بسم الله الرحمن الرحيم
مبادئ في التوحيد
ودَعوَةٌ إِلى حُسنِ الخُلُقِ
الحَمدُ للهِ رَبِ العالمينَ، وأَفضَلُ الصَّلاةِ وأَتمُّ التَّسليمِ على خاتَمِ النّبيّينَ وقائِدِ الغُرِّ المُحجَّلينَ، سَيِّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِهِ وصَحبِهِ الطّيِّبينَ الطّاهِرينَ، وبَعدُ:
فَإِنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى أَعطى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِن مَحاسِنِ الأَخلاقِ أَعلى مَرتَبَةً.كانَ النّاسُ عِندَهُ لا يَفضُلُ أَحَدُهُم الآخَرَ إلاّ على حَسَبِ التّقوى، فَقَد رُويِّنا بِالإِسنادِ الصَّحيحِ في صَحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ جَعفَرٍ الصّادِقِ عَن أَبيهِ محمّدٍ الباقِرِ عَن جابِرٍ بنِ عَبدِ اللهِ الأَنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُم في صِفَةِ حَجِّ رَسولِ اللهِ فَقالَ في وَصفِهِ إِنّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ رَحَلَ مِن عَرفاتَ بَعدَ أَن غَرُبَت الشَّمسُ، وأَردَفَ أُسامَةَ خَلفَهُ حتى وَصَلَ إلى مُزدَلِفَةَ، ثمّ باتَ بمزدَلِفَةَ ثمّ صَلَّى الصُّبحَ بمُزدَلِفَةَ ثمّ ذَهَبَ إِلى المَشعَرِ الحرامِ فَوقَفَ ودعا وكانَ أَردَفَ الفَضلَ بنَ العَبّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما إِلى أَن وَصَلَ إِلى مِنى.
فانظُر إِلى هذِهِ الحِكمَةِ ما أَعظَمَها أَردَفَ أُسامَةَ بنَ زَيدٍ مِن عَرَفاتَ إِلى مُزدَلِفَةَ ثمّ أَردَفَ حينَ ارتَحَلَ مِن مُزدَلِفَةَ إِلى مِنى الفَضلَ بنَ العَبّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، لمَ يَنظُرْ إِلى الهيئَةِ والنَّسبِ بَل نَظَرَ إِلى الفَضلِ بِالتّقوى، وذلِكَ أَنَّ أُسامَةَ بنَ زَيدٍ كانَ ابنَ زَيدٍ الّذي هو مَولى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ لأَنَّ زَيدًا كانَ مُستَرَّقًا وَهَبَتهُ خَديجةُ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، ثمَّ زَوَّجَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ أُمَ أَيمنَ الحَبَشِيّةَ وكانَت حاضِنَةَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وكانَ أُسامَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِن حَيثُ اللّونُ أَسودَ.
وأَمّا ابنُ عَمِّهِ الفَضلُ بنُ العبّاسِ فَكانَ مِن أَجمَلِ النّاسِ أَبيضَ جَميلَ الشّعَرِ، ولم يَنظُر إِلى ابنِ عَمِّهِ الفَضلِ فَيَبدَأُ بِإردافِهِ مَعَ أَنّهُ مِن حَيثُ النَّسَبُ ابنُ عَمِّهِ ومِن حَيثُ المَنظَرُ والشَّكلُ كانَ مِن أَجملِ الرِّجالِ، بَل نَظَرَ إِلى أَنَّ أُسامَةَ أَقدَمُ سابِقَةً في الإِسلامِ، وبَدأ بِإِردافِ أُسامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَركَبَهُ خَلفَهُ على البَعيرِ مِن عَرَفاتَ إِلى مُزدَلِفَةَ وكانَ ذلِك لَيلاً ثمّ في الغَدِ في صَبيحَةِ العيدِ أَردَفَ الفَضلَ فَهذا هو العَدلُ المَقبولُ.
فَهو صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مُوفَّقٌ مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى في تَصَرُّفاتِهِ طاهِرُ القَلبِ خالِصُ الطَّوِيَّةِ لا يَنظُرُ إِلى المالِ والنَّسَبِ إِنّما يَنظُرُ إِلى الفَضلِ في الدِّينِ.
