المكذب بقَدَر الله هالك والتّقديرُ هو التّدبيرُ الأزلي التّابعُ لعِلْم الله الأزلي ومَشيئتِه الأزلية.
قال شيخنا رحمه الله
الحمد لله رب العالمين له النعمة ولهُ الفضل وله الثناء الحسن صلواتُ الله البرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانِه مِن النبيّينَ والمرسلين وسلامُ الله عليهم أجمعين أمّا بعد فإنه قَد ذُكر في حديث ابن حِبّان والحاكم المذكور في الدّرسَين السّابقَين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكَر في السّتة الذين أخبَر عنهم أنّه لعنَهُم ولعَنَهُم الله ولَعنهُم كلُّ نَبيّ مُجاب، ذكَر منهم المكذّبَ بقَدَر الله.
ومَعنى التّكذيبِ بقَدَر الله أن يعتقدَ الإنسانُ أن شيئًا مِنَ الأشياء يَدخُل في الوجُودِ بدون تَقدِير الله ومشيئتِه وتخليقِه وفِعْله، لا فَرقَ بينَ مَن يَنفِي تَقديرَ الله في الأجرام والأجسَام وبينَ مَن يَنفِي تقديرَ الله في حرَكاتِ العباد الاختياريةِ وغيرِ الاختيارية.
الاختياريةُ وغيرُ الاختياريّة مِن حركاتِ العِباد لا فَرق في أنّ وجُودَها وحصولها بتَقديرِ الله والتّقديرُ هو التّدبيرُ الأزلي التّابعُ لعِلْم الله الأزلي ومَشيئتِه الأزلية.
فالمكذّب بقَدَر الله هوَ أحَدُ أولئك الستّةِ الذينَ ذكَرهُم رسولُ الله في حديثهِ وهذا أشَدُّ أولئك الستّةِ جُرماً وذَنْبًا وإثماً، لأنّ بعضَ أولئكَ الستّةِ مسلمونَ مؤمنونَ إنما أرتَكبُوا ذنُوبًا كبيرةً، هذا الحديثُ الذي ذُكِر فيه الستّةُ رواه الحاكم في مستَدركِه ورواه ابنُ حبّان في صحيحِه والبيهقي في كتابِ القَدَر، ثم هناك حديثٌ صحّحهُ الحافظ محمدُ بنُ جَرير الطَّبري الإمام المجتهدُ المستقِلّ الذي كانَ في بَدْء أَمرِه شافعِيًّا ثم تَرقَّى إلى مَرتَبةِ الاجتهادِ المطلَق فصَار صاحِبَ مَذهَبٍ مَتبُوعٍ تَبِعهُ خَلقٌ نحوُ مِائتي سنة ثم انقَرض مَذهبُه، هذا صَحّحَ حديثَ عبد الله بنِ عُمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال :” صِنفانِ مِن أمَّتي ليسَ لهُما نَصِيبٌ في الإسلام القَدَريّةُ والمرجِئة ” هذا الحديثُ صحّحه هذا الإمام محمدُ بنُ جَرير الطّبري المتوفّى في أوائلِ القَرن الرّابع وهوَ مِنَ السّلَف لأنّهُ أدرَك القَرنَ الثالثَ الهجري الذي هو الحدّ الفاصلُ بينَ السّلَف والخلَف وصحّحهُ غيرُه كأبي الحسَن القَطّان وصحّحهُ أبو حنيفةَ رضي اللهُ عنهم أمّا أبو حنيفةَ فإنّهُ احتَجّ به في بعضِ كتُبِه التي ألّفَها في الاعتقاد، أبو حنيفةَ لهُ خمسُ رسائلَ ألّفَها في الاعتقاد،وقد أوردَ هذا الحديثَ في بعضِ رسَائلِه الخمسةِ وذلكَ دليلٌ على أنّهُ عندَه ثابِتٌ لأنّهُ احتَجَّ به في العقيدة, والعقيدةُ لا يُحتَجُّ بها إلا بحديث مشهُورٍ ثابتِ الإسناد، إن كانَ مُتواترًا وإنْ كانَ دونَ المتواتر، المشهورُ عندَ أبي حنيفةَ وكثِيرينَ مِن أهلِ السّنةِ شَرْطٌ للاحتِجاج بالحديثِ في العقيدة، أي أنّه لا يحتَجُّ بالحديثِ في العقيدةِ إلا أن يكونَ وصَلَ درجَةَ المشهور ولا يُشتَرطُ أن يَصِلَ درَجةَ المتواتِر، هذا الحديثُ صَريحٌ في نفي الإيمانِ عن هذَين الفَريقَين أحَدُهُما القَدَريّةُ وهمُ المعتزلة “نُفاة القَدَر”، جعَلُوا الله تعالى كالمثَل السّائِد: أَدخَلتُه دارِي فأَخرَجَني منها، جَعلُوا الله هكذا لأنهم قالوا اللهُ كانَ قَادرًا على أن يخلُقَ حرَكاتِنا وسكَنَاتِنا قبلَ أن يُعطِيَنا القُدرةَ علَيها فبَعدَ أن أَعطَانا القُدرةَ علَيها صار عاجِزًا عن خَلقِ هذِه الحركاتِ والسّكَنات، هذا شَىء ثابِتٌ عنهُم نَقَلَهُ عنهُم الإمامانِ الجليلان المشهُوران بعِلم الاعتقاد أحَدُهما أبو منصُور الماتريدي الملقَّب بعَلمِ الهُدى والثاني أبو منصور عبدُ القاهر بنُ طاهِر البَغدادي، ذاكَ إمامُ الحنَفِية وهذا إمامُ الشّافعِية، إمامُ أصحاب الشافعي يقولُ فيهِ ابنُ حجر وقالَ الإمام الكبير إمامُ أصحابِنا أبو منصور البَغدادي، هذان نَقلا عن المعتزلةِ هذا القَول الذي ذكَرناه عنهُم، وكذلك نسَب إلى المعتزلةِ هذا الاعتقادَ الإمام الفقيهُ الشافعي الذي هو مِن أصحاب الوجُوه، وهذه هيَ المرتبة التّالية لمرتبةِ الاجتهاد المطلَق في المذهب، وهوَ المتوَلّي صاحبُ كتابِ التّتِمَّة، كتابٌ مُعتَبرٌ في فقه الإمام الشّافعي، وهذا الإمام يُعَدُّ مِن المتقدّمينَ، وقَد نسَب إلى المعتزلةِ هذا القَولَ في كتابٍ له في المُعتقَد، في التّوحِيد، وكذلكَ نَسَبَ إليهم ذلك الإمامُ شيثُ بنُ إبراهيم في كتاب لهُ سمّاه حَزَّ الغَلاصِم في إفحام المخَاصِم، هؤلاء الأئمّة الأربعةُ نسَبُوا إلى المعتزلةِ هذا القَولَ، هؤلاء همُ الذينَ سمّاهُمُ الرّسولُ القَدَريّة، أمّا المرجئةُ فهُم طَائفةٌ ضالّونَ اعتَقَدُوا أنّ الإنسانَ إذا آمَنَ بالله ورسوله لا يَضُرُّهُ أيُّ ذَنبٍ يَعمَلُه إن كانَ كبيراً وإن كانَ صغِيرًا وهُم في ذلكَ متَوهّمُونَ يظُنّونَ أنهم وافقُوا القُرآن لأنّ بعضَ الآياتِ القُرآنيةَ ظاهرُها يوهمُ ذلكَ لكنّه ليسَ معنى القرآنِ المرادِ للهِ تبارك وتعالى إنما هُم ضَلُّوا السّبيلَ غَلِطُوا في فهمِهِم لتِلكَ الآيات القُرآنية على خلافِ مَعانيْها, فوَضَعُوها في غيرِ مَواضعِها كمَا أنّ المعتزلةَ ينتَسِبُون إلى الإسلام بل يَظُنّون أنّهُم هم المسلمونَ الحقيقيّون ومَن سِواهُم عندَهم كُفّار, أهلُ السُّنّة عندَهُم كُفّار. وكذلكَ هُم عِشرُون فِرقة يُكَفّر بعضهُم بعضاً كُلُّ فِرقةٍ تُكفّرُ الفِرقةَ الأخرى , أمّا المرجئة فهُم أقَلُّ عَددًا. فالرسول صلى الله عليه وسلم عَنى بحديثهِ الذي ذكَرناه هاتَين الطّائفَتين المرجئة و المعتزلة.