في مذهَب الإمام أبي حنيفةَ زيارةُ القبُور فيها ثواب للرّجالِ والنِّساء
قال شيخنا رحمه الله
الحمد لله ربِّ العالمين لهُ النِّعمةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن، صلواتُ الله البرّ الرّحيم والملائكة المقرّبين على سيدِنا محمّدٍ أشرَف المرسلين وعلى جميع إخوانِه منَ الأنبياء و المرسلين وسلامُ الله عليهم أجمعين، أمّا بعدُ فقد رُوّينا بالأسانيد المتصلة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال :” مَن نذَرَ أنْ يُطِيعَ الله فلْيُطِعْهُ ومَنْ نَذَرَ أن يَعصِيَهُ فلا يَعصِه “رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم. النّذرُ واليمينُ كِلاهما إذا كانَ مُعَلَّقًا بمعصيةِ الله فلا يجوز تَنفِيذهُ، إذا نذَر شخصٌ أن يَضرِبَ فلانًا ظُلمًا أو يُهينَهُ ظُلمًا أو يُتلِفَ لهُ مَالا ظُلمًا فلا يجوزُ لهُ أن يفيَ بنَذْرِه هذا بل علَيهِ أن يَكسِر هذا النّذرَ لأنّ النّذرَ وُضِعَ للتّقرُّب إلى الله، الله تبارك وتعالى يُحِبّ الوفاءَ بالنّذر إذا كانَ ذلك النّذرُ فيما يُحبُّ الله تعالى مِن نوافل العبادات كالصّدقة، صدقةِ التّطوّع وصيامِ النَّفل وصلاةِ النّفل والاعتكاف في مسجد وحَجِّ التطوّع، حجّ النفل، النذرُ في ذلك يصحّ يجبُ الوفاء به، مَن نذَر أن يتصَدّق صدَقةَ تطَوُّعٍ أي غير الزّكاة فيجبُ عليه أن يفِيَ، كذلكَ مَن نذَر أن يصومَ غيرَ رمَضانَ يجبُ عليهِ أن يَفِيَ، كذلك مَن نذَر حَجّ التّطوعِ أي غير الفَرض وجَب عليه أن يفيَ.
كذلكَ سائر القُرُبات، أي كلُّ شىءٍ فيه تقَرُّبُ لله مَن نذر أن يفعلَه وجَب عليه أن يفعلَه فإذا لم يفِ بنذره فهو آثمٌ عندَ الله فعليه عقُوبةٌ، يستحِقُّ عَذابًا مِنَ الله تعالى في الآخرة، ثم إنّ النّذر الذي يحبّ الله تعالى هوَ الذي يكون فيه تقرّبٌ إلى الله تعالى كما وصَفْنا الآن.
يَنذُر الشّخصُ صَومَ نَفلٍ أو صَلاةَ نَفلٍ أو صَدقةَ تطَوُّع أو نحو ذلك، هذا نَذْرُه فيه ثوابٌ والوفاءُ بهِ فيهِ ثَواب، أمّا إذا لم يكن النّذرُ لله تعالى، لو كان لغَيره فقَد يكونُ ذلكَ شِرْكًا وكُفرًا كما لو نذَرَ شَخصٌ لوليٍّ أو وليّةٍ تقَرُّبًا إلى ذلك الوليّ أو تلكَ الوليّة ليسَ بنيّة التّقرب إلى الله تعالى فهذا باطِل، هذا كفرٌ، مثلاً إنسانٌ يَنذرُ لوليٍّ مِنَ الأولياء كالأوزاعيّ أو وليّةٍ مِنَ الوليّات كستِّنا زينب بنتِ علي بن أبي طالب أختِ الحسين التي يُقال إنها مَدفُونة في الشّام وبعض الناس يقولونَ إنها في القاهرة، مَن نذَر للأوزاعي أو للسيّدة زينب أو غيرها مِنَ الأولياء والوَليّات لا بنيّةِ التّقرّب إلى الله بالتّصدّق عن رُوح هذا الوليّ أو هذه الوليّة بل بنيّةِ أنّ هذا الوليّ أو هذه الوليّةَ النّذرُ لهما يَقضِي الحاجات ويُفَرّجُ الكُربات ناسِيًا الله تعالى ما خطَر ببالِه التّقرّب إلى اللهِ هذا نَذْرٌ فاسدٌ محرَّمٌ يكونُ شِرْكًا عِبادَةً لغَير الله، الخَلقُ كلُّهُم عبادُ الله، الأنبياءُ والأولياءُ ومَن سِواهم كلُّهم عبادُ الله، لا يَستحقونَ أن يُتذلّل لهم نهايةَ التّذلّل، فالله تبارك وتعالى الذي خَلَقَنا وخَلَق