بسم الله الرحمن الرحيم
التَّــقوى و الاجتِهــادُ
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ لَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحسَنُ وصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِهِ وصَحبِهِ الطّاهِرينَ.
أَمّا بَــعدُ فَإِنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالى قالَ في كِتابِهِ الـعَزيزِ: ﴿وَاتّقُوا اللهَ وَيُعَلّمُكُم الله﴾ سورة البقرة /282. هذِهِ الآيةُ يَذهَبُ بَعضُ النَّاسِ في فَهمِها إِلى غَيرِ ما أُريدَ بها. فَيَجِبُ مَعرِفَةُ المَعنى المُرادِ لِيَحذَرَ ذَلِكَ المعنى الّذي هُو غَيرُ مُرادٍ عِندَ أَهلِ المعرِفَةِ، فَمَعناها الصَّحيحُ الحقيقيُّ الأَمرُ للعِبادِ بِأَنَّ يَتَّقوا رَبهُم.
ومَعنى “اتِّقاءُ اللهِ تَعالى” لَيسَ مجرَّدَ القِيامِ بِصورَةِ الصَّلاةِ وصورَةِ الصِّيامِ والزَّكاةِ والحَجِّ وكَثرَةِ التَّرَدُّدِ إِلى المساجِدِ وكَثرَةِ التِّلاوَةِ للقُرءانِ، إِنما التَّقوى عِبارِةٌ عَن أَمرٍ عَظيمٍ شاقٍّ على النُّفوسِ، فَهِيَ وإِن كانَت كَلِمَةً مُوجَزَةً خَفيفَةً على اللِّسانِ لَكِنَّها ثَقيلَةٌ في المعنى، وذَلِكَ لأَنها تَشمُلُ أَداءَ ما افتَرَضَ اللهُ على عِبادِهِ كُلِّهِ واجتِنابَ ما حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِم كُلِّهِ. فَالأَمرُ الّذي افتَرَضَهُ اللهُ على العِبادِ مِنهُ أَعمالٌ قَلبِيَّةٌ ومِنهُ أَعمالٌ بَدَنِيَّةٌ ومِنهُ عِلمٌ ومِنهُ عَمَلٌ؛ لَيسَتِ التَّقوى مجرَّدَ القِيامِ بِصُوَرِ الأَعمالِ مِن صَلاةٍ وصِيامٍ ومُلازَمَةِ مَسجِدٍ وحَجٍّ وإِكثارِ الصَّدَقاتِ، بَل التَّقوى مَدارُها على أَمرَينِ عَظيمَينِ، أَحدُهما أَن يُؤدِيَ العَبدُ ما افتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ مِن أَعمالِ القَلبِ وأَعمالِ البَدَنِ. فَأَمّا أَعمالُ القَلبِ فَهِيَ مَعرِفَةُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى ومَعرِفَةُ رَسولِهِ، أَي الإِيمانُ بهما إيمانًا جازِمًا بِلا تَرَدُّدٍ ولا تَشَكُّكٍ، وكَذَلِكَ العِلمُ بما بَعدَ ذَلِكَ مِن أُصولِ العَقيدَةِ كالإِيمانِ بملائِكَةِ اللهِ والإِيمانِ بِرُسُلِهِ والإِيمانِ بِاليَومِ الآخِرِ أَنّهُ لا بُدَّ مِنهُ بِأَن يُحشَرَ النَّاسُ بِأَجسادِهِم وأَرواحِهِم بَعدَ إِعادَةِ الأَجسادِ الّتي بَلِيَت، أَي أَكَلَها التُّرابُ لَيسَ مجرَّدَ عَودِ الرُّوحِ، فالمَعادُ الرّوحانيُّ لا يَكفي اعتِقادُهُ، بَل لا بُدَّ مِن اعتِقادِ المَعادِ الجِسماني والمَعادِ الرّوحاني، أَمّا الجِسمُ فَإِنّهُ يُعادُ بَعدَ أَن انعَدَمَ.
