بسم الله الرحمن الرحيم
تَنْزيهُ اللهِ عَنِ الأَعضاءِ والجـــــــــوارِحِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمين لَهُ النِّعمَةُ ولَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحيمِ والملائِكَةِ المُقرَّبينَ على سَيِّدِنا محمّدٍ أَشرَفِ المُرسَلينَ وعلى جميعِ إِخوانِهِ الأَنبياءِ المُرسَلينَ وسَلامُهُ عَلَيهِم أَجمعينَ.
أَما بَعدُ، فَقَد رُوّيِنا بِالإِسنادِ المُتّصِلِ في كِتابِ القَدَرِ للبَيهقِيِّ رَحمَهُ اللهُ تَعالى أَنّهُ قالَ: مِن طَريقِ الشّريفِ العُثمانيِّ قالَ: سمِعتُ الإِمامَ أَبا الطَّيِّبِ سَهلَ بنَ محمّدٍ يَقولُ: “أَعمالُنا أَعلامُ الثَّوابِ والعِقابِ” هذا الإِمامُ سَهلُ بنُ محمّدٍ أَبو الطَيِّبِ، الحاكِمُ ذَكَرَ في مُستَدرَكِهِ أَنّهُ هو مُجَدِّدُ القَرنِ الرّابِعِ، بَعدَ أَن ذَكَرَ أَنَّ مُجَدِّدَ القَرنِ الأَوّلِ عُمرُ بنُ عبدِ العَزيزِ لأَنّهُ كانَ على رَأسِ المائةِ الأولى ومُجَدِّدُ القَرنِ لا بُدَّ أَن يَكونَ حيًّا على رأسِ المائةِ ثمّ ذَكَرَ أَنَّ مُجَدِّدَ القَرنِ الثّاني كانَ الإِمامَ الشافِعِيَّ محمّدَ بنَ إدريسَ وأَنَّ مُجدِّدَ القرنِ الثّالِثِ الإِمامُ الفقيهُ الشّافِعِيُّ ابنُ سُرَيجٍ رَضِيَ اللهُ عَن الجَميعِ ثمَّ قالَ في الإِمامِ أَبي الطَيِّبِ سَهلِ بنِ محمّدٍ سليمانَ:
والرّابِعُ المشهورُ سَهلُ محمّدِ
أَضحى إِمامًا عِندَ كُلِّ مُوَّحِدِ
كانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ سَهلُ بنُ محمّدٍ مِنَ الأَشعَرِيَّةِ، الأَشعَرِيَّةُ هُم والماتُريدِيَّةُ أَهلُ السُنّةِ والجماعَةِ لأَنَّ هذَينِ الإِمامَينِ ـ أَي الأَشعَرِيَّ والماتُريدِيَّ ـ اعتَنَيا بِتَلخيصِ ما كانَ عَلَيهِ السّلَفُ مِنَ المُعتَقَدِ، كَما أَنَّ كَثيرًا مِنَ الأَعلامِ في الحَديثِ والفِقهِ والتّقوى والوَرَعِ كانوا مِنَ الأَشاعِرَةِ فَمَن يَعرِفُ الحقيقَةَ يَعرِفُ ذلِكَ ومَن يجهَلُها جَهِلَ ذلِكَ.
المُشَبِّهَةُ يُعادونَ الأَشعَرِيَّةَ قديمًا وحَديثًا لأَنَّ مَشرَبَهُم بَعيدٌ عَن مَشرَبِ الأَشعَرِيّةِ، الأَشعَرِيَةُ يُنَزِّهونَ اللهَ عَن مُشابهَةِ الخَلقِ بِأَيِّ وَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، أَمّا المُشَبِّهَةُ فأُشرِبوا حُبَّ التَّشبيهِ، يَقرأونَ قَولَهُ تَعالى: ﴿ لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ ﴾ ” سورة الشّورى /11″ لَفظًا ويُخالِفونَه معنًى. إِنّما ءامَنَ بهذِهِ الآيَةِ مَن نَزَّهَ اللهَ عَن مُشابهَةِ الخَلقِ بِكُلِّ الوُجوهِ كَما قالَ أَبو جَعفَرٍ الطّحاوِيُّ: “وَمَن وَصَفَ اللهَ بمعنًى مِن مَعاني البَشَرِ فَقَد كَفَرَ”.