وهكَذا كُلُّ تَطَوُّراتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم كانَت العِنايَةُ الرَّبانِيَّةُ تَحُفُّها مَعَ أَنّه نَشَأَ يَتيمًا لم يُجالِسِ الحُكَماءَ.
وقَد حَلاّهُ اللهُ تَعالى وجَمَّلَهُ بِأَحسَنِ الخُلُقِ فَكانَ صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ كَما وَصَفَهُ القُرءانُ الكَريمُ، قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وِإِنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ﴾ [سورة القلم/4].
مِن خِصالِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ
وكذا كان َمَنعوتًا في الكُتُبِ القَديمةِ، كانَ أَحَدُ أَحبارِ اليَهودِ مِن أَهلِ المدينَةِ يُسَمّى زَيدَ بنَ سعنة اطّلَعَ في بَعضِ الكُتُبِ القَديمةِ الّتي أَنزَلَها اللهُ تَعالى على بَعضِ أَنبيائِهِ أَنَّ نَبيَّ ءاخِرِ الزَّمانِ يَسبِقُ حِلمُهُ جَهلَهُ ولا يَزيدُهُ شِدَّةُ الجَهلِ عَلَيهِ إِلاّ حِلمًا، فَأَرادَ هذا الحِبرُ اليَهودِيُّ بَعدَ أَن هاجَرَ الرَّسولُ إِلى المدينَةِ أَن يَعرِفَ هل يَنطَبِقُ على سَيِّدِنا محمّدٍ النَّعتُ المَذكورُ في نَبيِّ ءاخِرِ الزَّمانِ أَنَّ حِلمَهُ يَسبِقُ جَهلَهُ وأَنَّ شِدَّةَ الجَهلِ عَلَيهِ لا يُزيدُهُ إِلاّ حِلمًا أَي أَنّه مَهما أُوذِيَ لا يوصِلُهُ أَذى النّاسِ إِلى التَّحامُقِ و لا يَخرُجُ عَن مُقتَضى الحِكمَةِ فَأرادَ أَن يَمتَحِنَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمِ فَعامَلَهُ بِدَينٍ مُؤجَّلٍ إِلى أَجَلٍ مَعلومٍ ثمّ قَبلَ أَن يَحِلَّ الأَجَلُ بِثلاثَةِ أَيّامٍ تَعَرَّضَ هذا اليَهودِيُّ زَيدُ بنُ سعيةَ لِلمُطالَبَةِ بِالدَّينِ، َفنالَ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ تَهُزُّ المَشاعِرَ؛ فَأَرادَ بَعضُ الصَّحابَةِ وهو عُمرُ بنُ الخَطّابِ أَن يَنتَقِمَ مِنهُ مِن شِدَّةِ تَغَيُّظِهِ عَلَيهِ لأَنّهُ أَساءَ الأَدَبَ مَعَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، كادَ أَن يَبطُشَ بِهِ فَيَقتُلَهُ فَنهاهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ. فَعَرَفَ زَيدٌ أَنَّ تِلكَ الصِّفَةَ والنَّعتَ المذكورَ في وَصفِ محمّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مُنطَبِقَةٌ عَلَيهِ وعَرَفَ أَنّهُ هو ذلِكَ النَّبيُّ الّذي بَشَّرَ بِهِ الأَنبياءُ فَتَشَهَّدَ شَهادَةَ الحَقِّ قالَ: أَشهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ اللهُ وأَشهَدُ أَنّكَ رَسولُ اللهِ. فَهذا مِثالٌ واحِدٌ مِن أَمثِلَةِ أَعلامِ نُبوّتِهِ الكَثيرَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعلى ءالِهِ وسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا.
ثمّ أَنَّ الحِكمَةَ والخُلُقَ الحَسَنَ كانَ مِن شِيَمِ الأَنبياءِ جَميعِهُم لأَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى لا يُرسِلُ لِهدايَةِ عِبادِهِ إِنسانًا مَطعونًا فيهِ بِسَفاهَةٍ أَو بِخِيانَةٍ أَو رَذالَةٍ أَو كَذِبٍ في الحَديثِ، لا يُرسِلُ إِلاّ إِنسانًا نَشَأ على الصِّدقِ والعِفَّةِ والنَّزاهَةِ في العِرضِ والخُلُقِ وحُسنِ مَعامَلَةِ النّاسِ، فَكانَ سَيِّدُنا محمّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ أَوفَرَ الأَنبياءِ حَظًا في ذلِكَ لا يَسبِقُهُ في ذلِكَ أَحَدٌ بَعدَهُ ولا سَبَقَهُ أَحَدٌ قَبلَهُ.