اللهُ تَبارَكَ وتَعالى الّذي بَدَأَهُ قادِرٌ على أَن يُعيدَهُ بَعدَ الفَناءِ، وأَمّا إِعادَةُ الرُّوحِ فَالرُّوحُ مُنذُ انفَصَلَت مِنَ الجَسَدِ بِالمَوتِ لم تَزَل مَوجودَةً، هِيَ باقِيَةٌ خُلِقَت للبَقاءِ، إِنما الفَناءُ الّذي يُصيبُ الإِنسانَ هُو مُفارَقَةُ الرُّوحِ الجَسَدَ، هذا الّذي لا بُدَّ مِنهُ لِكُلِّ إِنسانٍ، الأَنبياءُ والشُّهَداءُ وغَيرُهُم، أَمّا في ما بَعدَ ذَلِكَ فَالرُّوحُ لا تَزالُ باقِيةً، اللهُ تَعالى خَلَقَها للبَقاءِ فأَمّا الأَجسادُ فَقِسمانِ:
قِسمٌ خَلقَها اللهُ تعَالى للبِلى أَي يَتَسَلَّطُ عَلَيها التُّرابُ فَتَنعَدِمُ، وقِسمٌ مِنها خَلَقَها الله للبَقاءِ كأَجسامِ الأَنبياءِ والشُّهداءِ الّذينَ ماتوا في قِتالِ الكُفّارِ ومَن أَرادَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لهم ذَلِكَ مِن أَولِيائِهِ وخاصَّةِ خَلقِهِ.
وأَصلُ الأُمورِ الواجِبَةِ العِلمِيَّةِ أَي الأَصلُ الّذي لا بُدَّ مِنهُ لِصِحَّةِ الإِسلامِ والإِيمانِ هُو مَعرِفَةُ اللهِ ورَسولِهِ، هذا أَساسُ الدِّينِ الّذي لا يَكونُ الإِنسانُ مُؤمِنًا ولا مُسلِمًا بِدونِ ذَلِكَ، فَمَن حَصَلَت لَهُ هذِهِ المعرِفَةُ جازِمًا بها مِن غَيرِ تَرَدُّدٍ ولا تَشَكُّكٍ فَهُو مُسلِمٌ مُؤمِنٌ لكنَّهُ لا يَكونُ مُسلِمًا كامِلاً إِلاّ بَأَداءِ جميعِ ما افتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ واجتِنابِ جميعِ ما حَرَّمَهُ عَلَيهِ. قالَ بَعضُ العُلَماءِ “العِلمُ أَوَّلاً ثمَّ العَمَلُ” وذَلِكَ لأَنَّ العِلمَ يَشمُلُ العِلمَ بِاللهِ أَي مَعرِفَةَ اللهِ، والعِلمَ بِرَسولِهِ أَي مَعرِفَةَ رَسولِهِ، لِذَلِكَ قالوا: العِلمُ قَبلَ العَمَلِ، لأَنَّ العَمَلَ لا يَصِحُّ بِدونِ عِلمٍ. لِذَلِكَ قالَ اللهُ تَبارَك وتَعالى: ﴿فَاعْلَمْ أنّهُ لاَ إلهَ إلاَ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَللْمُؤمِنِينَ﴾[سورة محمد /ءاية 19]الآية .
قَدَّم ذِكرَ العِلمِ، والعِلمُ هُنا شامِلٌ للعِلمِ بِأُصولِ العَقيدَةِ، وأَصلُ العَقيدَةِ هُو مَعرِفَةُ اللهِ، ويَقتَرِنُ بِذَلِكَ مَعرِفَةُ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ. ومِن جملَةِ ما افتَرَضَ اللهُ على عِبادِهِ، تَعَلُّمُ هذا العِلمِ الّذي فَرَضَهُ اللهُ على العِبادِ، وهُو عِلمُ أُصولِ الدِّينِ، وعلِمُ الأَحكامِ كمَعرِفَةِ أَحكامِ الصَّلاةِ لأَدائِها على الوَجهِ الصَّحيحِ المُوافِقِ لما أَمَرَ اللهُ بِهِ، وسائِرِ الأَعمالِ الّتي لا يَستَغني عَنها المُسلِمُ لكونِها فَرضًا عَينِيًّا على كُلِّ مُكَلَّفٍ. فَمَن تَعَلَّمَ أُصولَ العَقيدَةِ، وتَعَلَّمَ عِلمَ الدِّينِ الضَّرورِيَّ المُتَعَِّلقَ بالعَمَلِيّاتِ، بِالعِباداتِ العَمَلِيَّةِ، كَأَمرِ الصَّلاةِ … واجباتِها ومُبطلاتِها، وأَحكامِ الصِّيامِ…واجِباتِهِ ومُبطلاتِهِ، فَهذا قَد قامَ بِبَعضِ ما افتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ.
