المدينةُ حَرمٌ ما بَينَ عَيْرٍ إلى ثَورٍ وتُرابُها فيهِ شِفاءٌ بإذنِ الله
قال شيخنا رحمه الله
أمّا حَرمُ المدينةِ فإنما صارَ حَرمًا بَعدَما نزَلَ الوَحيُ على الرّسول بتحريمِه، وحَدُّ حرَمِ المدينةِ ما بينَ جبَلَينِ جَبلٌ يُسَمّى ثَورًا وجبَلٌ ءاخَر يُقابلُه يُسَمّى عَيْرًا، الرّسولُ قالَ “المدينةُ حَرمٌ ما بَينَ عَيْرٍ إلى ثَورٍ مَنْ أَحْدَث فيها حَدثًا أو آوَى مُحدِثًا فَعلَيهِ لَعنَةُ الله والملائكةِ والنّاسِ أجمَعِين“رواه البخاري ومسلم. في هَذا الحرَم، في هذه السّاحَةِ مَن قَتلَ إنسانًا ظُلمًا أو قَطَع طَرَفًا ظُلمًا أو آوَى جَانيًا ليَحُولَ بينَهُ وبينَ أَخْذِ الحقّ منهُ فتُصيبُه تلكَ اللّعنَة، ثم إنّ الرسولَ صلّى الله عليه وسلم ذكَر أنّ الذي يُخِيفُ أهلَ المدينة يُذِيبُه اللهُ تبارك وتعالى كما يَذوبُ الملحُ في الماءِ قال عليه السلام” من أرادَ أهلَها بسُوءٍ أذابَهُ الله عزّ وجَل كما يذُوبُ الملح في الماء”رواه البخاري ومسلم، هؤلاء جَيشُ يَزيد الذينَ دخَلُوا مكّةَ وظَلَمُوا وأَفسَدُوا فيها أَهلكَهُمُ الله تبارك وتعالى في وَقتٍ قَريب، بَعدما ارتكَبُوا تلكَ الجِنايةَ الفَاحِشةَ أَهلكَهُم الله تبارك وتعالى انتقَم مِنهُم في الدّنيا، وكذلكَ يَزيدُ ما عاشَ طَويلاً بعدَ ذلكَ لأنهُ هو الذي وجّهَهُم ليَنتَقِمُوا مِن أهلِ المدينةِ غَضبًا لأنهم أرادُوا خَلْعَه أي إخراجَهُ مِنَ الخِلافةِ وهوَ كانَ مِن أفسَقِ الناس ما كانَ يَستحِقّ الخلافةَ إنما أبُوه سَعَى لهُ، قبلَ أن يموتَ رتَّبَ لهُ، صارَ يُكلّمُ هؤلاء وهؤلاء، يُكلّمُ هذه القَبيلةَ ويكلِّمُ هذه القبيلةَ أن استَخلِفُوا ابني بعدِي مع وجُودِ عَدَدٍ كثيرٍ مِنْ أصحَابِ رسولِ الله كعَبدِ الله بنِ عمر بنِ الخطاب وأبي هريرةَ وكثيرٍ مِن أبناءِ الصّحابةِ الصالحينَ الأتقياء المخلِصينَ كعبدِ الله ابنِ الزُّبير، هذا عبد الله بنُ الزّبير كانَ منَ القانتِين الخاشِعينَ مِن فقهاءِ الصّحابة وهوَ الذي حينَ تَوجّهَ المسلمونَ إلى غَزوِ أفريقيا قَتلَ جَرجِير، كانَ في ذلكَ الوقتِ كافِرٌ يقالُ لهُ جَرجِير أو غَرغِير بلُغةِ العَجَم، هو أعجَمِيّ لما واجَههُ المسلمونَ فصَمّم على قتالهم وعدمِ مُصالحتِهِم قال للمقاتلِينَ مِن جيشِه أيّكُم قَتَل أميرَ المسلمين، قائدَ المسلمين، فإني أُزوّجُه بِنتي هذه وقد كانَت لهُ بِنتٌ فائقةُ الجَمال وعليهَا مِنَ الجواهِر الشّىء الكثير، قالَ أُزوّجُه إيّاها بما علَيها منَ الجواهِر ثم قائدُ جَيش المسلمينَ أيضًا قال أيّكُم صدَق في لقاءِ هؤلاء الكفّار فقَتل جَرجِير فإني أُعطِيْه بِنتَه فعبدُ الله بنُ الزُّبَير هو كانَ صاحبَ الحظّ قتَلَ أباها لهذه البِنتِ الذي يقال لهُ جَرجير، هو ما قتَلَه لأجلِ البِنت بل بقَصدِ نُصرةِ الإسلام، لإعلاءِ كلِمةِ الإسلام ثمّ بعدَما قتَلَ عبدُ الله بن الزّبير هذا الملِكَ الكافر فانكَسَروا وأُسِرَ مَن أُسِرَ منهم وفيهِمُ البِنت، هو عبدُ الله ما أَبرزَ نفسَه، ما قالَ أنا القاتِلُ لجرجِير بل أخفَى نفسَه لأنّه لوجْه الله عمِلَ لَيسَ للوصُول إلى هذه البِنت أو الفَخر، فقال لهم القائد، قائدُ المسلمينَ إني أَعْزِم على أيّكُم قَتلَ جِرجِير إلا وأَبْرَزَ نفسَه فلم