بسم الله الرحمن الرحيم
التَّمَسُّكُ بِعقيدَةِ أَهلِ الحـقِّ
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ والصّلاةُ والسّلامُ على سَيِّدِ المرسَلينَ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى جميع ِإِخوانِهِ مِنَ النبيّينَ وعلى ءالِهِ وصَحبِهِ الطّاهِرينَ. أمّا بَعدُ:
فَإِنَّ أَعظَمَ نِعَمِ اللهِ على عِبادِهِ أَن يَكونوا على عَقيدَةِ أَهلِ الحقِّ، وهُم الصّحابَةُ ومَن تَبِعَهم جيلاً فَجيلاً وقَرنًا بَعد قَرنٍ، هذا أَعظَمُ نِعَمِ اللهِ على عِبادِهِ. وعَقيدَةُ أَهلِ الحقِّ هي ما نَقَلها الخَلَفُ عَنِ السّلَفِ، فَمَن عاشَ عَليها وماتَ عَليها بُعِثَ مَعَ المؤمِنينَ الآمنينَ مِن عَذابِ اللهِ تَعالى، وأَهمُّ عَقيدَةِ أَهلِ الحقِّ أَمران، الإِيمانُ باللهِ ورَسولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ توحيدُ اللهِ تبَارَكَ وتَعالى في خَلقِ الأَشياءِ، أَمّا الإيمانُ بِاللهِ فهو اعتِقادُ أَنَّ اللهَ تعالى مَوجودٌ لَيسَ كَغَيرِهِ، لَيسَ جِسمًا لَطيفًا كالضَّوءِ والظَّلامِ والرِّيحِ، ولا جِسمًا كَثيفًا كالإِنسانِ أَو الحَجَرِ والشَّجَرِ والنَّجمِ والشَّمسِ والقَمَرِ، ولَيسَ مُتَّصِفًا بِصفاتِها، بِصفاتِ الحَجمِ الكَثيفِ والحَجمِ اللَّطيفِ.
وَذَلِكَ يَبتَني على أَنَّ اللهَ تَعالى هو الموجودُ الذي لا ابتِداءَ لِوجودِهِ، وما سِواهُ حادِثٌ مَوجودٌ بَعدَ عَدَمٍ سَبَقَهُ، كُلُّ الأشياءِ سِوى اللهِ سَبَقَها عَدَمٌ فلَم يَكُنْ قَبلَ أَن يَخلُقَ اللهُ العالَمَ نورٌ ولا ظَلامٌ ولا مَكانٌ ولا جِهَةٌ ولا شىءٌ مِن صِفاتِ الأَجسامِ كالحرَكَةِ والسُّكونِ والتَّغيَّرِ والتَّلَوُّنِ والانفِعالاتِ، فَاللهُ تَبارَكَ وتَعالى هو الموصوفُ بِأَنَّهُ لا بِدايةَ لِوجودِهِ ولا يَطرأُ عَلَيهِ التَّغيُّرُ لأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لا بُدَّ لَهُ مِن مُغَيِّرٍ يوجِدُهُ، فالعالَمُ عَلَيهِ ءاثارُ التَّغَيُّرِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَقلاً وشَرعًا حُدوثُ العالَمِ أي وُجودُهُ بَعدَ عَدَمٍ سابِقٍ. ثمَّ لا يَكفي تَنـزيهُهُ تَعالى عَنِ الجِسمِيَّةِ الكثيفَةِ والجِسمِيَّةِ اللَّطيفَةِ مَع اعتِقادِ أَنَّهُ تَطرَأُ عَلَيهِ صِفاتٌ حادِثَةٌ، بَل يجِبُ تَنـزيهُهُ عَن أَيَّة صِفةٍ حادِثَةٍ، فَحياةُ اللهِ أَزَلِيَّةٌ أَبدِيَّةٌ لا تَتَغَيَّرُ لا إِلى زِيادَةٍ ولا نُقصانٍ، كَذَلِكَ عِلمُهُ مُنـَزَّهٌ عَن أَن يَزيدَ أَو أن يَنقُصَ، كَذَلِكَ سَمعُهُ وبَصَرُهُ، يَسمَعُ الأصواتَ ويَرى