فَمَعنى قَولِهِ تَعالى: ﴿وَاتَّقوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ سورة البقرة /آية 282/ أَدُّوا ما افتَرَضتُ عَلَيكُم مِن عِلمٍ وعَمَلِ وتجنَّبوا ما حَرَّمتُ عَلَيكُم مِن أَعمالِ القُلوبِ وأَعمالِ البَدَنِ.
فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ يُكرِمُهُ اللهُ تَبارَك وتَعالى بِالعِلمِ الّذي هُو العِلمُ اللدُنّي. فَالعَبدُ المؤمِنُ إِذا تَعَلَّمَ ما افَتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ مِنَ العِلمِ الضَّرورِيِّ في دِينِ الله وعَمِلَ وصَدَقَ في عَمَلِهِ، عَمِلَ بِإِخلاصٍ كَما أَمَرَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عِندَئذٍ يَكونُ أَهلاً للعِلمِ اللدُنّي، وهُو العِلمُ الّذي يُفاضُ على القَلبِ، على قَلبِ العَبدِ المؤمِنِ التَّقِيِّ، أَمّا مِن دونِ ذَلِكَ، أَي مِن دونِ أَداءِ جميعِ ما افتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ بما فيهِ مِن عِلمِ الدِّينِ الضَّرورِيِّ فَلَيسَ للعَبدِ حَظٌّ في هذا العِلمِ اللَّدُنّي.
كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعيشونَ في غُرورٍ، لا يَتَعَلَّمونَ العِلمَ الضَّرورِيَّ مِن عِلمِ الدِّينِ لَكِنَّهُم يَقومونَ بِصُوَرِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والزَّكاةِ والحجِّ ويَتَرَدَّدونَ إِلى المساجِدِ ويُكثِرونَ مِنَ الصَّدَقاتِ ويَظُنّونَ مَع جَهلِهِم بِعلمِ الدِّين الضَّروريِّ، يَظُنّونَ بِأَنفُسِهِم أَنهم صاروا أَهلاً لِلعِلمِ اللَّدُنّي بِلا تَعَلُّمٍ، وأَنَّ العِلمَ اللَّدُنّي يَأتي بِلا تَعَلُّمٍ، هَؤلاءِ يَظُنّونَ بِأَنفُسِهِم أَنهم صاروا أَهلاً لِذَلِكَ العِلمِ، يَقولونَ نحنُ نُلازِمُ الصَّلواتِ والصِّيامَ والزَّكاةَ ونَتَصَدَّقُ ونُكثِرُ القِراءَةَ والذِّكرَ وقَد انتَسَبنا إلى الطّريقَةِ الفُلانِيَّةِ فَنَحنُ صِرنا أَهلاً للعِلمِ اللَّدُنّي، فَيَزعُمونَ لأَنفُسِهِم أَنهم صاروا أَهلاً للمُكاشَفاتِ بأَسرارٍ خَفِيَّةٍ يُطلِعُ اللهُ عَلَيها أَولياءَهُ، فَهَؤلاءِ في غُرورٍ يُؤدّي بهم إلى الهَلاكِ العَظيمِ.