الجُلوسُ يَستَحيلُ في حَقِّ اللهِ
إِنَّ الَذينَ يَقولونَ إِنَّ اللهَ في جِهَةِ كَذا هَؤلاءِ ما ءامَنوا بِآيةِ ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ ﴾، كذَلِكَ الّذينَ يَقولونَ إِنَّ اللهَ استَوى عَلى عَرشِهِ بمعنى جَلَسَ ثمّ يُتبِعونَ ذلِكَ بِكَلِمَةِ “لا كَجُلوسِنا” هَؤلاءِ لا يَنفَعُهُم قولُهُم “لا كَجُلوسِنا” شَيئًا، هُم شَبَّهوا بِقَولِهِم إِنَّ اللهَ جَلَسَ على العَرشِ، هذا عَينُ التَّشبيهِ، فَبَعدَ هذا لا يَنفَعُهُم قَولُهم “لَكِن لا كَجُلوسِنا” لأَنَّ الجُلوسَ في اللُّغةِ العَرَبيّةِ مَعروفٌ مَعلومٌ ما هو على اختِلافِ كَيفِيّاتِهِ، فالجُلوسُ معنًى مِن معاني البَشَرِ على أَيِّ كَيفِيّةٍ كانَ، ومَن اعتَقَدَ في اللهِ ذلِكَ فَقَد شَبَهَّهُ ويَنطَبِقُ عَلَيهِ قَولُ أَبي جَعفَرٍ الطّحاويِّ: “ومَن وَصَفَ اللهَ بمعنًى مِن معاني البَشَرِ فَقَدَ كَفَرَ”، أَمّا الَذين يَقولونَ للهِ يَدٌ لا كَأَيدينا ويَعنونَ بهذا الكلامِ أَنَّ للهِ يَدًا بمعنى الصِّفَةِ لا بمعنى الجِسمِ والجارِحَةِ، هذا كلامٌ صَحيحٌ، لأَنَّ اللهَ تَعالى أَضافَ لِنَفسِهِ اليَدَ والعَينَ والوَجهَ.
فَمَن اعتَقَدَ أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الصّورَةِ والشَّكلِ والأَعضاءِ فَقالَ بِناءً على هذا الاعتقادِ للهِ يَدٌ لا كأَيدينا، للهِ عَينٌ لا كَأَعيُنِنا، للهِ وَجهٌ لا كَوُجوهِنا فَهو على الصَوابِ.
شَرحُ حَديثٍ:
أَمّا الرِّجلُ ما وَرَدَ على أَنّهُ صِفَةٌ للهِ بَل وَرَدَ على معنًى ءاخَرَ وهو جُزءٌ مِن خَلقِهِ، يُقالُ في لُغَةِ العَرَبِ: رِجلٌ مِن جَرادٍ أَي فَوجٌ مِن جَرادٍ. فَالحديثُ الّذي وَرَدَ فيهِ ذِكرُ الرِّجلِ مُضافًا إِلى اللهِ هو حديثُ أَنَّ اللهَ تَبارَك وتَعالى يَملأُ يَومَ القِيامَةِ جَهَنّمَ بِفَوجٍ مِن خَلقِهِ كانوا مِن أَهلِها في عِلمِ اللهِ تَعالى، لَيسَ أَهلُ النّارِ يَدخُلونَ النّارَ دَفعَةً واحِدَةً كُلُّهُم، لا، بَل يَدخُلُ فَوجٌ ثمّ بَعدَ ذلِكَ فَوجٌ ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ فَوجٌ فَالفَوجُ الأَخيرُ هو الّذي وَرَدَ في الحديثِ: “فَيَضَعُ رِجلَهُ فيها”، رِجلَهُ مَعناهُ الفوجُ الأَخيرَ مِن خَلقِهِ الّذينَ هُم حِصَّةُ جَهَنّمَ، عَن هذا عَبَّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ في قَولِهِ: “يُقالُ لِجَهَنّمَ هَل امتَلأتِ فَتَقولُ هَل مِن مَزيدٍ، فَيَضَعُ الجبّارُ رِجلَهُ فيها فَينْزَوي بَعضُها إِلى بَعضٍ فَتَقولُ قَطٍ قَط” رَواهُ البُخارِيُّ، أَي اكتَفَيتُ اكتَفَيتُ، مَعناهُ وَجَدتُ مِلئي، وَجَدتُ ما يَملأُني.
