يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمٰوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمٰوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {48} وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ {50} لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {51} هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ {52}﴾[1].
إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يُخبِرُنا بأنَّ الأرضَ يومَ القيامَةِ تُبدَّلُ غيرَ الأرض والسّمٰوات كذلك، والمعنى أنَّ هذهِ الأرضَ التِي نعيشُ عليها تُبَدَّلُ أرضًا أخرى غيرَ هذهِ المعروفَة والسّمٰواتُ تُبدَّلُ غيرَ هذهِ السّمٰوات، والتبديلُ التغييرُ وقد يكونُ في الذَّوات وقد يكونُ في الأوصاف واختُلِفَ في تبديلِ الأرضِ والسّمٰوات فقيلَ تُبَدَّلُ أوصافُها وتُسيَّرُ عنِ الأرضِ جبالُها وتُفجَّرُ بحارُها وتُسَوَّى فلا تَرَى فيها عِوجًا أي انخفاضاً ولا أَمْتاً أي مكاناً مرتفعًا يقول الله تعالى: ﴿لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾[2]، وعنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: ((هي تلكَ الأرضُ وإنما تُغيَّر))، وتبدّلُ السَّماءُ بانتثارِ كواكِبِها وكسوفِ شَمسِها وخُسوفِ قَمَرِها وانشِقَاقِها وكونِها أبوابـًا وقيلَ تُخلَقُ بدلَهَا أرضٌ وسَمٰواتٌ أخر، وعنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: ((يُحشَرُ الناسُ على أرضٍ بيضاء لَم يُخطىء عليها أحدٌ خطيئة))، وعن عليّ رضي الله عنه: ((تبدَّلُ أرضًا مِنْ فضَّةٍ وسَمٰواتٍ مِنْ ذَهَب)).
﴿وَبَرَزُواْ﴾ أي خرجوا مِنْ قبورِهم للحساب والأمرُ يومئذٍ للواحدِ القهّار يُنادي مُنادٍ مِنَ الملائكةِ بأمرِ الله: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْم﴾ ثُم يُجيبُ نفسَهُ بنفسِهِ: ﴿للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ لأنّ المُلكَ إذا كانَ لواحِدٍ غلاّبٍ لا يُغالَب أي لا يَغلِبُهُ أحد فلا مُستغَاثَ لأحدٍ إلى غيرهِ وكانَ الأمرُ في غايةِ الشدّة.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ﴾ أي الكافرين ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي يومَ القيامَةِ ﴿مُّقَرَّنِينَ﴾ أي قُرِنَ بعضُهُم معَ بعضٍ أو معَ الشياطين أو قُرِنَت أيديهم إلى أرجُلِهِم مُغلَّلينَ ﴿فِي الأَصْفَادِ﴾ أي يُقرَّنونَ في الأصفَاد، أو المعنى مُقرَّنين مُصَفَّدين، والأصفادُ القيودُ أو الأغلال. ﴿سَرَابِيلُهُم﴾ أي قُمُصُهم ﴿مِّن قَطِرَانٍ﴾ وهو ما يتحلَّبُ مِنْ شجرٍ يُسمَّى الأبْهَل فيُطبخُ وتُدهَنُ به الإبلُ الجَربَى، فيُحرقُ الجرَبَ بِحِدَّتِهِ وحَرّهِ، ومِنْ شأنِهِ أنْ يُسرِعَ فيهِ اشتعالُ النار وهو أسودُ اللّون مُنتِنُ الرّيح فيُطلى بهِ جلودُ أهلِ النارِ حتّى يعودَ طلاؤهُ لهم كالسرابيل ليجتَمِعَ عليهم لَذْعُ القَطِرانِ وحُرقَتُهُ وإسراعُ النارِ في جلودِهِم، واللّونُ الوَحِشُ ونُتنُ الريحِ على أنَّ التفاوتَ بينَ القَطْرانين كالتفاوتِ بينَ النارين. وكلُّ ما وعدَهُ الله أو أوعدَ بهِ في الآخرة فبينَهُ وبينَ ما نشاهِدُ مِنْ جِنسِهِ ما لا يُقَادَرُ قدرُهُ وكأنهُ ما عندنا منهُ إلا الأسامي والمُسمّياتِ ثَمَّ، نعوذُ باللهِ مِنْ سخَطِهِ وعذابهِ مِنْ “قِطْرٍ ءانٍ“ فإنَّ قَطِرانَ ذلكَ اليومِ أشدَّ، وقيلَ هو النُّحَاسُ المذاب الذي بلَغَ حرُّهُ إناه أي غايتَه. ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾ أي تعلوها باشتعالِها، وخُصَّ الوجهُ لأنهُ أعزُّ موضِعٍ في ظاهِرِ البدن كالقلبِ في باطِنِهِ، ولذا قال: ﴿تَطَّلِعُ على الأَفْئِدَة﴾.
﴿لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي يفعلُ بالمجرمينَ ما يفعل ليجزي كلَّ نفسٍ مجرِمَةٍ ما كسبت، أو كلَّ نفسٍ مِنْ مجرِمَةٍ أو مُطيعة لأنهُ إذا عاقبَ المُجرمينَ لإجرامِهم عُلِمَ أنه يُثيبُ المؤمنينَ بطاعتهم، ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي يحاسبُ جميعَ العبادِ في أسرَعَ مِنْ لَمحِ البصر.
﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ﴾ أي كفايةٌ في التذكيرِ والموعظةِ ﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ أي ليُنصحَوا وليُنذروا به ﴿وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾ لأنهم إذا خافوا ما أُنذِروا به دعَتهُم المخافَةُ إلى النظر حتّى يتوصَّلوا إلى التوحيدِ الذي هو تنزيهُ اللهِ عن مُشابَهةِ خلقِهِ وإفرادُهُ بالألوهية لأنَّ الخشيةَ أمُّ الخيرِ كلّهِ، ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ أي ذَوُو العقول.
ربنا اغفر لنا وارحمنا وسددنا ونجنا مع الناجين، اللهم أصلح لنا شأننا كله وألِّف بين قلوبنا ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين ءامنوا يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين
[1] – سورة إبراهيم.
[2] – سورة طـٰه.