فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
قصّةُ نبيّ الله لوط
الحمدُ لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البَرِّ الرحيم والملائكة المقرَّبين على سيّدنا محمد أشرف المرسلين وحبيبِ رب العالمين
وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وءال كُل والصالحين
وسلام الله عليهم أجمعين
يقولُ الله تبارك وتعالى: ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ {50} وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ {51} إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53} قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ {54} قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ {55} قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ {56} قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {57} قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ {58} إِلاَّ ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ {60} فَلَمَّا جَاء ءالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ {60} قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {62} قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ {63} وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {64} فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ {66} وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ {67} قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ {68} وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ {69} قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ {70} قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {71} لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ {72} فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ {73} فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ {74} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ {75} وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ {76} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ {77}﴾[1].
أخبرَ اللهُ نبيَّهُ محمّدًا صلى الله عليه وسلم أن يُخبِرَ أمَّتَهُ بأنه يغفِرُ لِمَن شَاءَ مِنْ عِبادِهِ ويَرحَمُ مَنْ شاءَ منهم وأنَّ عذابَهُ هو العذابُ الأليم، يقولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: ((لو يعلمُ العبدُ قدرَ عفوِ اللهِ لما تورَّعَ عن حرام، ولو يعلمُ قدرَ عذابِهِ لبَخَعَ نفسَهُ[2] في العبادة ولما أقدَمَ على ذنبٍ)) رواهُ الطبريُّ عَن قَتادَةَ بلاغًا.
وأخبرَهُم عن ضَيفِ إبراهيمَ أي أضيافَهُ وهو جبريلُ عليهِ السَّلام مع أحدَ عشرَ مَلَكًا ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا﴾ أي فسُلِّمَ عليكَ سلامًا، ﴿قَالَ﴾ أي إبراهيمُ ﴿إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ﴾ أي خائفونَ لامتناعِهِم مِنَ الأكلِ أو لِدخُولِهم بغيرِ إذنٍ وبغيرِ وقتٍ، ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ﴾ أي لا تَخَف ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ وهو إسحاقُ عليه السَّلام لقولِهِ في سورةِ هود: ﴿فبشَّرْناها بإسْحـٰق﴾، ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾ أي مع مَسِّ الكِبَرِ بأن يولَدَ لي، أي أنَّ الوِلادَةَ أمرٌ مُستَنكرٌ عادَةً مع الكِبَرِ ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ كأنه يقول فبأيِّ أعجوبَةٍ تُبشِّرون؟ ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أي باليقينِ الذي لا لُبْسَ فيه ﴿فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ أي الآيسينَ مِنْ ذلك، قال إبراهيم: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾ أي إلا المخطئونَ طريقَ الصَّواب أو إلا الكافرونَ كقولِهِ: ﴿إنه لا ييئسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون﴾، أي لَم أستَنكر ذلك قُنُوطًا مِنْ رحمَةِ الله ولكن استبعادًا له فِي العادَةِ التي أجراها.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ أي فما شأنُكم ﴿ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ {57} قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ أي قومِ لوطٍ ﴿إِلاَّ ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي إلا أهلَهُ المؤمنين، كأنه قيل أُرسِلنا إلَى قومٍ قد أجرَموا كلُّهم إلا ءالَ لوطٍ، يعني أنهم أرسِلوا إلى القومِ المجرِمينَ خاصَّةً ولَم يُرسَلوا إلى ءالِ لوطٍ أصلاً، ومعنَى إرسالِهِم إلى القومِ المجرمين كإرسالِ السَّهمِ إلى المرْمى في أنه في معنى التعذيبِ والإهلاكِ كأنه قيل إنا أهلَكنا قومًا مُجرمين ولكنَّ ءال لوطٍ أنجيناهم ﴿إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي الباقين في العذابِ.
﴿فَلَمَّا جَاء ءالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ {60} قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي لا أعرِفكُم أي ليس عليكم زِيَّ السَّفرِ ولا أنتم مِنْ أهلِ الحَضَرِ فأخافُ أن تطرُقونِي بِشَرٍّ ﴿قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أي ما جئناكَ بما تُنكِرُنا لأجلِهِ بل جئناكَ بِما فيهِ سرورُك وتَشَفِّيكَ مِنْ أعدائِكَ وهو العَذابُ الذي كنتَ تتوعَّدُهم بنزولِهِ فيمترونَ فيه أي يشكّون ويُكذّبونَكَ.