الْمُبصَراتِ مِن دونِ أَن تحدُثَ لَه رُؤيةٌ للمُبصَراتِ وسَمعٌ لِلأصواتِ، إِنَّما يَسمَعُ بِسمعٍ أَزلِيٍّ أَبدِيٍّ ويَرى الْمُبصَراتِ بِرؤيَةٍ أَزلِيَّةٍ أبدية لَيسَ كَسَمعِ خَلقِهِ ولا كَرُؤيَةِ خَلقِهِ. وكَذَلِكَ قُدرَتُهُ ومَشيئَتُهُ أَزلِيَّتانِ أَبَدِيَّتانِ لَيسَتا كَقُدرَةِ وَمَشيئَةِ العِبادِ، قُدرَةُ العِبادِ حادِثَةٌ ثمَّ تَنقُصُ وتَزيدُ، ومَشيئَةُ العِبادِ كَذلِكَ حادِثةٌ تَنقُصُ وتَتَغَيَّرُ. وَكَذلِكَ كَلامُ اللهِ تَعالى لَيسَ شَيئًا حَدَثَ بعدَ أَن لم يَكُن ولَيس شيئًا يَسبِقُ بَعضُهُ بَعضًا كَكلامِنا، لأَنَّ كَلامَنا أصواتٌ بحروفٍ يَسبِقُ بَعضُها بَعضًا، وأَمَّا اللهُ تَعالى فَكلامُهُ لَيسَ صَوتًا ولَيسَ حَرفًا، فَلَيسَ حادِثًا في ذاتِ اللهِ تَعالى ثمَّ يَزيدُ أو يَنقُصُ أو يَتَخَلَّلُهُ سُكوتٌ. فَمَن اعتَقَدَ هذا الاعتِقادَ الصَّحيحَ فَقَد عَرَفَ اللهَ فَتصِحُّ مِنهُ العِباداتُ الصَّلاةُ والصِّيامُ والحَجُّ والزَّكاةُ وقِراءةُ القُرءانِ وغَيرُ ذَلِكَ، أَمّا مَن لم يَعتَقِدْ هذا واعتَقَدَ خِلافَهُ فَلا تَصِحُّ مِنهُ العِباداتُ، جميعُ أَنواعِها.
ثمَّ الأَمرُ الأَهَمُّ بَعدَ هذا توحيدُ اللهِ في الأَفعالِ، فَاللهُ تَعالى فِعلُهُ بِالإيجادِ والخَلقِ، أَمّا فِعلُ المخلوقينَ فَلَيسَ بِطريقِ الإِيجادِ والخَلقِ لَيسَ بِطريقِ الإِيجادِ الحقيقيِّ والخَلقِ، أَي أَنَّ اللهَ تَعالى هو الذي يُبرِزُ المعدومَ مِن العَدَمِ إلى الوُجودِ، الأجسامُ هو الذي أَبرَزَها مِنَ العَدَمِ إِلى الوُجودِ، وَحَرَكاتُ الأَجسامِ وسَكناتُهُم وكلامُهُم هو الذي يُبرِزُهُ مِنَ العَدَمِ إِلى الوُجودِ، فالإِنسانُ إِن تَكَلَّمَ بِكلامٍ بِاختيارِهِ وقَصدِهِ وعَمدِهِ فَلَيسَ هو يخلُقُهُ إنَّما اللهُ يخلُقُ ذَلِكَ، وهَكَذا تَفكيراتُهُ وإِدراكاتُهُ وعُلومُهُ كُلُّها اللهُ يخلُقُها فيهِ، لا يخلُقُ أَحدٌ شيئًا مِنَ الحَركاتِ والسَّكَناتِ إلا اللهُ.
فَهذا الأَمرُ الثّاني هو الأَمرُ الأَهَمُّ مِن أُصولِ العَقيدَةِ، فَمَن خالَفَ التَنـزيهَ واعتَقَدَ أَنَّ اللهَ جِسمٌ مُتحَيِّزٌ في جِهةِ العَرشِ لم يَعرِفِ اللهَ، ومَن اعتَقَدَ أَنَّ اللهَ تعالى يَتَّصِفُ بِالحرَكاتِ والسَّكَناتِ فَهو جاهِلٌ بِرَبِّهِ كافِرٌ، ومَن اعتَقَدَ أَنَّهُ ساكِنٌ دائِمًا فهو جاهِلٌ بِرَبِّهِ، لأَنَّ السُّكونَ مِن صِفاتِ الخَلقِ، والحَرَكَةَ مِن صِفاتِ الخَلقِ، وَمن وَصَفَ الخالِقَ بهما أو بِأَحَدِهِما فَهو جاهِلٌ بخالِقِهِ، هذانِ الأَمرانِ هُما أَهَمُّ مسائِلِ الاعتِقادِ.
