الله علِمَ في الأزل وشاءَ وقَدّر أنّ العبادَ يعمَلُون كذا مِن حركاتٍ وسكُون ونَوايا باختيارهِم
الحمدُ لله ربّ العالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضل ولهُ الثّناء الحسَن وصلَواتُ الله البرّ الرّحيم والملائكةُ المقرّبين على سيّدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آلِه وصَحبِه وجميع إخوانه الأنبياء والمرسلين أمّا بعد فقد روّينا بالإسناد المتّصل مِن صحيح الإمام مسلم بنِ الحَجاج من حديث عمران بنِ الحصين رضي الله عنه أنه قال لأبي الأسود الدُّئليِ أرأيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أشَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى علَيهم أو فيما يَستَقبلُونَهُ فيما أتَاهُم به نبيُّهم فثبَتَت الحُجّةُ علَيهم وفي روايةٍ للبَيهقي أرأيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُون فيه أشىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى علَيهم مِن قدَرٍ قَد سبَق أو فيما يُستَقبَلُونَ به مما أتاهُم بهِ نبِيُّهم وثبَتتِ الحُجّةُ علَيهم، قال أبو الأسود بل شىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى علَيهم، فقال عِمرانُ رضيَ الله عنه أفلا يكونُ ظُلمًا، قال لا، قالَ ففَزِعتُ فزَعًا شَديدًا وقلتُ لا يكونُ ظُلمًا لأنّ كلَّ شىءٍ خَلْقُه ومِلْكُ يدِه، قال عِمران يَرحمُك الله إني لم أُرِدْ بما سألتُك إلا لأحزِرَ عَقلَك(أي أمتحن فهمك للدّين)، إنّ رجُلَين مِن مُزَينَة أتَيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالا أرأيتَ يا رسولَ الله ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيهِ أشىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى علَيهم أو فيما يَستقبِلُونَه مما أتاهم بهِ نبيُّهم وثبَتتِ الحُجّةُ عليهم، فقال صلّى الله عليه وسلم “بل شىءٌ قُضِيَ عليهِم ومضَى علَيهم وتَصديقُ ذلكَ في كتابِ الله :” ونَفسٍ وما سَوّاها فألهَمها فجورَها وتَقواها “. هذا الحديث رواه مسلم في صحيحِه والبيهقي وغيرهما، أبو لأسود الدُّئلي هو مِن مشَاهير التّابعين الذين تلَقَّوا العِلم عن الصّحابة أخَذَ ورَوى عن كثيرٍ منَ الصّحابة كعليّ بنِ أبي طالِب وعِمران بنِ الحُصَين وغيرهما وروى عنه الكثير منَ التّابعِين، أمّا عِمران بنُ الحُصَين فهو أحَدُ فقهاء الصّحابة المجتهدين المشهورين بالعِلم حتى قيلَ إنّهُ لم يَدخُلِ البَصرة أفقَهُ مِن عمرانَ بنِ الحُصَين أي أنّ كلَّ مَن دخَل البَصرة مِن أصحابِ رسولِ الله فعِمرانُ أفقَهُهم، هذا عمرانُ رضي الله عنه سألَ أبا الأسود الدُّئلي ليمتَحِنَه ليَمتحِن فَهمَه بالعقيدة قال أرأيتَ أي أخبرني ما يَعملُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُون فيهِ أي أخبِرني عن أعمالِ الناس التي يعمَلُونها اليومَ ويَسعَون لها أشىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى علَيهم مِن قدَرٍ قَد سبَق، المعنى هل كلُّ ما يَعمَلُه الإنسان مِن حَركات وسَكناتٍ ونَوايا وقُصُودٍ وإراداتٍ شىء قضَاهُ الله وقدّرَه أي ذلكَ شىءٌ قضَاه الله وقدّرَه أن يكونَ منهم باختيارِهم أو هو مما لم يقدّرْه الله إنما هُم مِن تِلقاء أنفُسِهم مِن غير أن يكونَ للهِ تصَرُّف فيه يعمَلُون، أو