“رِجلَهُ” مَعناهُ الفوجُ الأَخيرُ الّذينَ يُقَدِّمُهم للنّارِ، تَقولُ العَرَبُ: رِجْلٌ مِن جَرادٍ أَي فَوجٌ مِن جَرادٍٍ، أَمّا مَن تَوَهّمَ مِن هذا الحديثِ أَنَّ للهِ رِجْلاً بمعنى عُضوٍ فَهو مُشَبِّهٌ للهِ بِخَلقِهِ لا يَنفَعُهُ انتِسابُهُ إِلى الإِسلامِ، لأَنَّ مَن لم يَعرِفِ اللهَ لا تَصِحُّ عِبادَتُهُ.
كَذَلِكَ رِوايةُ القَدَمِ:” فَيَضَعُ فيها قَدَمَهُ، “مَعناهُ الشَّىءُ الّذي يُقدِّمُهُ اللهُ لِجَهنَّمَ، كَذَلِكَ أَئِمّةُ اللّغَةِ قالوا: القَدَمُ ما يُقَدِِّمُهُ اللهُ تَعالى للنّارِ، لَيسَ بمعنى أَنَّ لَهُ عُضوًا فَيُقَدِّمُ هذا العُضوَ للنّارِ، تَنَزَّهَ رَبُّنا عَن أَن يَكونَ لَهُ عُضوٌ.
وَقولُ أَهلِ الحقِّ “للهِ عَينٌ لَيسَت كَأَعيُنِنا” مَعناهُ أَنها صِفَةٌ، عَينُ اللهِ صِفةٌ مِن صِفاتِهِ كَما يُقالُ عِلمُ اللهِ، قُدرَةُ اللهِ، لَيسَ بمعنى العُضوِ والجارِحةِ، مَن حمَلَهُ على مَعنى الجارِحَةِ فَقَد شَبَّهَ اللهُ بخَلقِهِ.
وَمِن تمويهِ هَؤلاءِ المُجَسِّمَةِ المُشبِّهَةِ أَنهم يَقولونَ لفظًا “لله أَعينٌ لا كَأَعيُنِنا، ويَدٌ لا كَأَيدينا، ووجهٌ لا كوَجهِنا” ويَعتَقِدونَ الجوارِحَ والأَعضاءَ في اللهِ، فَهؤلاءِ خالَفَ كَلامُهُم مُعتَقَدَهُم فَلا يَنفَعُهُم قولُهُم هذا فَلا يَكونونَ مُنَزِّهينَ للهِ بَل هُم مُشَبِّهونَ لَهُ.
الأَشعَرِيَّةُ على مُعتَقَدِ السَّلَفِ
فَالأَشعَرِيَّةُ مُعتقَدُهُم مُعتَقَدُ السّلَفِ أَنَّ اللهَ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الجوارِحِ والأَعضاءِ والحُدودِ والغاياتِ والأَركانِ، وقَد حَدَثَ في عَصرِنا هذا مُؤلفاتٌ والعِياذُ بِاللهِ تَسوقُ النّاسَ إِلى اعتِقادِ الحَدِّ للهِ تَعالى، بِالعِبارَةِ الصَّريحةِ تَنطِقُ بِأَنَّ للهِ تَعالى حَدًا فَمَن لم يُؤمِن أَنَّ لَهُ حَدًا عِندَهُم فلَيسَ مَسلِمًا، إِلى هذا الحَدِّ تَوَّصَلّوا، والحَدُّ عَن اللهِ مَنفِيٌ عَلى لِسانِ السَّلَفِ كما أَنّهُ مَنفِيٌ بِقَولِ اللهِ تَعالى: ﴿ لَيسَ كَمِثِلِهِ شَىءٌ ﴾ لأَنَّ كُلَّ شَىءٍ مِنَ الأَجرامِ لَهُ حَدٌّ.
فَاللهُ تَعالى لَو كانَ لَهُ حدٌّ لَكانَ لَهُ أَمثالٌ لا تُحصَرُ، لَكانَ العَرشُ مِثلاً لَهُ، ولَكانَ الإِنسانُ مِثلاً لَهُ، وكذَلِكَ البَهائِمُ والأَحجارُ والأَشجارُ والأَرضُ والسَّمواتُ والنُّجومُ والكَواكِبُ لأَنَّ كُلَّ هذِهِ الأَشياءِ لها حَدٌّ، فَلَو كانَ اللهُ لَهُ حَدٌّ لَكانَ لَهُ أَمثالٌ لا تُحصى ولا تُحصَرُ ولا تُعَدُّ، فَيُناقِضُ ذلِكَ قولَهُ تَعالى ﴿ لَيسَ كَمِثِلِهِ شَىءٌ ﴾، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى نَفى عَن نَفسِهِ أَن يَكونَ لَهُ مِثلٌ عَلى الإِطلاقِ لا مِثلٌ واحِدٌ ولا أَمثالٌ كَثيرةٌ، نَفى عَن نَفسِهِ ذلِكَ على الإِطلاقِ، هَؤلاءِ لِفسادِ أَذهانهِم يَقيسونَ الخالِقَ عَلى المخلوقِ، عَلى زَعمِهِم الشَّيءُ الموجودُ لا بُدَّ لَهُ مِن حَدٍّ لِذاتِهِ فقاسوا الخالِقَ عَلى المخلوقِ فَجَعلوا لَهُ حَدًّا، وهُم في ذلِكَ اقتَدوا بِأَسلافِهِم .
الإمامُ ابنُ حَنبَلٍ سَلَفِيٌّ وغَيرُ مُجَسِّمٍ
والإِمامُ أَحمَدُ نَفسُهُ نَقَلَ عَنهُ أَبو الفَضلِ التّميميُّ الّذي هُو رَئيسُ الحنابِلَةِ بِبغدادَ في كِتابِهِ الّذي سَمّاهُ “اعتقادُ الإِمامِ المُبَجَّلِ أَحمَدَ بنِ حَنبَلٍ” نَقَلَ عَنهُ أَنّهُ يَقولُ عَنِ اللهِ تَعالى: “بِلا حَدٍّ”، عِبارَةٌ صَريحةٌ في نَفيِ الحَدِّ عَنِ اللهِ، هذا أَبو الفَضلِ التَّميميُّ مِن رُءوسِ الحَنابِلَةِ، ومِن كِبارِهِم، لَكِن في عَصرِ أَبي الفَضلِ التَّميميِّ وقَبلَهُ بِقليلٍ وبَعدَهُ كانَ أُناسٌ يَنتَسِبونَ للإِمامِ أَحمَدَ ويخالِفونَهُ في المُعتَقَدِ، يُثبِتونَ للهِ الحَدَّ.
واللهُ سُبحانَهُ وتَعالى أَعلَمُ وأَحكَمُ.