ثمَّ بعدَ ذَلِكَ مِن أُمورِ الدِّينِ ما هو مِن الاعتِقادِ وما هو مِن أَعمالِ البَدَنِ، ثمَّ بعضُ ذَلِكَ مَفروضٌ، مَن تَرَكَهُ يَكونُ ءاثمًا، ومَن أَدَّاهُ يَكونُ مَثوبًا مأجورًا عِندَ اللهِ.
ثمَّ إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى أَذِنَ للمُسلِمينَ أَن يُحدِثوا في دِينِ اللِه ما لا يُخالِفُ القُرءانَ والحَديثَ فَيُقالُ لِذَلِكَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، فَكُلُّ ما أَحدَثَهُ عُلَماءُ الإِسلامِ الأَتقياءُ الأَولياءُ في دِينِ اللهِ تَعالى وكانَ على وِفاقِ القُرءانِ والحَديثِ فَهو سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، لا يُقالُ: “هذا لم يَفعَلْهُ الرَّسولُ فَهو سُنَّةٌ سَيِّئَةٌ بِدعَةٌ سيئة بدعةٌ مُحَرَّمَةٌ” لا يُقالُ. فَقَد أَحدَثَ في الدين أُناسٌ مِنَ التّابِعينَ ما لم يَفعَلْهُ الرَّسولُ عَلَيهِ السَّلامُ، وكَذلِكَ مَن جاءَ مِن عُلَماءِ الإِسلامِ بعدَ التّابِعينَ أَحدَثوا أَشياءَ لم يَفعَلْها الرَّسولُ عَلَيهِ السَّلامُ ولا ذَكَرَها، لم يَقُلْ: “افعَلوا كَذا”، هذِهِ الأَشياءُ التي أَحدَثَها التَّابِعونَ، عُلَماءُ التّابِعينَ، أَتقياؤهم في الدِّينِ، هِي سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، وكَذَلِكَ ما أَحدَثَهُ مَن جاءَ بَعدَهُم في الدِّينِ ممّا لا يُخالِفُ قُرءانًا ولا حَديثًا فهو سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، ومِن أَوَّلِ ما أَحدَثَهُ الْمُسلِمونَ في عَصرِ الصَّحابَةِ ممّا أَحدَثَهُ غَيرُ الصَّحابَةِ نَقطُ القُرءانِ وتَشكيلُهُ، الصَّحابَةُ ما نَقَّطوا الْمُصحَفَ ولا شَكَّلوهُ، كَتَبوهُ مِن إِملاءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بِدونِ تَنقيطٍ ولا تَشكيلٍ، إِنّما فَعَلَ هذا بَعضُ التّابِعينَ في عَصرِ الصَّحابَةِ.
ثمَّ ممّا أَحدَثَهُ عُلماءُ السَّلَفِ مِنَ التّابِعينَ بِناءُ المحاريبِ في المساجِدِ، ما كانَت المساجِدُ فيها محاريبُ مُجَوَّفَةٌ، مَسجِدُ الرَّسولِ عَلَيهِ السَّلامُ وغَيرُهُ مِن مساجِدِ الصَّحابَةِ ما كانَ لها محاريبُ، أَحدَثَ ذَلِكَ الخليفَةُ الرّاشِدُ العالِمُ الزَّاهِدُ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، كَذَلِكَ هو أَحدَثَ المآذِنَ، قَبلَهُ لم يَكُن للمُسلِمينَ مآذِنُ لمساجِدِهِم، ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ عُلَماءُ المسلِمينَ الأَتقياءُ أَحدَثوا أَشياء.
وممّا أُحدِثَ بعدَ ذَلِكَ عملُ المولِد والطَّريقَة. عَمَلُ المولِدِ في شَهرِ رَبيعٍ الأوّلِ عَمِلَهُ مَلِكٌ تَقِيٌّ مجاهِدٌ غازٍ عالـِمٌ فَقَبِلَهُ عُلَماءُ الإِسلامِ وعَمِلَ بِهِ المسلِمونَ إِلى يومِنا هذا، وقَد مَضى على ذَلِكَ أَكثَرُ مِن ثمانِمائةِ عامٍ.