العالَم كلَّهُ خلَق الملائكةَ وخلَق الأولياءَ والأنبياء، هو الذي يستَحقُّ أن يُتذلّل لهُ نهايةَ التّذلّل أمّا غيرُه لا يَستحِقّ، وغيرُ الله يُعظَّم تعظيماً يَليقُ به لا كتعظيم الله، الأنبياءُ يُعَظَّمُون لكن لا كتعظيم الله والأولياءُ كذلك، فالذي ينوي التّقرّبَ إلى غيرِ الله مِن وَليّ أو وليّةٍ على اعتقادِ أنّ هذا الوليّ النّذرُ لمقامِه فيه خصُوصيّةٌ لقَضاءِ الحاجَات ودَفع البلايا والمصائب والمشَاكل هذا يكونُ عبَدَ هذا الوليَّ أو هذه الوليّة، إذا نذَر على هذا الشّكل يكونُ عبَدَ غَيرَ الله، ومَن عبَدَ غَيرَ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ، كما أنّهُ لا يجوزُ الصّلاةُ لغَيرِ الله تعالى كذلكَ النّذر بنيّةِ التّقرّب إلى عبدٍ مِن عبادِ الله وليّ أو وليّةٍ لا يجوز، فكثيرٌ مِنَ النّذور ليس فيها ثوابٌ بل فيها معصيةٌ بل فيها إشراكٌ وكفر، بعضُ الناس لما يَنذُرونَ لبَعضِ الأولياء لا يخطُر ببالهِم التقرّبَ إلى الله، بهذا النّذر لا ينوُونَ أنهم يتصَدّقُونَ عن هذا الوليّ أو هذه الوليّة، أي لا يقصِدُون أن يصِلَ ثوابُ هذا النّذر إلى ذلك الوليّ أو تلكَ الوليّة، كلُّ توَجّه قلوبهم إلى أن هذَا الوليّ أو هذه الوليّةَ لهما خصُوصيّةٌ في دفع البلاءِ عمّن يَنذُر لهم أو في جَلب المصالح هذا قصدُهم، لا يقصدُون التّقرّب إلى الله بالتصدّق عن روح الوليّ أو الوليّة، يظنُّون أنّ هذا القبر الذي ينذرُون له لهُ خصُوصيّة في دفع البلاء أو قضاءِ الحاجات، تيسِيرِ الحاجات، هؤلاء نذرُهُم فاسد ويكسِبُون معاصي، بل يكفُرون لأنهم عبَدُوا غيرَ الله، كثيرٌ منَ الناس يَنذُرون للمشَاهِد(المشاهد هيَ مقَاماتُ الأولياء والوليّاتِ كمقام الأوزاعي) هؤلاء بعيدُونَ مِنَ الله كلَّ البُعد حتى إنهم لا يفهمونَ معنى لا إله إلا الله، يقولونها ولا يفهمونَ معانيَها ومنْ هذا النوع الذينَ يَنذُرونَ الشّمُوع لتُشعلَ عندَ مقَام مِن غيرِ أن يَنوُوا أن ينتَفعَ مَن يوجَدُ هناك مِنَ الناس بالاستضاءة بهذه الشموع إنما قَصدُهم تعظِيمُ صاحبِ البُقعة بهذا الإشعال، إشعالِ الشّمُوع، لا يقصِدُون التّقرّبَ إلى الله ليَنفَع مَن حَولَ هذا المقام ليَستَعينَ به في قراءةِ القرآن أو نحو ذلكَ، وكثيرٌ مِن المشاهِد تُشعَلُ فيها الشّموع نهارًا مِن غَيرِ قَصدِ أن يَستضيء بها أحَدٌ لقِراءةِ القرآنِ أو نحوِ ذلك، ضَلّوا وهلَكُوا لأنّ الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم لعَنَ الذينَ يتّخذون السُّروجَ على القبُور، الذينَ يتّخذون السُّرُجَ أي الأضواءَ على القبُور هؤلاء مَلعُونُون، الذي يُشعِلُ الشّمع أو الكهرباء مِن أجلِ تَعظيم هذه البُقعةِ لا بنيّةِ أن يَنتفعَ بعضُ المسلمين الذين يكونونَ في هذا المكانِ للقراءة في المصحَف أو كتابِ عِلم أو كتابِ ذِكرٍ، إنما مجرّدُ الإشعالِ في هذا المكان عندَهُم فيهِ خصُوصيّة لأنّ صاحبَ المقام على زَعمِهم يَقضِي لهم الحاجاتِ مِن أجلِ تَعظيمِهم لمقامِه،ويزعمُون أنّه يَدفَعُ عنهم البلاءَ هؤلاء فِعْلُهم مَردُودٌ غيرُ مقبُول عندَ الله، فِعلُهم فيهِ معصيةٌ فمَن رأى مَكانًا يُشعَلُ فيهِ الشُّموع في النهار مِن غَيرِ أن يكونَ هناكَ ظَلامٌ بل لمجرّد تَعظيم هذِه البُقعةِ إن استطَاع فَرضٌ عليه أن يُطفىءَ هذه الشّموع ويَذهبَ بها ويُعطيَها لفَقير ليُشعِلَها في بيتِه، لأنّ هؤلاء والعياذُ بالله كعبَدةِ الأوثان الذين يَعبُدونَ الأحْجَار أو الأشجَار، الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم قال :” لَعنَ اللهُ زَوّاراتِ القبُور والمُتّخِذينَ عليها المساجِدَ والسُّرُج ” رواه الترمذي، أمّا الزّوّاراتُ القبُور معناه النِّساءُ اللاتي يُكثِرْنَ مِن زيارةِ القبُور هذا قَبلَ أن يُحَلِّلَ اللهُ زيارةَ القبُور، وزيارةُ القبُور كانت حرَامًا على الرِّجالِ والنِّساء ثم أحَلَّها الله تعالى، لما كانت زيارةُ القبُور حَرامًا على الرِّجَال والنساءِ قال ذلك رسولُ الله ثم بعدَ ذلك جاءه الوحيُ بالإذن فقال كنتُ نهيتُكُم عن زيارةِ القبُور ألا فزُورُوها، النّهيُ الذي كانَ سبَق انتَسَخ، التّحريم الذي كانَ قبلَ أن تَنزلَ الرُّخصَةُ بالوَحيِ منَ الله إلى الرّسول بالتّحليل كانَ زيارة القبُور على الرّجال والنّساء حَرامًا ثم رخّص اللهُ تبارك وتعالى في زيارةِ القبُور أمّا اتّخاذ القبُورِ مسَاجدَ وإشعالُ السّرُوج أي الأضواء على القبُور بقِيَ حَرامًا، الآنَ لا يجوزُ أن نَبني مسجِدًا على قَبرٍ لتَعظيم هذا القبر بالصلاةِ إليه، حرَام، يكونُ شَبِيهًا بعبادتِه لو لم يقصِد الشّخصُ عبادةَ هذا القَبر لكن شَبيه.
كذلكَ إشعالُ الأضواء، اتّخاذ السّرُوج حرام، أمّا بناءُ القَبر مَنهِيٌّ عنهُ ممنوعٌ، قال بعض العُلماء إذا كان يُخشَى إن لم يُبْنَ أن تَستَخرجَهُ السِّباع، تحفِرُ السّباع لتأكلَ جسَد الميّت يجوز، لحِفْظ جسَد الميِّت قالوا يجوزُ إن كانَ يخشَى على جسَد الميِّت أن تحفِر عنه السّباعُ القَبرَ لتَأكُلَهُ قالوا يجوز.
كذلكَ إذا كانَ يُخشَى أن ينبُشَهُ الناسُ قبلَ أن يمضِيَ عليه مُدّةُ البِلَى ليَدفِنُوا فيهِ الميِّتَ الجديد حِفظًا لهذا المكان مِن أن يُنبَش قبلَ أن يَبلَى جَسدُ هذا الميِّت قالوا يجوزُ لهذين الغَرضَين يجوزُ البناءُ على القبر وإلا فلا يجوز، قالوا هذا كانَ في الجبّانةِ العامّة في أرضٍ مشتَركةٍ للمسلمِين، هذا يَدفِنُ فيه ميّتَه وهذا يأخُذ ميّتَهُ إليهِ وهَذا وهذا، أمّا إذا دُفِن شَخصٌ في أرضٍ تَخُصّه، أهلُه الورثةُ رضُوا بأن يَدفنُوه في أرضِه يجوزُ هذه ما فيها معصية والبِناء عليه لو بُنيَت عليه قُبّةٌ كبِيرةٌ ليسَت حَرامًا لأنّ هذا يبُنى علَيهِ في أرضٍ تَخُصُّه ليسَ بِناءً في جَبانّةٍ عامّةٍ أمّا إذا بُني القَبرُ في الجبّانةِ العامّةِ ففِيهِ تحجِيرُ هذِه البُقعةِ على الناس الذين يأتُونَ بأمواتهِم فيما بعدُ لأنهم يَتركُونَهُ ويَعدِلُونَ إلى مَكانٍ آخَر، لما يأتونَ بالميّت الجديد ويرَونَ على هذا المكانِ هذا البناءَ يَستَصعِبُونَ يقولونَ متى نَنقُضُ هذا البناءَ فنَحفِر لميّتِنا لنَدفِنَهُ فيه فيترُكونَ هذا المكانَ فصَارَ فيه حَجْرٌ للحَقّ العامِّ على المسلمين، صارَ فيهِ حَجْرٌ على الناس في الحقِّ العامّ.