﴿وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ﴾ أي باليقينِ مِنْ عذابِهم ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فِي الإخبارِ بنزوِلِهِ بِهم ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ﴾[1] أي في ءاخرِ اللَّيل ﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾ أي وسِرْ خلفَهم لتكونَ مُطَّلِعًا عليهم وعلى أحوالِهم ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ لئلا يرَوا ما يَنْزِلُ بقومِهِم مِنَ العذاب فيَرِقّوا لَهم، أو جُعِلَ النهيُ عن الالتفاتِ كِنايَةً عن مواصَلَةِ السَّيرِ وتركِ التوانِي والتوقفِ لأنّ مَنْ يلتفتُ لابدَّ له مِنْ ذلك في أدنَى وَقفَة، ﴿وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ﴾ أي حيثُ أمرَكُم الله بالمُضِيّ إليه وهو الشَّامُ أو مِصر.
﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ﴾ أي أوحينا إليه مقضيًّا مَبتوتًا ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ﴾ أي يُستأصَلونَ عن ءاخرِهم حتى لا يَبقى منهم أحدٌ، ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ أي وقتَ دخولِهم في الصُّبحِ.
﴿وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ﴾ أي مدينَةِ سَدُوم التي ضُرِبَ بِقاضِيها المثَلُ في الجَور، ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ بالملائكةِ طَمَعًا منهم في ركوبِ الفاحِشةِ، قال لوطٌ: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ﴾ بفضيحَةِ ضيفي، لأنَّ مَنْ أساءَ إلى ضيفي فقد أساءَ إلَيَّ ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ﴾ أي ولا تُذِلُّونِي بإذلالِ ضيفي مِنَ الخِزيِ وهو الهَوانُ ﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أي عَنْ أن تُجِيرَ منهُم أحدًا أو تَدفَعَ عنهم، فإنهم كانوا يتعرّضونَ لكلِّ أحدٍ وكان عليه السَّلامُ يقومُ بالنهيِ عنِ المنكرِ والحَجزِ بينَهُم وبينَ المُتَعَرَّضِ له فأوعَدوهُ وقالوا: ﴿لَئِن لم تنتَهِ يا لوط لتكونَّنَ مِنَ المُخرَجين﴾؛ ﴿قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي﴾ أي فانكحوهُنَّ ولا تتعرّضوا لهم أي للضّيوف، وكانَ نكاحُ المؤمناتِ مِنَ الكفَّارِ جائزًا، ﴿إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أي إن كنتُم تُريدونَ قضَاءَ الشَّهوةِ فيما أحلَّ الله دونَ ما حرَّم، فقالتِ الملائكةُ للوطٍ عليهِ السلام: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ﴾[2] أي في غَوَايتهِم التي أذهبَت عقولَهُم وتَمييزَهم بينَ الخطإ الذي هم عليه وبينَ الصَّواب الذي تُشيرُ به عليهم مِنْ تركِ البَنينِ إلى البنات، ﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي يتحيَّرون فكيفَ يقبَلونَ قولَكَ ويُصْغونَ إلَى نصيحَتِكَ، أو الخِطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو قسَمٌ بِحياتِهِ وما أقسَمَ بحياةِ أحدٍ قطُّ تعظيمًا له.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ وهي صَيحَةُ جبريلَ عليه السَّلام ﴿مُشْرِقِينَ﴾ أي داخلين في الشّروقِ وهو بزوغُ الشَّمسِ ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ أي رَفَعهَا جبريلُ عليه السَّلام بأمرِنا إلى السَّماءِ ثم قَلَبَها والضَّميرُ لقُرى قومِ لوط، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي مِنْ طينٍ، قال الراغبُ في مفرادِتِهِ: ((السِّجيلُ حجرٌ وطينٌ مُختلط)).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ أي للمُتفرّسينَ المتأمِّلين كأنهم يعرفونَ باطِنَ الشىءِ بِسِمَةٍ ظاهرة، ﴿وَإِنَّهَا﴾ أي وإنَّ هذهِ القُرى يعنِي ءاثارَها ﴿لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ﴾ أي ثابتٌ يسلُكُهُ الناسُ لَم يندرس بعدُ، وهم يُبصرون تلكَ الآثارَ وهو تنبيهٌ لقريش، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ﴾ لأنهم المنتفعونَ بذلك.
اللهم اهدنا وعافِنا واعفُ عنا واجعلنا هداةً مهديين غيرَ ضالين ولا مُضلّين ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ هَمّنا ولا مبلغ عِلمنا ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا
يا أرحم الراحمين
يقولُ الله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ {74} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ {75} يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ {76} وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ {77} وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ {78}﴾[1].
إنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى يُخبِرُنا بأنه لَمَّا ذهَبَ عن سيِّدِنا إبراهيمَ ﴿الرَّوْعُ﴾ أي الفَزَعُ وهوَ ما أوجَسَ مِنَ الخِيفَةِ حينَ أنكَرَ أضيافَهُ لأنه لَم يعرِفهُم ﴿ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى﴾ بالوَلَدِ واطمأنَّ قلبُهُ بعدَ الخوف ومُلأَ سرورًا بسببِ البُشرى فَرَغَ للمُجادَلَةِ أي لِمُجادَلَةِ الملائكة، ومُجادَلَتُهُ إياهُم أنهم قالوا: ﴿إنا مُهلِكوا أهلَ هذه القرية﴾[2] فقال: أرأيتُم لو كانَ فيها خَمسونَ مؤمنًا أتُهلِكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بَلَغَ العشَرة قالوا: لا، قال: أرأيتُم إنْ كانَ فيها رجُلٌ واحِدٌ مسلم أتُهلِكونَها؟ قالوا: لا، فعِندَ ذلك قال: ﴿إنَّ فيها لوطًا﴾ وهو اسمٌ حسَنٌ أعجَمِيٌّ ليسَ مُشتَقًّا مِنْ فِعلٍ خبيث ولا يُشتَقُّ منه خبيث أما كلِمَةُ اللِّواط فهي كلمةٌ عربيَّةٌ كانت قبلَ لوطٍ عليه السَّلام، فكلُّ الأنبياءِ أسمائُهُم حسَنة ليست خبيثة ولا يُشتَقُّ منها فِعلٌ خبيث وليست مُشتَقَّةً مِنْ خبيث.
ثم ﴿قالوا ﴾ أي الملائكة: ﴿نحنُ أعلمُ بمن فيها لنُنَجِّينَّهُ وأهلَه﴾.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ﴾ غيرُ عَجولٍ على كلِّ مَنْ أساءَ إليه، أو كثيرُ الاحتِمالِ مِمّن أذاه صَفوحٌ عمَّن عصاه، ﴿أَوَّاهٌ﴾ كثيرُ التأوُّهِ مِنْ خوفِ الله، وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعود: ((الأوّاهُ: الرَّحيم))[3]، ﴿مُّنِيبٌ﴾ تائبٌ راجعٌ إلى الله، وهذهِ الصّفاتُ دالّةٌ على رِقَّةِ القلبِ والرَّأفةِ والرّحمة، فبيّنَ أنَّ ذلكَ مِمّا حَمَلَهُ على المُجادَلَةِ فيهم رجاءَ أن يُرفعَ عنهُم العذاب ويُمهلوا لعلّهم يُحدِثونَ التوبة كما حَمَلَهُ على الاستغفَارِ لأبيهِ قبلَ أن يعلمَ بأنه يموتُ كافِرًا.
فقالتِ الملائكةُ: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ أي عن هذا الجِدال وإنْ كانت الرّحمةُ دَيدَنُك أي عادَتُك ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي قضاؤهُ وحُكْمُهُ ﴿وَإِنَّهُمْ ءاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ أي لا يُرَدُّ بِجِدالٍ وغيرِ ذلك، ثمَّ خرجوا مِنْ عندِ إبراهيمَ متوجّهينَ نَحوَ قومِ لوط وكانَ بينَ قريةِ إبراهيمَ وقومِ لوط أربعَةُ فراسخ.
﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا}أي الملائكة{لُوطًا﴾ أي لَمَّا أتوهُ ورأى هيئاتِهِم وجمالَهم ﴿سِيءَ بِهِمْ﴾ أي أُحزِنَ لأنه حَسِبَ أنهم إنسٌ فخَافَ عليهمُ خُبْثَ قومِهِ وأن يَعجِزَ عن مقاوَمَتِهِم ومُدافَعَتِهم ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ أي وضاق بمكانِهِم صدرُهُ، ﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾ أي شديد، رُوِيَ أنَّ الله تعالى قال لَهم: ((لا تُهلِكوهم حتى يشهدَ عليهِم لوطٌ أربعَ شهادات)) فلمّا مَشَى معهُم مُنطَلِقًا بِهم إلَى منزلِهِ قال لَهم: أما بلغَكُم أمرُ هذهِ القرية، قالوا: وما أمرُهُم؟ قال: أشهدُ باللهِ إنها لشَرُّ قريةٍ في الأرضِ عمَلاً، قال ذلكَ أربعَ مرّات، فدخلوا معه مَنزِلَهُ ولَم يعلم بذلكَ أحد فخرجَت امرأتُهُ فأخبرَت بهم قومَها.