كَذَلِكَ الطَّريقَةُ الرِّفاعِيَّةُ والطَّريقَةُ القادِرِيَّةُ وغيرُهمُا أَحدَثَها عُلَماءُ أَتقياءٌ زُهّادٌ، الشّيخُ عبدُ القادِرِ الجيلانيُّ و الشّيخُ أَحمدُ الرِّفاعيُّ هذانِ أَوّلُ مَن أَنشأَ الطَّريقَةَ ثمَّ بَعدَ ذَلِكَ أَنشأَ عُلَماءٌ أَولياءٌ طُرُقًا عَديدَةً فَكُلُّها قُربَةٌ إِلى اللهِ، وتُسَمّى سُنَّةً حَسَنَةً، كُلُّ هذِهِ الأَشياءِ التي أَحدَثَها عُلَماءُ الإِسلامِ الأَتقياءُ تُسَمّى سُنَّةً حَسَنَةً وهِي داخِلَةٌ تحتَ قَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ “مَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلهُ أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها بَعدَهُ”.
فَبَعدَ هذا البيانِ لا يُلتَفَتُ إِلى قَولِ الْمُخالِفينَ لهذا، لأَنَّهُم يَقولونَ عَن هذِهِ الأَشياءِ التي هي سُنَّةٌ حَسَنَةٌ بِدعَةً محرَّمَةً، وهؤلاءِ لا اعتِبارَ لِكلامِهِم، لأَنَّهُم يَعمَلونَ بِأشياء لم تَكُن في زَمَنِ الرَّسولِ عَلَيهِ السَّلامُ ممّا أَحدَثَها عُلَماءُ الإِسلامِ ويُنكِرونَ بَعضًا مَع أَنَّ كُلاًّ أُنشِئَ على ما يُوافِقُ القُرءانَ والحَديثَ. المصاحِفُ التي فيها تَشكيلٌ وتَنقيطٌ يَشتَغِلونَ بها كما نحنُ نَشتَغِلُ بها،والمآذِنُ والمحاريبُ كَذَلِكَ يَعملونَ بها كما نحنُ نَعمَلُ بها، هؤلاءِ لا يَتَمسَّكونَ بِالميزانِ الشّرعي بَل يَتَمَسَّكونَ بما تهوى أَنفُسُهُم، فالشّىءُ الذي يُعجِبُهُم يقبلونه والشىء الذي لا يعجبهم يَقولونَ عَنهُ بِدعةً سَيِّئَةً بِدعَةً محرَّمَةً، لا يَتبعونَ الدَّليلَ إِنَّما يَتبعونَ أَهواءَهُم، فَلِمَ قَبِلُوا تَشكيلَ المصاحِفِ وتَنقيطَها وبِناءَ المآذِنِ وعَمَلَ المحاريبِ للمساجِدِ، وحَرَّموا الطُّرُقَ وعَمَلَ المولِد؟! بِلا دَليلٍ يُحرِّمونَ ويُحَلِّلونَ، فلا اعتبارَ لِكلامِهِم.
أَمّا الطُّرُقُ فأوَّلُ طَريقَةٍ أُنشِئَت الرِّفاعِيَّةُ والقادِرِيَّةُ، وكانَ الشَّيخُ عَبدُ القادِرِ والشَّيخُ أَحمَدُ الرِّفاعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُما في عَصرٍ واحِدٍ في العِراقِ، أَمَّا الشَّيخُ أَحمَدُ الرِّفاعيُّ فَهو مِن ذُرِيَّةِ سَيِّدِنا الحُسينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، وَكانَ فَقيهًا شافِعِيًّا، قالَ الإِمامُ أَبو القاسِمِ الرّافِعيُّ الشّافِعيُّ _ مُحرِّرُ المذهَبِ _ في مناقِبِ سَيِّدِنا أَحمَدَ الرِّفاعيِّ: “كانَ أَعلَمَ النّاسِ بِكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ”.
