كُلُّ ما يجري في الكونِ مِن خَيرٍ أو شرٍّ كُلُّ ذلك بخَلقِ الله ومشيئتِه
قال شيخنا رحمه الله
ونَذكُر الآنَ أثرًا عن سيّدِنا عليّ رضي الله عنه قال :” إنّ أحَدَكُم لنْ يَخلُصَ الإيمانُ إلى قَلبِه حتى يَستَيقِنَ يَقينًا غَيرَ ظَنّ أنّ مَا أصَابَهُ لم يكن ليُخطئهُ وأنّ ما أخطأَهُ لم يكن ليُصِيبَهُ ويُقِرَّ بالقَدَرِ كُلِّهِ ” معناهُ لا يجوزُ أن يؤمَنَ ببَعضِ القَدَر ويُكفَرَ ببَعضٍ بل يجبُ على كلّ مسلِم أن يؤمِنَ بأنّ كلَّ ما يجري في الكونِ مِن خَيرٍ أو شرٍّ ضَلالةٍ أو هُدى عُسْرٍ أو يُسْر حُلوٍ أو مُرّ كُلُّ ذلك بخَلقِ الله ومشيئتِه حدَث وكانَ ولَولا أنّ الله تعالى شَاءهُ وكوّنَهُ وخلَقَهُ ما حصَلَ ،هذا معنى كلامِ سيِّدِنا عليّ رضي الله عنه، وفيه تَصريح بأنّ كلَّ ما يحدُث في الكونِ مِن خَيرٍ وشَرّ بلا استثناءٍ فهو بمشيئةِ الله وتقديره وتَكوينِه.
هذا أثرٌ ثَانٍ عن سيّدنا عليّ رواهُ الشَّعبي، رواه أبو حنيفةَ عن الهيثم عن الشَّعبيّ عن عليّ أنّهُ خطَبَ النّاسَ على مِنبَرِ الكُوفةِ، هو سيّدنا عليّ رضي الله عنهُ كانَ بَعدَما استُخلِفَ بالمدينةِ ذهَب إلى العراق فسَكَن الكُوفةَ، خَطَب الناسَ على مِنبَر الكوفة فقال :” ليسَ مِنّا مَن لم يؤمِن بالقَدَر خَيرِهِ وشَرّهِ ” معناهُ الذي لا يؤمِنُ بالقَدرِ كُلّه خَيرِه وشَرّه لا يُعتَبر مسلِمًا.
لأنّ هذا يَرى أنّ للعَالَم مُدبّرَين مُدبّرُ خَيرٍ ومُدبّرُ شَرّ وهذا خِلافُ التّوحِيد، لا يجوزُ عَقلا ولا نَقلا أن يكونَ للعَالَم مُدبّران إلا مُدبّرٌ واحِدٌ هوَ يَخلُق جميعَ ما يَجري في الكونِ، يُكوّنُ ويُحدِثُ مِنَ العَدَم إلى الوجُودِ بمشيئته وتَقديرِه.
وأثرٌ ثالثٌ عن عليٍّ رضي الله عنه، يَرويْه عبدُ الرحمن بنُ كَعْبِ بنِ مَالِك عن عليّ بنِ أبي طالب أمير المؤمنين قال ذُكِرَ عندَهُ القَدَرُ يَومًا، ذُكِرَ عندَه أي عندَ عليّ القَدَرُ يومًا فأَدخَلَ إصْبَعَهُ السّبّابَةَ والوُسطَى، أدخَلَهما في فِيْهِ، أي مَسّهُمَا برِيقٍ، فَرقَم بهما باطِنَ يدِه، فقال “ أشهَدُ أنّ هاتَين الرّقْمَتين كانَتا في أمّ الكِتاب “، يريدُ بذلك أنّ كلَّ حرَكةٍ وسكونٍ يَفعَلُها الإنسان هيَ مما كُتِبَ في اللوح المحفوظِ إن كانت للخَيرِ وإن كانت للشّر، أهلُ الحقِّ الصّحابة لا يَستَثنون، لا يقولونَ ما كانَ مِن طاعةٍ فبخَلق الله وتقديرِه ومشيئتِه وما كانَ منْ معصيةٍ فليسَ بخَلق الله وتقديرِه ومشيئتِه، عندَهم لا تفريقَ فمَن أرادَ أن يكونَ على ما كانوا عليه اعتقَد اعتقادَهم، ومعنى قولِ سيِّدِنا عليّ في أمّ الكتاب أي في اللّوح المحفوظ.