ظَنُّوا أَنَّ تَقوى اللهِ هِيَ عِبارَةٌ عَن القِيامِ بِصورِ الصَّلاةِ والصِّيامِ والحجِّ والزَّكاةِ والإِكثارِ مِن الصَّدَقاتِ والتَّرَدُّدِ إِلى المساجِدِ، يَظُنّونَ أَنَّ هذِهِ هِيَ تَقوى اللهِ، فَهيهاتَ هَيهاتَ أَن يَكونَ هذا ميزانُ التَّقوى، لِذَلِكَ كَثيرٌ ممّن يَنتسبونِ إِلى بَعضِ الطُّرُقِ يَظُنّونَ أَنفُسَهُم صاروا أَهلاً لِذَلِكَ، فَيعتَمِدونَ على أَوهامِهِم وخواطِرِهِم، مَع أَنَّ الأَولياءَ الصّادِقينَ الكامِلينَ الّذينَ سَلَكوا هذا المنهَجَ وهو أَداءُ الواجِباتِ جميعِها واجتِنابُ المحرَّماتِ كُلِّها بما في الواجِباتِ مِن تَعَلُّمِ العِلمِ الدِّينيِّ الّذي لا يَستَغني عَنهُ مُكَلَّفٌ، مَع ذَلِكَ كُلِّهِ لا يَعتَمِدونَ على خواطِرِهِم، بَل يَرُدّون خواطِرَهم ويَزِنونها بميزانِ الكِتابِ والسُنَّةِ، أَي بميزانِ القُرءانِ والحديثِ، فَإِن وافَقَت خَواطِرُهم ذَلِكَ أَي الكِتابَ والسُنَّةَ فَرِحوا بها، وإِن خالَفَت رَدّوها.
هذا الإِمامُ الجُنَيدُ أَبو القاسِمِ البَغدادِيُّ سَيِّدُ الطّائِفَةِ الصّوفِيَّةِ جاءَ عَنهُ أَنّهُ قالَ: “ربما تخطُرُ لي النُّكتَةُ مِن نُكَتِ القَومِ”، أَي يَرِدُ عليَّ وارِدٌ مِن الوارِداتِ الّتي تَرِدُ للأَولياءِ، “فلا أَقبَلُها إِلاّ بِشاهِدي عَدلٍ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ”، أَي أَرجِعُ إِلى الكِتابِ والسُنَّةِ، فَإِن وافَقَ هذا الوارِدُ الكِتابَ والسُنَّةَ أَخَذتُ بِهِ، وإِلاّ فَلا ءاخُذُ بِهِ ومَع ذَلِكَ فَقَد قالَ عُلَماءُ الأُصولِ: “إِلهامُ وَليٍّ لَيسَ بِحُجَّةٍ” أَي أَنَّ الحجَّةَ الكِتابُ والسُنَّةُ، فَالمجتَهِدُ إِذا عَرَفَ أَنَّ مَسئَلَةً مِنَ المسائِلِ الّتي تحدُثُ لَهُ، أَو تحدُثُ لِغَيرِهِ ـ غَيرُ مَنصوصٍ عَلَيها ـ يَستَخرِجُ لها الحُكمَ مِنَ القُرءانِ والحَديثِ على حَسَبِ اجتِهادِهِ وفَهمِهِ الّذي ءاتاهُ اللهُ، فَلَهُ أَن يَعمَلَ لِنَفسِهِ بِاجتِهادِهِ وأَن يُفتيَ لِغَيرِهِ باجتِهادِهِ. هذا في حَقِّ المجتَهِدِ، وأَمّا مَن كانَ دونَ المجتَهِدِ فَليسَ لَهُ ذَلِكَ، أَي لَيسَ لَهُ أَن يُحاوِلَ استِخراجَ أَحكامِ الحادِثاتِ الّتي تحدُثُ لَهُ في خاصَّةِ نَفسِهِ أَو تحدُثُ لِغَيرِهِ فيُستفتَى عَنها، أَن يُفتيَ نَفسَهُ أَو غَيرَهُ ويَكتَفي بِذَلِكَ، لا يجوزُ، لأَنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم بَيَّنَ لَنا أَنَّ الّذين يَسمَعونَ القُرءانَ أَو الحديثَ قِسمانِ: قِسمٌ يَروونَ اللَّفظَ، حَظُّهُم أَن يَرووا اللَّفظَ وهُم أَكثَرُ المسلمينَ.
وقِسمٌ لهم حَظٌّ فَوقَ ذَلِكَ، وهُوَ أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى أَعطاهُم قُوَّةَ ذِهنٍ بحيثُ يَقتَدِرونَ على إِخراجِ مَسائِلَ مِنَ القُرءانِ والحديثِ لَيسَت مَنصوصَةً إِنما القُرءانُ يَدُلُّ عَلَيها مِن طَريقِ الإِشارَةِ والتَّنبيهِ، أَو الحديثُ يَدُلُّ عَلَيها مِن طَريقِ الإِشارَةِ والتَّنبيهِ.
فَالحاصِلُ أََنّهُ لا يجوزُ الاعتمادُ على الخاطِرِ بحيثُ يُتَّخَذُ دليلاً شَرعِيًا بَل المرجِعُ في ذَلِكَ بِالنِّسبَةِ للأَحكامِ الرُّجوعُ إِلى المجتَهِدينَ لمَن لم يَكُن مجتَهدًا.
وأَمّا مَن رَزَقَهُ اللهُ مَرتَبَةَ الاجتِهادِ فَهُو غَنيٌّ عَن تَقليدِ المجتَهِدينَ، لَكِن الّذي يَرزُقُهُ اللهُ الاجتِهادَ لا يخرُجُ عَمَّا أَجمَعَ عَلَيهِ الأَئِمّةُ الّذين مَضَوا قَبلَهُ، لا يخرُجُ عَن مجموعِ أَقاوِيلِهم إِنما غايَةُ ما يَصِلُ إِلَيهِ أَنّهُ يَرى أَنَّ قَولَ المجتَهِدِ الفُلاني أَقوى مِن قَولِ الآخَرينَ بِالنَّظَرِ إِلى وُجوهِ الدِّلالَةِ مِنَ الآياتِ والأَحاديثِ ولَه أَيضًا أَمرٌ ثانٍ، وهُوَ أَنَّهُ يَستَخرِجُ في الحادِثاتِ الّتي لم يَتَكَلَّم عَلَيها الأَئِمَّةُ الماضونَ، أَي لم يُفتوا فيها لا في مُؤلَّفاتهم ولا مُشافَهَةً لِغَيرِهِم، فَهذا الّذي رُزِقَ الاجتِهادُ بَعدَ أُولَئِكَ الأَئِمَّةِ يَستَخرِجُ لهذِهِ الحادِثاتِ التي تحدُثُ لَهُ أَو لِغَيرِهِ، ممّا لم يَسبِق لِلمُجتَهِدينَ الماضينَ الكلامُ فيها، فَيستَخرِجُ لها أَحكامًا مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ، فَهؤلاءِ لا نَقولُ إِنهم مَعدومونَ بَعدَ المائةِ الرّابِعَةِ كَما يَقولُ بَعضُ العُلَماءِ، بَل نَقولُ كَما قالَ بَعضُ الأُصولِيّينَ:” لا تخلو الأَرضُ مِن قائِمٍ للهِ تَعالى بحجَّةٍ” أَي لا تخلو الأَرضُ ممّن أُعطِيَ هذِهِ المرتَبَةَ، مَرتَبَةَ الاجتِهادِ، لَكِن لَيسَ شَرطًا أَن يُعلِنَ عَن نَفسِهِ للنّاسِ ذَلِكَ، لَيسَ شَرطًا، بَل كَثيرٌ مِنهُم يَأتي اجتهادُهم موافِقًا لاجتِهادِ الشّافِعي، أَو اجتِهادِ مالِكٍ أَو غَيرِهِما، فَلا يُعلِنُ عَن نَفسِهِ لأَنَّ اجتِهادَهُ في الغالِبِ لا يخرُجُ عَن اجتِهادِ الشّافِعيِّ أَو اجتِهادِ مالِكٍ أَو اجتِهادِ إِمامٍ ءاخَرَ، فيرى في نَفسِهِ أَنَّ النّاسَ بِغَنى عَنهُ لأَخذِهِم بمذاهِبِ الأَئِمّةِ المتبوعينَ كهذا الإمامِ الشَّافِعيِّ والإِمامِ مالِكٍ وغيرِهما.