هذا الذي قالَهُ أَبو القاسِمِ الرَّافِعِيُّ، وقالَ غَيرُهُ مِنَ الأَولياءِ – مِن أَهلِ ذَلِكَ الزَّمَنِ -:” اتَّفَقَ المشايِخُ – أَي الصّوفِيَّةُ – على أَنَّ الشَّيخَ أَحمَدَ الرِّفاعِيَّ أَجَلُّ المشايِخِ قَدرًا؛ ثمَّ إِنَّ طَريقَةَ سَيِّدِنا أَحمَدَ الرِّفاعِيِّ لها امتِيازٌ مِن بَينِ الطُّرُقِ كُلِّها وهِي أَنَّ اللهَ تَعالى حَفِظَ أَتباعَ سَيِّدِنا أَحمَدَ الرِّفاعِيِّ في الطَّريقَةِ مِنَ القَولِ بِعَقيدَتَينِ هُما مِن أَكفَرِ الكُفرِ، إِحداهُما القَولُ بِأنَّ اللهَ يَحُلُّ في الأَشخاصِ – يَدخُلُ في الأَشخاصِ – ، والثّانِيةُ القَولُ بِأنَّ اللهَ والعالَمَ شىءٌ واحِدٌ. هاتانِ الكُفرِيَّتانِ دخَلتا في بَعضِ القادِرِيَّةِ وفي بَعضِ الشّاذِلِيَّةِ- بَل في الشّاذِلِيَّةِ أَكثَرَ – وفي بَعضِ النَّقشَبَندِيَّةِ وفي غَيرِهِما دَخَلَتا. في زَمانِنا هذا يوجَدُ مَن يَنتَسِبُ للشّاذِلِيَّةِ وَيَقولُ والعِياذُ بِاللهِ: بِأَن اللهَ داخِلٌ في كُلِّ شَخصٍ ذَكَرٍ أَو أُنثى، ويوجَدُ في بَعضِ هَؤلاءِ مَن يَقولُ والعِياذُ بِاللهِ: إِنَّ اللهَ والعالَمَ كالثَّلجِ والماءِ الذي فِيهِ، بَعضُ الشّاذِلِيَّةِ قالَ ذَلِكَ، يَقولونَ: العالَمُ كالثَّلجِ والماءُ الذي فيهِ هو اللهُ، هاتانِ الكُفرِيَّتانِ أَقبحُ مِن كُفرِ اليَهودِ لأَنَّهُم جَعلوا كُلَّ شىءٍ مَحَلاًّ للهِ.
والآخَرونَ جَعَلوا كُلَّ شىءٍ جُزءًا مِنَ اللهِ هُنا في لُبنانَ وفي سوريا وفي الأُردُنّ وفي فِلَسطينَ يوجَدُ هؤلاءِ الذينَ يَقولونَ “اللهُ داخِلٌ في كُلِّ شَخصٍ”، بَل زادوا على ذَلِكَ أَن قالوا لِبَعضِ الأَشخاصِ ” هذا الجِدارُ اللهُ وأَنتَ اللهُ “.
اللهُ تَعالى حَفِظَ الرِّفاعِيَّةَ مِن هذا لأَنَّ شَيخَها شَيخَ الطَّريقَةِ الرِّفاعِيَّةِ كانَ شَديدَ النَّكيرِ في حَياتِهِ على هاتَينِ الفِرقَتَينِ الحُلولِيَّةِ والاتِّحادِيَّةِ،كانَ يُحذِّرُ تحذيرًا شَديدًا في بَعضِ مُؤلّفاتِهِ وفي دُروسِهِ، لأَنَّهُ كانَ يَهتَمُّ بِالدُّروسِ، لِذَلِكَ ما أَلَّفَ كُتُبًا كَثيرَةً،كانَ يُدَرِّسُ أَوَّلَ النَّهارِ في عِلمِ الفِقهِ والحديثِ والتَّفسيرِ والتَّوحيدِ وفي ءاخِرِ النَّهارِ كَذَلِكَ، وكانَ يومَ الخميسِ يَتَفَرَّغُ للوَعظِ، يجلِسُ على كُرسِيٍّ مُرتَفِعٍ حتّى يَراهُ النّاسُ مِن كَثرَةِ الذينَ يَحضُرونَ مجلِسَ وَعظِهِ، الأُمَراءُ والعُلَماءُ والصُّوفِيَّةُ والعَوامُّ كانوا يحضُرونَ مجلِسَ وَعظِهِ. مَرَّةً جَلَسَ على كُرسِي الوَعظِ وكانَ في ذَلِكَ المجلِسِ مِنَ اليَهودِ والصّابئَةِ، وهذِهِ الصّابِئَةُ طائِفَةٌ مِنَ الكُفّارِ، فَلَمّا سمِعوا كَلامَهُ أَسلَمَ نحوُ ثمانيةِ ءالافٍ مِن هَؤلاءِ، ومِنَ الغافِلينَ مِن أَهلِ السُّنَّةِ تابَ أَربعونَ أَلفًا. وَكانَ مِنَ الكَراماتِ التي أَعطاهُ اللهُ إِيّاها أَنَّهُ كانَ يجتَمِعُ عِندَهُ في السَّنَةِ لَيلةً مائةُ أَلفٍ أَو أَكثَرُ، يجتَمِعونَ ثمَّ هو يَكفيهِم طعامَهُم وشَرابَهُم، كُلُّهُم يَأكلونَ ويَشرَبونَ وهو لم يَكُن مَلِكًا ولا مِن بَيتِ وِزارَةٍ، أَهلُهُ ما كانوا مُلوكًا ولم يَكُن فيهم وُزراءٌ، إِنَّما هُو بِسِرٍّ أَعطاهُ اللهُ إِيّاهُ كَفى هذا الخَلقَ الكَثيرَ طعامَهُم وشَرابَهُم. وكانَ يُسَمّى أَبا العَلَمَينِ، ويُسَمّى أَبا العَبّاسِ، ويُسَمّى شَيخَ العُرَيجاءِ لأَنَّهُ مَرَّةً خَرَجَ إِلى قَريَةٍ لَهُ فيها مُريدونَ أَتباعٌ، فاستَقبلوهُ رِجالاً ونِساءً، وكانَت فيهم بِنتٌ صَغيرَةٌ عَرجاءُ حَدباءُ قَرعاءُ، فَلَمّا رَأتِ الشَّيخَ تَوَجَّهَت إِليهِ وطَلَبت إِليهِ الدُّعاءَ، وقالَت: إِنّي كَرِهتُ نَفسي مِن كَثرَةِ ما تَستَهزِئُ بي بَناتُ القَريَةِ، فَدَعا اللهَ لها فاستقامَت رِجلُها في الحالِ واستقامَ ظَهرُها وذَهَبَ عَنها القَرعُ، فَمِن شِدَّةِ الإِعجابِ بهذِهِ الكرامَةِ سمّاهُ النّاسُ شَيخَ العُريجاءِ أَي الشَّيخَ الذي شَفى البِنتَ العَرجاءَ. فمِن أَجلِ اهتِمامِهِ بالعِلمِ وبمزيدِ العِنايَةِ بِعِلمِ العَقيدَةِ طَريقَتُهُ حُفِظَت، إِلى يَومِنا هذا لا يوجَدُ مَن يَقولُ فيهم مِن أَهلِ طَريقَتِهِ: “اللهُ حالٌّ في الأَشياءِ أو في بَعضِ الأَشياءِ”، ولا أَحَدٌ يَقولُ: “اللهُ والعالَمُ شَىءٌ واحِدٌ”. ولا مَن يَقولُ: “هُو اللهُ واحِدٌ صارَ كثيرًا”، لا يوجَدُ في هؤلاءِ مَن يَقولُ بهذا الكُفرِ الشَّنيعِ، وللهِ الحمدُ على ذَلِكَ. ثمَّ أَيضًا كانَ الإِمامُ الرِّفاعيُّ يُحذِّرُ مِنَ الحلاّجِ، الحلاّجُ تُوفِّيَ قَبلَ سَيِّدِنا أَحمَدَ بِثلاثِمائةِ سَنَةٍ تَقريبًا،كانَ يُحَذِّرُ مِنهُ ويَقولُ: “ليسَ على الحقِّ، لو كانَ على الحقِّ ما قالَ: أَنا الحقُّ” ومعنى قَولِ الحلاّجِ: “أنا الحقُّ” أَنا اللهُ والعِياذُ بِاللهِ، لأَنَّ الحقَّ مِن أَسماءِ اللهِ، سَيِّدُنا أَحمدُ الرِّفاعيُّ حَكَمَ بِأَنَّهُ ضالٌّ، وهذا هو الحقُّ وأَكثَرُ الصّوفِيَّةِ قالوا “الحلاّجُ لَيسَ مِنّا”، لِذَلِكَ في الماضي كانَ عَدَدٌ قَليلٌ يمدَحُهُ، أَمّا اليومَ كَثُروا، إِن جَلَستَ مَع بَعضِ القادِرِيَّةِ تَسمَعُ بِمدحِهِ، وإِن جَلَستَ مَع الشاذِلِيَّةِ تَسمَعُ بِمدحِهِ وإِن جَلَستَ مَع بَعضِ النَّقشَبَندِيَّةِ كَذَلِكَ تَسمَعُهُم يَمدَحونَهُ، وَكَذَلِكَ غَيرُهُم، إِلاّ الرِّفاعِيَّةَ عَرفوا أَنَّهُ ضالٌّ لِقَولِ شَيخِ الطَّريقَةِ سَيِّدِنا أَحمدَ الرِّفاعِيِّ بِأَنَّ الحلاّجَ ضالٌّ، وهذا مِن مَزايا الرِّفاعِيَّةِ.
والحمـــدُ للهِ تَعــالى.