القَدريّة لأنهم يَنفُون تقديرَ الله تعالى لما يحصُل مِن أعمالِ العباد مِنَ المعاصي والمكروهاتِ قالوا الله تعالى ما شاءَ في الأزل ما يحصُل مِنَ العباد مِنَ المعاصي والمكروهات فكلُّ ما يحصُل مِنَ المعاصي والمكروهات بدونِ مشيئة اللهِ وأمّا ما يحصُل مِنَ العباد منَ الحسناتِ فهيَ بمشيئةِ الله، هؤلاء همُ القدَريّة.

سأل أحدُهم هل يقال هؤلاء ألعَن من إبليس؟

ج: ليسُوا أَلعَن مِن إبليس، لكن معناهُ إبليس أفقه منهُم في هذه المسئلة، وهو أخُوهم لكن هوَ طلَع أفهَم منهم في هذه المسألة.

يقول سيّدنا الحسين بنُ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما  “واللهِ ما قالتِ القَدريّةُ بقولِ الله ولا بقَولِ الملائكة ولا بقولِ النّبيّينَ ولا بقولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقولِ أهل النّار ولا بقَولِ صاحِبهِم إبليس”، لأنهم أتباعُه معَ ذلكَ هوَ فهِمَ هذهِ المسألةَ وهم لم يَفهَمُوا خَالفُوه في الفَهم، فقال الناسُ لسيّدِنا الحسَين رضيَ الله عنه تفَسّرُه لنا يا ابنَ رسولِ الله، هذا الكلامُ اشرَحْه لنا، فقال قالَ الله عزّ وجلّ :“واللهُ يَدعُو إلى دار السّلام ويَهدِي مَن يشَاء” الآيةَ، المعتزلةُ خالَفُوا الله تعالى في قولِه هذا، المعتزلةُ قالوا العبدُ خَلَق الحسَناتِ وعمِلَها فصارَ فَرضًا على الله أن يُدخِلَهُ الجنّةَ ليسَ هذا فضلاً منَ الله، معناهُ أنّ الله مديُونٌ للعباد بأنْ يُدخِلهُم الجنّة، الله تعالى فَضلاً منه يُدخلُهم الجنّة لأنّ الله تعالى هو الذي خَلقَهُم وهو الذي ألهمَهُم أعمالَ الخَير وهو الذي خلَقَ فيهم هذه الجوارحَ وهو الذي خلَق فيهم العقلَ الذي ميَّزُوا به بينَ الحقِّ والباطل وبينَ الحسَنِ والقبِيح وهو الذي خلَقَ هذه الجنّةَ، فدُخُولُ الصّالحينَ هذه الجنّةَ ليسَ فَرضًا على الله ليسَ الله مَديونا لهم بل هو متفَضّلٌ متَكرّم هذا معنى كلامِ سيّدِنا الحسين، كذلكَ الله تبارك وتعالى لما قال “ويَهدِي مَن يشاء” أفهمَنا أنه لا يَهتَدِي أحدٌ إلا بمشيئتِه الأزليّة، وهم يَنفُونَ عن الله الصِّفات، عندَهم الله تعالى لا يقالُ له إرادةٌ له عِلمٌ له سمع لهُ بصَرٌ له كلامٌ يَنفُونَ هذا، يقولونَ هو قادرٌ بذاتِه عالمٌ بذاتِه، أحيانًا يقولُون عالمٌ لذاتِه قادرٌ لذاتِه لا بعِلم وقدرةٍ، خالَفُوا الآيةَ كما قال سيّدُنا الحسين، خالفُوا بأكثرَ مِن وجه.

ج:بعدَ وفاة الرسولِ بزمانٍ ظهَر المعتزلةُ، الصحابةُ كانَ آخرُهم موتًا قُرب مائةِ سنة مِنْ هِجرة الرسولِ فلَم يَبقَ أحَدٌ مِن أصحابِ الرّسولِ بعدَ مائةٍ وعَشرِ سنِينَ كلُّهم انقَرضوا، لم يَقبَل رأي المعتزلةِ أحَدٌ مِنَ الصحابة، كلّ كلامِ الصّحابة ضدّ كلام المعتزلةِ وممن أظهَر منهم البراءةَ عبدُ الله بنُ عمر بنِ الخطاب رضي الله عنهما، لما أُخبِر بأنّ أُناسًا يقولونَ كذا مِن مقالةِ المعتزلةِ قالَ أَعلِمُوهُم أني بَريءٌ منهم وهم بُرءاءُ مِني، نَفَرَ منهُم نفُورًا كبيرًا ثم في ذلكَ الزّمَن ما كانوا يتَجَرّؤن على أن يقُولوا العبدُ يخلُق أفعالَ نفسِه إنما كانوا يقولونَ يَجعَلُ أفعالَ نفسِه وكانوا يقولونَ يُوجِدُ بدَلَ يَخلُق، إنما تجرّؤا على التّصريح بالعِبارة بعدَ ذلك بزمانٍ، صاروا يقولون بجُرأةٍ العبدُ يخلُق أفعالَ نفسِه الاختياريّةَ لكن يقولونَ تمويهاً على النّاس بقُدرةٍ خلقَها اللهُ فيهم، وقَصْدُهم بذلكَ أنّ الله تعالى أعطاهُمُ القُدرةَ ثم هو صارَ لا تصَرُّفَ لهُ فيهم فلَم تكن لهُ قُدرَةٌ على خَلقِ حرَكاتهِم وسَكناتهِم، همُ المستَبدُّونَ بأن يَخلُقوا حرَكاتهِم وسَكناتهِم، فالمعتزلةُ بقَولهم هذا زادُوا ضلالاً، أمّا لَو كانوا يقولونَ كما يقولُ أهلُ السّنةِ أنّ العبادَ يفعَلُونَ، يكتَسِبونَ أفعالهم بقُدرةٍ خلَقها الله فيهم فهذا عينُ الحقِّ.