فإِذا قالَ لَكُم قائِلٌ: هذا اجتِهادي، وهُو لَيسَ بِأَهلٍ للاجتِهادِ فاعلَموا أَنّهُ مَفتونٌ، يُهلِكُ نَفسَهُ ويُهلِكُ غَيرَهُ، الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ قالَ: “رُبَّ حامِلِ فِقهٍ إِلى مَنْ هُوَ أَفقَهُ مِنهُ ورُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقيهٍ” رَواهُ التِّرمِذِيُّ وابنُ حِبّانٍ. المعنى أَنَّ مِنكُم مَن يَسمَعُ مني فَقَط ولا يَستَطيعُ أَن يَستَخرِجَ الأَحكامَ ممّا يَسمَعُهُ مِنّي، وقَد يَكونُ هذا الّذي يَسمَعُ مِني الحديثَ أَو القُرءانَ حَظُّهُ أَن يُبَلِّغَ غَيرَهُ، وذَلِكَ الغَيرُ يَكونُ أَقوى مِنهُ قَلبًا، أَقوى مِنهُ ذَكاءً، فَيستَطيعُ أَن يَستَخرِجَ الأَحكامَ. بَعضُ الصَّحابَةِ كانَ حَظُّهُم أَن يَرووا الحديثَ للنَّاسِ لِمن لم يرَ الرَّسولَ، يَرووهُ كَما سمِعوهُ، هذا كانَ حَظُّهُم، أَمّا أَن يجتَهِدوا فيسَتَخرِجوا الأَحكامَ ممّا يَسمعونَهُ مِنَ الرَّسولِ فَلا، لَيَس لهم اقتِدارٌ على ذَلِكَ. ثمَّ أُولَئِكَ الّذينَ يُبَلِّغونهم هؤلاءِ الصَّحابَةُ الّذينَ هُم لَيسَ لهم اقتِدارٌ على الاجتِهادِ، مِنهُم مَن أُعطِيَ تِلكَ المقدِرةَ على استِخراجِ الأَحكامِ مِنَ القُرءانِ والأَحاديثِ، هذا معنى قَولِ الرَّسولِ: “فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ ليس بفقيه ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ إِلى مَن هُو أَفقَهُ مِنهُ” فَعَلِمنا مِن هذا الحديثِ أَنَّ مِنَ الصَّحابَةِ مَن لَيسوا مُقتِدِرينَ على الاجتِهادِ، إِنما حَظُّهُم أَن يُبَلِّغوا الحديثَ إِلى غَيرِهِم كما سمِعوهُ. إِذا كانَ هذا في الصَّحابَةِ فما ظَنُّكُم بِأَهلِ عَصرِنا هذا؟ كَيفَ يَدَّعي أَحَدُهُم لِنَفسِهِ أَنّهُ يجتَهِدُ لِيَقولَ: أُولَئِكَ رِجالٌ ونحنُ رِجالٌ كَما اجتَهدوا نجتَهِدُ. أَلَيسَ هذا غُرورًا ظاهِرًا؟ فَلو كانَ مَعرِفَةُ الحديثِ، الاطلاعُ على الحديثِ والآياتِ القُرءانيَّةِ لو كانَ مجرَّدُ ذَلِكَ كافِيًا للاجتِهادِ ما قالَ الرَّسولُ هذا. “رُبَّ حامِلِ فِقهٍ لَيسَ بِفَقيهٍ”: أَي لا يَقدِرُ أَن يجتَهِدَ فَيستَخرِجَ الأَحكامَ، إِنما حَظُّهُ أَنّهُ يَروي ما سَمِعَ، لأَنَّ القَرائِحَ تختَلِفُ، قَريحةٌ أَقوى مِن قَريحةٍ، وهَكَذا النَّاسُ مَراتِبُ، مَراتِبُ في الفَهمِ والذَّكاءِ والحِفظِ، فَلو طالَعَ هذا الّذي لم يُؤتَ تِلكَ القَريحةَ القَوِيَّةَ، لو طالَعَ كُلَّ ما أُلِّفَ في الدُّنيا مِن كُتُبِ عِلمِ الشَّريعَةِ لا يَصِلُ إِلى تِلكَ المرتَبَةِ، مَهما حاوَلَ لأَنَّ قَلبَهُ لَيسَ لَهُ استِعدادٌ لِذَلِكَ. فَمِن أَينَ يِصِلُ؟ نحنُ إِذا إِنسانٌ رُزِقَ تِلكَ المرتَبَةَ لا نُكَذِّبُهُ. لا نَقولُ: لا يَأتي بَعدَ القَرنِ الرابِعِ الهِجرِيِّ مجتَهِدٌ، كما قالَ بَعضُ العُلَماءِ، لا، بَل نُسَلِّمُ لَهُ، إِن كانَ مُستَوفِيًا لِشُروطِ المجتَهِدِ، وإِلاّ فَنُرشِدُهُ إِلى الرُّجوعِ عَن دَعواهُ والتَّوبَةِ مِن ذَلِكَ والتِزامِ فتاوى أَئِمَّةِ الاجتِهادِ الّذينَ سَبَقوهُ.