رُويِّنا في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أَنَسِ بنِ مالِكٍ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ كانَ أَحسَنَ النّاسِ خُلُقًا. فَمِن هُنا يُعلَمُ أَنَّ كُلَّ ما يُروى عَن نَبيٍّ مِن أَنبياءِ اللهِ ممّا يُخالِفُ هذا المعنى، وهو حُسنُ الخُلُقِ، فهو مُفتَرًى مَردودٌ على قائِلِهِ.
ورُويِّنا أَيضًا في مُسنَدِ أَحمَدَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مِن حَديثِ أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ قالَ: “ما بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاّ حَسَنَ الوَجهِ حَسَنَ الصَّوتِ وإِنَّ نَبِيَّكُم أَحسَنُهُم وَجهًا وأَحسَنُهُم صَوتًا”.
وروينا في صَحيحِ مُسلِمٍ عَن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ يَقرَأُ: “والطّورِ” فَكادَ قَلبي يَطيرُ، أَي مِن حُسنِ صَوتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسِلَّمَ.
للأَعمالِ مَراتِبُ
ومَع هذا أَي مَع ما كانَ عَلَيهِ نَبيُّنا رَسولُ اللهِ وغَيرُهُ مِنَ الأَنبياءِ مِن التَّحَلِّي بِالخُلُقِ الحَسَنِ لم يَكُن تَرغيبُهُ في حُسنِ الخُلُقِ كَأَمرِهِ وتَرغيبِهِ في أَداءِ الفرائِضِ، بل كان أَمرُ الفَرائِضِ عِندَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ أَوكَدَ وأَهَمَّ لأَنَّ الفَرائِضَ هي الّتي يُسألُ عَنها الإِنسانُ يومَ القِيامةِ ،يُسألُ العَبدُ يومَ القِيامَةِ قَبلَ حُسنِ الخُلُقِ وحُسنِ المُعامَلَةِ مَعَ النّاسِ، هل قامَ بِفرائِضِ اللهِ تَعالى الّتي فَرَضَها على عِبادِهِ، هل أَدّى الواجِباتِ و اجتَنَبَ المُحرَّماتِ، هل أَدّى ما افتَرَضَ اللهُ عَلَيهِ مِنَ العِباداتِ وهل تَعَلَّمَ مِن عِلمِ الدِّينِ الّذي لا يَستَغني عَنهُ كُلُّ بالِغٍ عاقِلٍ، فَإِنَّ تَصحيحَ مُعامَلَةِ اللهِ تَعالى هو مُقَدَّمٌ على ما سِواهُ ، فَأَوَّلُ فَرضٍ هو الإِيمانُ بِاللهِ تَعالى أَي تَوحيدُهُ تَعالى وتَجَنُّبُ أَنواعِ الكُفرِ والشِركِ كُلِّها، والإِيمانُ بِرَسولِهِ.
كانَت أَذهانُ النّاسِ الّذينَ قَبِلوا دَعوتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مُدرِكَةً لما يُلقيهِ إِليهِم رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ مِن تَنْزيهِ اللهِ تَعالى، فَكانوا يَفهمونَ مِنَ الآيةِ الواحِدَةِ المعنى على الوَجهِ الصَّحيحِ المَطلوبِ ما لا يَفهَمُهُ أَكثَرُ النّاسِ في هذا العَصرِ وبَعضِ العُصورِ الّتي قَبلَهُ في أَزمِنَةٍ مُتطاوِلَةٍ.