هل هم ليسَ لهم اختيارٌ بل هم مَسلُوبو الاختيار بالمرّة فأجابَ أبو الأسود بأنّهُ شىءٌ قُضِي علَيهم ومضَى عليهم أي أنّ الله علِمَ في الأزل وشاءَ وقَدّر أنّ العبادَ يعمَلُون كذا مِن حركاتٍ وسكُون ونَوايا باختيارهِم، فلَمّا أجابَ هذا الجوابَ الذي هو جوابُ أهلِ الحقّ الصّحابة ومَن تبِعَهُم بإحسان أرادَ أن يزيدَ في امتحانِه فقال أفَلا يكونُ ظُلمًا المعنى إن كانَ الإنسانُ يَعمَل فيما قدّر الله تعالى يعمَل على حسَب تقدير الله الأزلي وعِلمِه ومشيئته ثم حاسبَه في الآخرة على هذا العمَل الذي عمِلَه العبدُ بتَقديره وعلمِه ومشيئتِه الأزلية فعاقبَه ألا يكون ذلكَ ظُلمًا أي إذا حاسبَه على معاصيْه فعاقبَه عليها أفلا يكونُ ظُلمًا، قال أبو الأسود ففَزِعتُ فزَعًا شَديدًا وقلت (اللهُ ألهمَه الصّواب) كلُّ شىءٍ خَلْقُه ومِلكُ يدِه لا يُسأل عما يفعَل وهم يُسألون المعنى أنّ الله لا يُحكَم لا يَحكُمُه أحَدٌ هو فعّالٌ لما يُريد جعَل الأعمالَ أماراتٍ أي علاماتٍ ووَفّق بعضَ الناس بأن يكونوا يختارون الهُدى والصّالحات منَ الأعمال ويَنسَاقُوا إليها باختِيارهم على حسبِ عِلم الله ومشيئتِه وتقديرِه الأزلي فيكونُوا مِن أهلِ النّعيم المقيم وأن ينسَاق قِسمٌ منهم باختِيارهم إلى ما نهَى الله عنه مِن غيرِ أن يَخرجوا عن تقديرِ الله الأزلي وعِلمه الأزلي ومشيئتِه الأزلية، أجابَ أبو الأسود جَوابًا صحيحًا وهو أنّ الله تعالى إذا حاسَب العصاةَ فعاقبَهم لا يكونُ ظَالما أي لأنّه ليسَ محكُومًا لأحَدٍ هو الحاكم ليسَ له حاكم هو الآمرُ ليسَ لهُ آمِر تَصرّف فيما لهُ لم يتصَرف فيما ليس له.
هوَ الظُّلمُ في لُغةِ العَرب أن يتَصرّف بما ليسَ لهُ والله تعالى كلُّ شىء خَلْقُه ومِلْكُه هو أنشَأ هذا العالَم بأسره بقُدرته الأزلية، ثم جعَل قِسمًا مِن خَلقِه ذوي عقُول ركّب فيهم التّميِيز ركَّب فيهم ما يميّزون به بينَ الحسَن والقبِيح وهو العقل وكلَّفَهم أي ألزمَهُم أن يُطيعُوه فيما يبلّغهم أنبياء الله تعالى : افعلوا يا عبادي ما يُبلّغكم عني رسُلي وانتَهُوا عما يبلغُكم على ألسِنة رُسلِي أني حرّمتُه عليكم، ثم قِسمٌ منهُم يَنساقُ إلى ما سبَق لهم في عِلم الله الأزلي أنهم يختَارون الهُدى ويعمَلُون الصّالحات ويجتَنبُون المحرّمات وينسَاق قسمٌ منهُم إلى ما علِم الله تعالى منهم أنهم ينسَاقُونَ إليه باختِيارهم منَ الكفر والمعاصي فيُجازي هؤلاء وهؤلاء، فيُجازي هؤلاء في الآخِرة بالنّعيم المقيم وهؤلاء بالعَذاب المقيم، جعَل هذه الأعمالَ التي تَظهر عليهم بقُدرته تبارك وتعالى علاماتٍ على الإيمان والعمل الصّالح وجعَل الكفرَ والمعاصي علاماتٍ على هذا العَبد الذي أجريَت على يديه مِن أهلِ العذاب المقيم، لا يُقال لم لم يجعَل كُلا منهُم مُطِيعِين لا يَعصُونه طَرفةَ عَين كجِبريل لأنّهُ فعّالٌ لما يُريد ليس محكُومًا لأحدٍ بل هو الحاكمُ لغَيره وهو الآمرُ لغَيره والناهي لغيره، أمّا هو ليسَ لهُ آمرٌ ولا ناهي.
سئل الشيخ:هل يقال عن الله حر
ج: لا نقول عن الله حرّ لأنّ كلمةَ حُرّ في اللغة مُقابل العَبد، الإنسانُ إمّا أن يكونَ حُرًّا وإمّا أن يكونَ عَبدًا مملوكًا، الإنسانُ لهُ صفَتان الحريّة وهيَ الأصل والأكثَر والرّقيّة وهي الأقلّ وهي تَطرأ على خِلاف الأصل.