س: قيل عن لسان الرسول بأنّه سيَبعَث الله كلَّ مائةِ عام مَن يجدّدُ هذا الدّين، ما معنى التّجديد هنا.
ج: معنى ذلكَ أنّ الرّسولَ أَعلَمَه الله بأنّهُ يحصُل في أُمتّه تغَيّرُ أحوالٍ فأكرَمهُ الله تعالى بأنْ يجعَلَ لأمّتِه على رأس كلّ مائةِ سنةٍ مَن يُجدّدُ لأمّتِه دِينَهُم، وكيفَ يكونُ التّجديد، التّجديد يكونُ برَدّ الشُّبَه عن دينِ الله تعالى ودَحضِ تَشكِيكاتِ المشَكِّكِين بالبَيان والسُّلْطة، أو بالبَيان فقط، وظيفَةُ هذا المجدِّد توضيحُ الحقّ وكَشفُ الشّبُهات ودَفع التّشكيكاتِ التي تُحاكُ حَولَ الدّين منَ الأعداء والمبتَدِعين، ثم قَد يكونُ هو ذا سُلطَة كعمرَ بنِ عبد العزيز هذا كانَ في رأس المائةِ الأولى، عمرُ بنُ عبد العزبز حَطّم البِدَع والضّلالات وأوصَل الحقوقَ إلى أصحابها وأبطَل الظُّلمَ والاستِبدادَ الذي كانت الأمّة تُعانيْه عشَراتٍ مِن السّنِين قَبْلَه، أليسَ كان يُلعَنُ سيّدُنا عليّ على المنَابِر مِن قِبَلِ بَني أُمَيّة هو أبطَلَه وكذلكَ دَحْض شُبه المبتَدِعة الضّالين، هؤلاءِ المعتزلة كانَ لهم رئيسٌ يُقال له غَيلان بنُ مَروان مِن دِمَشق هو هذَا استَدعاه عمرُ بنُ عبد العزيز لما سمِع بأنّهُ يَدعُو إلى مذهب الاعتزال، فعرَض عليه أن يَرجِع عن هذا، استتابَهُ فأظهرَ التّوبةَ ولَولا ذلك لقتَله، لو استَمرّ على ذلك لقتلَه، إلى غيرِ ذلك منَ الإصلاحات ودَفع الشُّبَه التي كانت تُحَاكُ حولَ الإسلام، أمّا بعدَه كانَ سيّدُنا الإمام الشّافعي قامَ بخِدمةٍ كبِيرةٍ للدِّينِ كانَ يَدحَضُ المبتَدِعة وتَشكيكاتهم وتمويهاتهم على أهلِ الحقّ ونَوّر بصائر كثيرٍ بما فتَح الله عليه مِنَ الاجتهاد في الدّين فقَوّم عِوجًا كثيرًا وأَزالَ عِوَجَ الكثيرِ، ثم بَعدَهُ على ما قالَ بعضُ العُلماء رجلٌ آخرُ شافِعيّ اسمُه ابنُ سُرَيج على رأس المائةِ الثّالثة ثم على رأسِ المائةِ الرّابعة كانَ رجُلٌ مِن أكابرِ العلماءِ مِن أهلِ التّقوى والورَع يُقالُ لهُ سَهلُ بنُ محمد بنِ سُليمان، ثم بَعدَه على رؤوس القرُونِ التي بَعدَ ذلك حدَث أُناسٌ نفَعَ الله بهم المسلمينَ وخَدَموا الدّين، ليسَ مِن شَرطِ هذا المجدّد أنْ يكونَ صاحبَ سُلطَة بل قَد يكون صاحبَ سُلطة وعِلم وتَقوى وقَد يكونُ صاحبَ عِلم بلا سُلطةٍ كالشّافعي، الشافعيّ ما كانَ مِن أهلِ السُّلطةِ ما تولّى القضَاءَ فَضلا عن الوَزارات، كذلكَ هذا الإمام أبو الطيّب سهلُ بنُ محمّد لم يكن ممن باشَر وزارةً أو قضَاءً أمّا ابنُ سُرَيج كان قاضِيًا، كانَ عالماً تقيًّا، أمّا المهدِيُّ فهو يجمَعُ بينَ الأمرَين، السّلطَةِ والتّقوى والعِلم الجَمّ.