أَنزِلَ اللهُ تَعالى في تَنْزيهِهِ الآيةَ الجامِعةَ وهي قَولُهُ تَعالى: ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ﴾، فَكانَت هذِهِ الجُملَةُ تَجمَعُ مَعانيَ كَثيرَةً مِن التَّنْزيهِ التّامِّ، فإِنّها تُفهِم أَنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى لا يُشبِهُ شَيئًا ولا يُشبِهُهُ شَيءٌ لا في ذاتِهِ ولا صِفاتِهِ ولا فِعلِهِ، فَهو تَبارَكَ وتَعالى واحِدٌ في الذّاتِ، أَزَليٌّ أَبَدِيٌّ، مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، انفَرَدَ بِالأَزَلِيَّةِ فلا أَزَلِيَّ سِواهُ، فَالزَّمانُ والمَكانُ حادِثانِ لم يَكونا في الأَزَلِ ثمّ وُجِدا، أَمّا المَكانُ فَأَمرُهُ أَوضَحُ ، وأَمّا الزَّمانُ فَيَقرُبُ ذلِكَ للفَهمِ أَنّهُ لا يُعقَلُ وُجودُ الزَّمانِ قَبلَ أَوّلِ الحادِثاتَ، أَوّلُ الحادِثاتِ على ما جاءَ في الأَحاديثِ الصَّحيحَةِ عَن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ هو الماءُ، ثمّ العَرشُ المجيدُ، ثمّ القَلَمُ الأَعلى ثمّ اللّوحُ المَحفوظُ، ولم يَكُنْ لِلماءِ أَصلُ خَلقٍ مِنهُ إِنّما اللهُ تَعالى أَوجَدَ الماءَ بِقُدرَتِهِ مِن غَيرِ مادّةٍ سَبَقَتهُ.
اللهُ قادِرٌ على أَن يُخرِجَ الشّيءَ الأَوّلَ مِن غَيرِ أَصلٍ يِسبِقُهُ.
خالِقُ هذا العالَمِ لا يُشبِهُهُ
خَلَقَ اللهُ تَعالى الإِنسانَ مِن تُرابِ هذِهِ الأَرضِ الّتي نَعيشُ عَلَيها مِن جَميعِ أَلوانِها، أَمَرَ اللهُ تَعالى بَعضَ مَلائِكَتِهِ أَن يَقبُضَ قُبضَةً مِن جَميعِ أَنواعِ التُّرابِ، ثمّ رُفِعَت هذِهِ القُبضَةُ إِلى الجَنَّةِ فَعُجِنَت بِماءِ الجَنَّةِ، فَصارَ ذلِكَ التُّرابُ طينًا، ثمّ صارَ يابِسًا صِلصالاً كالفَخّارِ، ثمّ وَضَعَ اللهُ تَعالى فيهِ الرّوحَ الّتي خَلَقَها قَبلَ ذلِكَ فَصارَ إِنسانًا حَيًّا مُتَحَرِّكًا بِالإِرادَةِ والاختِيارِ، ومِن لُطفِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى على ذلِكَ الأَوّلِ مِنَ البَشَرِ الّذي هو ءادَمُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ أَن أَفاضَ عَلَيهِ مَعرِفَةَ أَسماءِ كُلِّ شَيءٍ مِن غَيرِ دِراسَةٍ على أَحَدٍ مِن مَلائِكَةِ اللهِ، بَل أُفيضَ عَلَيهِ إِفاضَةً، فَكانَ مِن أَوّلِ نَشأَتِهِ مُتَكَلِّمًا، فَهذا مِن لُطفِ اللهِ عَلَيهِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِمُجَرّدِ ما دَخَلَ الرّوحُ في ذلِكَ الهَيكَلِ البَشَرِيِّ، فَتَكَلَّمَ مَعَ الملائِكَةِ الّذينَ كانوا قَد خُلِقوا قَبلَ ذلِكَ بِزَمَنٍ يَعلَمُهُ اللهُ.
فَالحاصِلُ أَنَّ الماءَ الّذي كُوِّنَ مِنهُ هذا العالَمُ على اختِلافِ أَنواعِهِ يَرجِعُ إِلى ذلِكَ الأَصلِ الواحِدِ وهو ذلِكَ الماءُ الّذي تَحتَ العَرشِ، ولم يَكُن قَبلَ ذلِكَ الماءِ شَيءٌ لا زَمانٌ ولا مَكانٌ لأَنَّ الأَمكِنَةَ خُلِقَت مِنهُ، لأَنَّ أَوَّلَ جِرْمٍ جامِدٍ أَبدَعَهُ اللهُ تَعالى هو العَرشُ فَلَم يَكُن قَبلَهُ مادَّةُ جامِدَةٌ، ويجِبُ الإِيمانُ أَنَّ مُبدِعَ هذا العالَمِ لا يُشبِهُهُ بِوجهِ مِنَ الوُجوهِ، فَهو مَوجودٌ لا كَالمَوجوداتِ، وقَولُنا “لا كالمَوجوداتِ” يُفهِمُ أَنّهُ تَعالى مَوجودٌ بِلا بِدايَةٍ، مَوجودٌ بِلا خالِقٍ يَخلُقُهُ، لأَنّهُ لَم يَسبِقْهُ عَدَمٌ، كَيفَ يحتاجُ إِلى خالِقٍ؟ إِنّما يَحتاجُ إِلى الخالِقِ ما سَبَقَهُ العَدَمُ.