سئل الشيخ: إذا كنّا نجادِل هؤلاء الملحِدين الذين نجابهُهم بهذا المنطِق وهو منطِقٌ سلِيم ويقولون لم تحاولُون أن تَهدُونا إن كان الله شاءَ لنا عدَم الهداية فلِم تحمّلُون أنفسَكُم ما لا يُطلَب منكم فماذا نقولُ لهم غير الله فعّال لما يريد
ج: نقول لهم هذا ليسَ ظُلمًا على الله، الظُّلم التّصرف فيما ليسَ له، الله تعالى كلّ شىء له.
س: إن قالوا إذا كانَ الله شاءَ لنا أن نفعلَ كذا مِنَ الكفر والمعاصي فماذا نَفعل.
ج: أن يقال المستقبلُ غَيبٌ عنّا ما بَعدَ هذه اللّحظة غَيبٌ عنّا فالذي علَينا أن نَسعى لأن نكونَ قائمينَ بحقوق الله تعالى وحقوقِ عبادِه التي أمرَنا بها ونعتقد في الوقتِ نَفسِه أنه إنْ كانَ الله علِم وشاءَ أنّنا نَسعَى للخَيرات كانَ ذلكَ علامَةً على أننا منَ الذين شاءَ الله لهم أن يكونوا مِن أهل النّعيم المقِيم في الآخرة وإن لم يتيَسّر لنا ذلك فلا نكونُ مِن أولئك فلا نستَحقّ ذلك بل نخشَى أن نكونَ منَ الذين أرادَ الله بهم أن يكونوا مِن أهل العذاب المقيم، كما أنّ الإنسان يَبْذُرُ البَذْرَ وهو لا يَعلَمُ عِلمَ يَقين أنه يُدركُ محصولَ هذا الزّرْع فإمّا أن يموتَ قَبلَه وإمّا بأن تحدُثَ آفَةٌ، عاهَة لهذا البَذْر فتُتلِفه، فتُفسِده، فلا يُدرك الانتفاع بهذا الزّرع إنما نَشرع فيه على الأمل أي على احتِمال أننا نعيش حتى يُدرك هذا البَذْر فيَصير حبًّا، قُوتًا، أو ثمارًا يُنتَفع بها، كذلك أحدُنا إذا أصِيبَ بمرض يتَداوى على الأمَل لا يَقطَع به بأنّه يتَعافى بهذا الدّواء بل يقولُ يحتَمل أن أتعَافى بهذا الدّواء ويحتَمِلُ أنْ لا أتعَافى به، وهذه الأمورُ الدّينيّة أمور الآخرة كذلكَ العَواقبُ عنا مستُورة، محجُوبة، إنما نَعلَم ما حَصَل قبلَ هذا فنَقول هذا حصَل بمشيئةِ الله أمّا ما لم يقَعْ بَعدُ فإنّهُ غَيبٌ عنّا، وكما لا يجوز للإنسان أن يَقعُدَ ويقول ما قدَّر الله تعالى لا بُدّ لأنْ يصِل إلى جَوفي ولا يسعى بوَجهٍ منَ الوجُوه بل يُعرّض نفسَه للتّلف بالجُوع، كذلك لا يجوز أن يقولَ الإنسان أنا إن كانَ اللهُ كتَب أني سعيد لا بُدّ أن أكونَ سَعيدًا وإن كانَ كتَبَ لي غيرَ ذلك لا أكونُ سعيدًا، ثم يُقال فِعْلُ الله لا يُقَاسُ على فِعلِ المخلوق، أمامَنا أمرٌ يوافِق عليه المؤمِنُ والملحِدُ وذلكَ الانتفاعُ بهذه البهائم، هذه البهائمُ خَلْقٌ كما أنّنا خَلْقٌ هيَ تحِسُّ باللّذّة والألم كما أنّنا نُحِسّ باللّذة والألم فهل يَعتَرض أحَدٌ منّا على ذَبْح هذه البهائم للانتِفاع بها هل هو محَلُّ اعتراض؟ هل يقولُ أحَدٌ منّا أو مِنكُم هذه البهائم لها أرواح كما أنّ لنا أرواحًا وتُحِسُّ بألم كما أننا نحِسُّ بألم فإذًا لا يجوز لنا أن نقضيَ علَيها للوصولِ إلى لذّاتِنا، فيُقال لهم كما أنْ لا اعتراضَ لكُم في هذه ليسَ لكُم اعتِراضٌ على أنّ الله تبارك وتعالى يُوفّق مَن يشاءُ ويَخذُل مَن يَشاء فيكونُ الذين وفّقَهم مِن أهل النّعِيم المقيم في الآخِرة ويكونُ الذين لم يوفّقهم بل خذَلهم مِن أهلِ العَذاب المقِيم.