فزيارةُ القبُور بَعدَما أحَلَّها الرّسولُ هيَ جائزةٌ للرِّجال والنِّساء وفي مذهَب الإمام أبي حنيفةَ زيارةُ القبُور فيها ثواب للرّجالِ والنِّساء ليسَ للرِّجال فقط وفي بعضِ المذاهب كمذهب الشافعي زيارةُ النساء للقبور ليسَ فيه ثواب إنما زيارةُ الرِّجال فيها ثواب، لكن الشافعِيّة يقولون بعدَما نزَلت الرُّخصَةُ هيَ جائزةٌ للرِّجال والنِّساء إنما للرِّجال مسنونةٌ، سنّةٌ، أمّا للنساءِ فمَكروهَةٌ، ليسَت حَرامًا، فمَن شاءَ يأخُذُ بالمذهَب الشّافِعيّ فيَقولُ زيارةُ النّساءِ للقُبور مَكروهةٌ، ليسَت حَرامًا ومَن شاءَ يَأخُذُ بمذهَبِ أبي حنيفةَ فيَعتَبِرُ زيارةَ النِّساءِ للقبُور سنّةً كما هيَ للرِّجال، وهذا أي مذهَبُ أبي حنيفةَ في هذِه المسألةِ أَوْلى بالعمَلِ به، المرأةُ إذا لم تتَزيّن ولم تتعَطّر وذهبَت إلى قَبرِ مَن يخُصُّها بقَرابةٍ أو لا يخصّها إنما هو قَبرُ مسلِم فلها ثواب، حتى في حَالِ الحيض لو ذهَبت فسلّمَت تَسليمًا ولم تقرأ القرآنَ يجوز ولها ثوابٌ لأنّ الحيضَ لا يمنَع إلا مِن قراءةِ القرآن لا يمنَعُ مِنَ الاستغفار والصّلاةِ على النبي والتسبِيح والتحمِيد والتكبِير والتهليلِ ولا يمنَعُ مِنَ الدّعاء، مِن دعاءِ الله تعالى.
فإذا قرَأ شخصٌ القرآنَ على قَبرِ الميِّتِ يصِلُ بلا دعاءٍ أمّا إن كانَ في غَيرِ قَبرِ هذا الميِّت يَدعُو بعدَ القِراءة، يقول اللهُمّ أوْصِل ثوابَ ما قرَأتُ إلى رُوحِ فُلان أو فلانةَ أو إلى أرواحِ أهلِ هذه الجبّانة، أو يقولُ اللهمّ أوْصِل ثوابَ الفاتحة إنْ كانَ قَرأ الفاتحةَ أو ثوابَ ما قرَأتُ، هذا يكونُ شَرطًا إذا لم تكن القراءةُ على القَبر، أمّا إذا كانت القراءةُ على القَبر دعَا أو لم يَدْعُ تَنزلُ الرّحمةُ على هذا القَبر لأنّهُ قَرأ القرآنَ عندَهُ أمّا إذا كانت القراءةُ في البيتِ للشّخص الميِّت فيَدعُو بعدَما يَقرأ أو قَبلَ أن يقرأ يقولُ اللهمّ أوْصِل ثوابَ ما أقرأه إلى روح فلانٍ أو فلانةَ أو إلى أرواحِ هذِه الجبّانة.
إذا كانَ الدّعاء قبلَ القراءة يقولُ اللهم أوصل ثوابَ ما أَقرأه إلى روح فلان.
نرجع إلى مسألة النّذر الذي هو معصيةٌ ما يفعلُه بعضُ الناس في هذه البلاد تَنذُر المرأة أن تَشحَذ مِنَ الناس مِن أجلِ ولَدِها، تَنذُر فتَدُور على الناس لِتَلُمّ، وهذا لا يجوز، الشّحاذةُ لا تجوز إلا لضَرورةٍ، الإنسانُ الذي لا يجِدُ ما يكفيْه لقُوتِه أو لِباسِه الضّروري يجوزُ أن يَشحَذَ قالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :” مَن نذَر أن يُطِيْعَ اللهَ فَلْيُطِعْه ومَن نذَر أنْ يَعصِيَهُ فلا يَعصِه “