وهو تَبارَكَ وتَعالى أَيضًا مَوصوفٌ بِالقُدرَةِ والعِلمِ والإِرادَةِ لأَنَّ الإِبداعَ لا يَصِحُّ عَقلاً بِدونِ ذلِكَ، وهؤلاءِ الصِّفاتُ: العِلمُ والقُدرَةُ والإِرادَةُ لا يَصِحُّ الاتِّصافُ بها عَقلاً إِلاّ لمَن هو مَوصوفٌ بِالحياةِ، لكِن حياتُهُ تَعالى لَيسَ كَحياةِ غَيرِهِ، حَياتُنا بِروحٍ ولحمٍ ودَمٍ، وأَمّا حَياةُ اللهِ تَعالى الّذي أَبدَعَ العالَمَ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ لَيسَت كَهذِهِ الحَياةِ إِنّما هي صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدَيَّةٌ لا تَتَطوّرُ ولا تَتَغَيَّرُ.
لا شَيءَ أَزَليٌّ مَعَ اللهِ
اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أَبدَعَ النّورَ والظُّلُماتِ فَلَم يَكُن النّورُ قَديمًا أَزَلِيًّا ولا الظُّلمَةُ قَديمةً أَزَلِيّةً، بل كِلاهُما أَي النّورُ والظُّلمَةُ حادِثٌ بَعدَ أَن كانَ مَعدومًا، وَهَذا وإِن كانَ أَمرًا يَتَحَيَّرُ فيهِ الوَهمُ لكِنَّ العَقلَ الصَّحيحَ يَقبَلُهُ ويؤَيِّدُهُ، فَيَجِبُ عَلَينا أَن نَعتَقِدَ أَنّهُ لَم يَكُن في الأَزَلِ نورٌ ولا ظُلمَةٌ بَل كِلاهُما حادِثٌ بِدَليلِ تَعاقُبِهِما أَي سَريانِ الزَّوالِ على كُلٍّ مِنهُما، قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى دِلالَةً لَنا على أَنَّ النّورَ والظُّلمِةَ حادِثانِ لَم يَكونا في الأَزَلِ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُماتِ والنّور﴾ ]سورة الأنعام /1[ أَي خَلَقَ اللهُ الظُّلماتِ والنّورَ، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى هو خالِقُ النّورِ كَما أَنّهُ خالِقُ الظُّلمَةِ فَلا يُشبِهُ هذا ولا هذا، وَمَع ذلِكَ يجوزُ تَسمِيَةُ اللهِ تَعالى “النّور” ومَعنى ذلِكَ أَنَّ اللهَ تَعالى هادي مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، هو هَدى الملائِكَةَ سُكّانَ السّمَواتِ السّبعِ للإِيمانِ، هو خَلَقَ فيهِم المَعرِفَةَ والإِيمانَ فَكانوا مُهتَدينَ، وخَلَقَ فِيمَن شاءَ مِن أَهلِ الأَرضِ مِنَ الإِنسِ والجِنِّ الإِيمانَ أَيضًا، على هذا المَعنى يُقالُ اللهُ “نور”لا على مَعنى النّورِ الّذي هو ضَوءٌ، النّورُ بِمَعنى الضَّوءِ مَخلوقٌ حادِثٌ. أَلا تَرَونَ أَنَّ النّورَ يَذهَبُ فَتَخلُفُهُ الظُّلمَةَ، ثمّ تَذهَبُ هذِهِ الظُّلمَةُ فَيخلُفُها النّورُ، وهكَذا يَتَعاقَبانِ على الدَّوامِ، هذا دَليلُ الحُدوثِ هذا دَليلٌ على أَنَّ النّورَ لَيسَ أَزَلِيًّا ولا الظُّلمَةَ أَزَلِيّةٌ.