يُبرِز نَفسَهُ ثم قالَ للبِنت تَعرفينَ قاتِلَ أبِيكِ قالت نعم فَصَارت تتَصفّحُ الوجُوهَ فقالت لعبدِ الله بنِ الزّبير هذا، فأَعطَاهُ البنتَ، هذا عبدُ الله بنُ الزّبير رضي الله ُ عنهما أبوهُ حَواريُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وابنُ عمّتِه، أحَدُ العشَرةِ المبشّرين بالجنّة، هذا ظُلمًا قاتَلُوه هوَ كانَ مُستَحقًِّا للخِلافةِ مستَحِقًّا مِن حيث العِلم والتّقوى كانَ أهلاً للخِلافةِ، بنُو أُمَيّة ظلَمُوه، فهَذا أيْ جَيش يَزيد لما اعتَدى على أهلِ المدينة وظَلَم ظُلمًا فاحشًا أذَابَهُ الله تبارك وتعالى كما يذُوبُ المِلحُ في الماء، فمَن عمِلَ في المدينة ظُلمًا مِن قَتل نفسٍ أو قَطْعِ طرَفٍ أو شِبْهِ ذلكَ، هذا ذنبُه أيضًا مُضَاعَفٌ على ذَنْبِه فيما إذا كانَ في غيرِ المدينة، هذا تفسير ” والمستَحِلُّ لحرم الله” ثم مما يؤيّدُ أنه ليسَ مُراد الرّسولِ ارتكاب أيّ ذَنبٍ في الحرَمين أنه لو كانَ سيِّئاتُ الحرَم تُضاعَف إلى مائةِ ألفِ سيِّئة كما تُضاعَف حسَناتُها إلى مائةِ ألف حسنَة لم يكن لهما فَضلٌ زائِدٌ على غيرِهما مِنَ البلاد لأنّه لو كانت كلُّ سيِّئةٍ تُفعَلُ هناكَ تُضاعَفُ وكُلُّ حسَنةٍ تُفعل هناكَ تُضاعَفُ لكانَت هذه بهذه لم يكنْ هناكَ ذلكَ الفضلُ العَظيم الباهِر، هذا عبدُ الله بنُ الزبير هو الذي ورَد في الأثر أنه شَربَ دمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، الرسولُ ذاتَ مَرّةٍ احتَجَمَ أي عُمِلَت له حِجامة فأُخِذَ منهُ دمٌ بالحِجامة، أُخرِج منه دمٌ بالحِجامة، هذا عبدُ اللهِ مِن أجلِ التبرّك بهذا الدّم أخذَه وشربَه خُفيةً فكانَ فيه مِنَ الجُرأةِ والقُوّة الشىء الغَريب مِن أثرِ ذلك الدّم رضي الله عنه وعن والدِه.
روى أبو داود والحاكم والبيهقي في الدّعَوات واللّفظُ لهُ عن عائشةَ رضيَ الله عنها أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ إذا اشتَكى الإنسانُ الشّىءَ منهُ أو كانَت بهِ قُرحَةٌ أو جُرْحٌ قال النّبي بأصبَعِه هكذا ووضَع أبو بكرٍ سبَّابَتَهُ بالأرض ثمّ رفَعَها”بِسم الله تُربَةُ أرضِنا برِيقَةِ بَعضِنا تَشفِي سَقِيمَنا بإذنِ ربِّنا “وعندَ الطّبراني :أخَذَ تُرابًا فجَعَل فيه مِن رِيقِه ثم جعَلَه علَيهِ.فتُرابُ المدينة فيهِ شِفاءٌ بإذنِ الله حتى إنّهُ يَنفَعُ للَسْعَةِ الحيّةِ ولَدْغَةِ العَقرب، وهذه الخصُوصيّة لتُراب المدينة، أمّا تُراب مَكّة فلم يرِدْ فيهِ ذلكَ.
أما قولُهُ صلى الله عليه وسلّم “ والمستَحِلُّ مِن عِتْرتي ما حَرّم الله” وهو رابعُ السِّتّةُ، معناه أنّ الذي يَعتَدِي على عِترةِ الرّسولِ أي أهلِ بَيتِه كذلكَ مَلعُونٌ مِن قِبَلَ الله ومَلعُونٌ مِن قِبَلِ الرّسول ومَلعُونٌ مِن قِبَلِ جميعِ الأنبياء، العِتْرَةُ هُمُ الحسَنُ والحسَين ومَن كانَ في معناهُما، الله تبارك وتعالى جَعَلَ لِعِترةِ الرّسول فَضلاً لم يجعلْهُ لغَيرِهم ببركتِه صلى الله عليه وسلم.
وأمّا قولُه صلى اللهُ عليه وسلم :” والمتَسَلِّطُ بالجبَروتِ ليُعِزَّ مَنْ أَذَلَّ الله ويُذِلَّ مَنْ أَعَزَّ الله” فهم هؤلاء المتجبّرونَ الذين يَقهَرُونَ الناسَ ويَظلِمُوهم ويَعتدُون علَيهم إن كانوا مسلمينَ وإن كانُوا غَيرَ مسلمين.