ثمَّ مِن عَلاماتِ كَونِ الرَّجُلِ كَذّابًا مِن غَيرِ أَهلِ الاجتِهادِ أَن يَأتي بِفتوى هِيَ تخالِفُ جميعَ المجتَهِدينَ الّذينَ سَبَقوهُ، المجتَهِدُ لا يُؤدّيهِ اجتِهادُهُ إِلى الخُروجِ مِنَ الإِجماعِ، إِنما اجتِهادُهُ يُؤَدّي بِهِ إِلى تَرجيحِ اجتِهادِ إِمامٍ على غَيرِهِ، فَيأخُذُ بِهِ ويُفتي بِهِ للنَّاسِ. وقَد يجتَهِدُ في مَسئَلَةٍ لم تحدُث قَبلَ ذَلِكَ في أَيّامِ الأَئِمَّةِ فَيجتَهِدُ فيها، ويَستَخرِجُ لها حُكمًا. فَلا يَعدو أَمرُ المجتَهِدِ هاتَينِ الحالَتَينِ. أَمّا مَن تجاوَزَ هاتَينِ الحالَتَينِ فإِنّهُ مِنَ المخدوعينَ المغرورينَ.
نَذكُرُ مِثالاً لِما يَدُلُّ على أَنَّ القَرائِحَ تختَلِفُ بِالفِطنَةِ، والذَّكاءِ والفَهمِ.كان الشّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عُمُرُهُ نحو أَربَعَ عَشرَةَ سَنَةً أَو خمسَ عَشرَةَ سَنَةً، كانَ يَدرُسُ العِلمَ عِندَ مالِكٍ بِالمدينَةِ المُنَوَّرَةِ، فاتَّفَق أَنَّ رَجُلاً جاءَ إِلى مالِكٍ فاستَفتاهُ قالَ لَهُ: إِني حَلفتُ بِالطّلاقِ أَنَّ هذا القُمريَّ لا يَهدَأُ مِن صِياحٍ. فَنَظَرَ مالِكٌ فَأَدّاهُ نَظَرُهُ واجتِهادُهُ إِلى أَنَّ هذا الإِنسانَ حَنثَ في حَلِفِهِ، فَطَلقَت امرَأَتُهُ، لأَنَّ القُمرِيَّ لا بُدَّ أَن يَهدَأَ مِن صِياحٍ، لَيسَ كُلَّ ساعَةٍ يَصيحُ. فَأفتاهُ بِطلاقِ امرَأَتِهِ. فَعَلِمَ الشّافِعِيُّ بهذِهِ الفَتوى فاجتَهَدَ الشّافِعِيُّ فَلم يوافِقْ عَلَيها قالَ: الشَّخصُ مُرادُهُ بِقَولِهِ إِنَّ هذا القُمرِيَّ لا يَهدأُ مِن صِياحٍ، أَنَّهُ كَثيرُ الصِّياحِ، لَيسَ مَعناهُ أَنّهُ لَيسَت لَهُ فَترَةٌ يَسكُتُ فيها عَنِ الصِّياحِ، وأَنَّ الطّلاقَ لم يَقَعْ على زَوجَتِهِ لأَنّهُ في أَكثَرِ أَحوالِهِ يَصيحُ، وفي بَعضٍ مِنها لا يَصيحُ، فَلَم يحصُلِ الطّلاقُ لأَنّهُ في العُرفِ يُقالُ لَهُ لا يَهدَأُ مِن صِياحٍ فَلَم يَحنِث في حَلِفِهِ، ما انكَسَرَ حَلِفُهُ، قالَ لَهُ لم تَطلُق امرَأتُكَ. هُو الشّافِعِيُّ أَخَذَ هذا الحُكمَ مِن حَديثٍ صَحيحِ الإِسنادِ أَنَّ نَبيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ جاءَتهُ امرَأَةٌ فاستَشارَتهُ للتَّزَوُّجِ بِرَجُلَينِ رَجُلٍ يُقالُ لَهُ أَبو جَهمٍ وَرَجُلٍ ءاخَرَ هو مُعاوِيَةُ بنُ أَبي سُفيانٍ. فَقالَ لها الرَّسولُ مِن بابِ النَّصيحَةِ: “أمّا أَبو جَهمٍ فَلا يَضَعُ العصا عَن عاتِقِه” يَعني أَنّهُ ضَرّابٌ، ضَرّاٌب للنِّساءِ. “وأَمّا مُعاوِيةُ فَصُعلوكٌ، عَلَيكِ بِفُلانٍ” سمّى لها شَخصًا ثالِثًا.
الشّافِعِيُّ مِن هذا الحديثِ استَخرَجَ أَنَّ هذا القُمرِيَّ لَيسَ المرادُ أَنّهُ لا يَهدَأُ بِالمرَّةِ مِنَ الصِّياحِ إِنما المُرادُ أَنّهُ كَثيرُ الصِّياحِ، ما دامَ مُستَيقِظًا الصِّياحُ يَغلِبُ عَلَيهِ، صِياحُهُ يَغلِبُ على سُكوتِهِ، فَلا يحنِثُ هذا الرَّجُلُ الّذي عَلَّقَ طلاقَ زَوجَتِهِ. كَما أَنَّ الرَّسولَ لمّا قالَ: “أَمّا أَبو جَهمٍ فَلا يَضَعُ العَصا عَن عاتِقِه”، ما أَرادَ أَنّهُ في حالِ النَّومِ وفي حالِ الأَكلِ والشُّربِ وفي حالِ الصَّلاةِ يَظَلُّ حامِلاً عَصاهُ على عاتِقِهِ، ما عنى ذلك. إِنما عنى أَنّهُ كَثيرُ الحَملِ للعصا، يَغلِبُ عَلَيهِ حملُ العَصا على عاتِقِهِ، فَالشّافِعِيُّ مِن هُنا استَخرَجَ فَتوى لهذا الرَّجُلِ. فَرَجِع الرَّجُلُ إِلى مالِكٍ فَقالَ لَهُ: إِنَّ ههنا فتى يَقولُ: لم تَطلُق امرَأتُكَ. فَقالَ: عَلَيَّ بِهِ، فَحَضَرَ الشّافِعِيُّ فَقالَ مِن أَينَ قُلتَ ما قُلتَ؟ فَقالَ لَهُ: مِنَ الحديثِ الّذي أَنتَ حَدَّثتَنا أَنَّ فاطِمةَ بِنتَ قَيسٍ جاءَت إِلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ فَقالَت: إِنَّ أَبا جَهمٍ ومُعاوِيَةَ خَطباني فَقالَ الرَّسولُ: أَمّا أَبو جَهمٍ فَإِنّهُ لا يَضَعُ العصا عَن عاتِقِهِ، أَنا مِن هذا الحديثِ أَخَذتُ. فَسَكَتَ مالِكٌ، ما عارَضَهُ لأَنّهُ وَجَدَ مَعَهُ حُجَّةً. هُنا قَريحةُ الشّافِعِيُّ الّذي هو تِلميذُ مالِكٍ أَقوى من قَريحةِ مالِكٍ. أَدرَكَ الشّافِعِيُّ ما لم يُدرِك مالِكٌ، مَع أَنَّ مالِكًا أُستاذُهُ وأَكبرُ مِنهُ سِنًّا، لَكِنَّ العِلمَ مواهِبُ مِنَ اللهِ.
وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.