فَلا أَزَلِيَّ إِلاّ اللهُ، اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أَفهَمَنا ذلِكَ بِكَلِمةٍ واحِدَةٍ في القُرءانِ الكَريمِ، قالَ اللهُ تَعالى: ﴿هو الأول﴾ ]سورة الحديد/3[ أَي هُو الموجودُ الّذي لا بِدايةَ لِوِجودِهِ وما سِواهُ فَهو حادِثٌ، هذِهِ الجُملَةُ الموجَزَةُ مِنَ القُرءانِ الكَريمِ دَلَّت على هذا المَعنى العَظيمِ ﴿هو الأَوّلُ﴾ أَي هو لا غَيرهُ الأَوَّلُ المَوجودُ الّذي لا بِدايةَ لِوُجودِهِ أَي أَنَّ ما سِواهُ لِوُجودِهِ بِدايَةٌ، فَلا أَزَليَّ إِلاّ اللهُ ولا قَديمَ بِهذا المَعنى إِلاّ اللهُ.
فَنَحنُ نُنَزِّهُ اللهَ عَن صِفاتِ المَخلوقاتِ عَمَلاً بِقولِهِ تَعالى: ﴿لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ﴾ نَنفي سائِرَ صِفاتِ المَخلوقاتِ عَنهُ مِنَ التَّحَيُّزِ في المَكانِ والقُعودِ والاتِّكاءِ والتَّعَلُّقِ في الهَواءِ فَهو تَبارَكَ وتَعالى مُنَزَّهٌ عَن جَميعِ ذلِكَ.
كُلُّ ما سِوى اللهِ مخلوقٌ
يجِبُ على الإِنسانِ أَن يُوطِّدَ نَفسَهُ على اعتِقادِ وُجودِ اللهِ تَعالى بِلا مَكانٍ ولا وَصفِ قُعودٍ أَو استِلقاءٍ أَو اتِّكاءٍ أَو تَعَلُّقٍ كَوُجودِ هذِهِ الكَواكِبِ، هذِهِ الكَواكِبُ هي مُعَلَّقَةٌ بِقُدرَةِ اللهِ تَعالى في الفَضاءِ، واللهُ تَبارَكَ وتَعالى لا يجوزُ عَلَيهِ أَن يَكونَ كهذِهِ الأَشياءِ، ولا يجوزُ عَلَيهِ أَن يَكونَ كإِنسانٍ مَوصوفٍ بِالقُعودِ في المَكانِ، فَالعَرشُ الكَريمُ لَيسَ مَحلاًّ لِذاتِ اللهِ تَعالى إِنّما العَرشُ جِرمٌ عَظيمٌ خَلَقَهُ اللهُ تَعالى إِظهارًا لِقُدرَتِهِ لِيَكونَ مُشعِرًا بِتَمامِ قُدرَةِ اللهِ تَعالى فَالملائِكَةُ الحافّونَ حَولَهُ يَزدادونَ تَعظيمًا وإِجلالاً للهِ لأَنّهُم لمّا يَرَونَ اتِّساعَهُ الّذي لا نَظيرَ لَهُ يَزدادونَ عِلمًا بِكمالِ اللهِ تَعالى وكَمالِ قُدرَتِهِ وحِكمَتِهِ.
إِنّما المَكانُ صِفَةُ الحادِثِ الّذي لم يَكُن مَوجودًا ثمّ وُجِدَ، فَأَقدَمُ المَوجوداتِ الحادِثاتِ هو ذلِكَ الماءُ والّذي يَليهِ هو العَرشُ كُلٌّ مِنهُما حادِثٌ، ولَيسَ مَعنى الحادِثِ في هذا المَجالِ الشَّىءَ الّذي وُجِدَ مِن عَهدٍ قَريبٍ، بَل كُلُّ ما دَخَلَ في الوُجودِ بَعدَ أَن لم يَكُن مَوجودًا فَهو حادِثٌ، فإِذا كانَ العَرشُ الّذي لَم يَكُن قَبلَهُ شَىيءٌ مِن الأَجرامِ إِلاّ الماءُ حادِثًا فَما ظَنُّكُم بهذِهِ الأَرضِ الّتي نحن عَلَيها وهذِهِ النُّجومِ والكَواكِبِ.
الحاصِلُ أَنَّ كُلَّ ما سِوى اللهِ حادِثٌ أَي وُجِدَ بَعدَ عَدَمٍ.
وسُبحانَ اللهِ والحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