﴿وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي يُسرِعون كأنما يُدْفَعونَ دَفعًا ﴿وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾ أي ومِنْ قبلِ ذلك الوقتِ كانوا يَعمَلونَ الفواحِشَ حتّى مَرَنوا عليها[4] وقَلَّ عندَهم استقباحُها فلذلكَ جاؤوا يُهرَعون مُجاهِرينَ لا يَكُفُّهُم حياء، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي﴾ أي فتزوّجوهُنَّ، أرادَ أن يَقِيَ أضيافَهُ ببناتِهِ وذلكَ غايةُ الكرَم، وكانَ تزويجُ المسلماتِ مِنَ الكفَّارِ جائزًا في ذلكَ الوقت كما جازَ في الابتداءِ في هذهِ الأمة، فقد زوّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنتيهِ مِنْ عُتبَةَ بنِ أبِي لَهب وأبي العاص وهُما كافِران. ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي أحلُّ ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ﴾ بإيثارِهِنَّ عليهم ﴿وَلاَ تُخْزُونِ﴾ أي ولا تُهينونِي في ضيفي ولا تفضحوني، أو ولا تُخجِلونِي، مِنَ الخِزايَةِ وهي الحياء، ﴿فِي ضَيْفِي﴾ في حقِّ ضيوفِي، فإنهُ إذا خَزِيَ ضَيفُ الرّجُلِ أو جارُهُ فقد خَزِيَ الرّجُل، وذلكَ مِنْ عَراقَةِ الكرَمِ وأصالَةِ المروءة.
اللهم ارحمنا واعفُ عنا وقنا عذابك في الدنيا والآخرة
يا أرحم الراحمين
يقولُ الله تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ {78} قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ {79} قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ {80} قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ {81} فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ {82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ {83}﴾[1].
إنَّ الله يُخبرُنا عن سيِّدنا لوط أنهُ قالَ لقومِهِ حينَ أرادوا الفاحِشَةَ بضيوفِهِ: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ أي رَجُلٌ واحِدٌ يهتدِي إلى طريقِ الحقِّ وفِعلِ الجميل والكَفِّ عنِ السّوء.
﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾ أي حاجَةٍ لأنَّ نكاحَ الإناثِ أمرٌ خارِجٌ عن مذهَبِنا فمَذهَبُنا إتيانُ الذُّكران ﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ عَنَوا إتيانَ الذُّكورِ وما لَهم فيهِ مِنَ الشَّهوَة.
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ والمعنى: لو قَويتُ عليكم بنفسي لفعلتُ بكم ولصنَعتُ، أو أوَيتُ إلى قويٍّ أستندُ إليه وأتمنّعُ به فيَحمِيَنِي منكم، فشبَّهَ القويَّ العزيز بالرُّكنِ مِنَ الجبلِ في شِدَّتِهِ ومَنَعَتِهِ.
رُوِيَ أنه أغلقَ بابَهُ حينَ جاءوا وجعلَ يُرادُّهم ما حكَى الله عنه ويُجادِلُهم فتسوّروا الجِدار فلمَّا رأتِ الملائكةُ ما لَقِيَ لوط مِنَ الكَربِ {قالوا يا لوطُ} إنّ رُكنَكَ لشديد ﴿ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾ فافتح الباب ودَعْنا وإياهم، ففتحَ البابَ فدَخلوا فاستأذنَ جِبريلُ عليهِ السَّلامُ ربَّهُ في عقوبَتِهم فأذِنَ له، فضَرَبَ بجناحِهِ وجوهَهُم فطَمَسَ أعيُنَهم فأعماهم كما قالَ الله تعالى: ﴿فَطَمَسْنَا أعيُنَهُم﴾[2] فصاروا لا يَعرِفونَ الطريق فخرجوا وهم يقولون: النّجَاة النجاة فإنَّ في بيتِ لوطٍ قومًا سحَرة.
وقالَ الملائكةُ للوطٍ: إنَّ قومَكَ ﴿لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ﴾ لأنهم أي الملائكةُ إذا كانوا رسُلَ اللهِ فهم يحفظونَهُ بإذنِ الله ولن يُمَكّنوا أولائكَ مِنْ أن يَصِلوا إليه ويقدِروا على ضَرَرِهِ، ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ﴾ أي طائفَةٍ مِنهُ أو نِصفُهُ ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾ أي لا ينظر إلى ما وراءَهُ أو لا يَلتَفِت بقلبِهِ أو لا يتخلَّف منكُم أحد، ﴿إِلاَّ امْرَأَتَكَ﴾ رُوِيَ أنه أخرَجَها معهُم وأمرَ أن لا يلتَفِتَ منهم أحدٌ إلا هي، فلمَّا سَمِعَت هَدَّةَ العذابِ التفَتَت وقالت: يا قوماه، فأدرَكها حجَرٌ فقتَلها. ورُوِيَ أنه أُمِرَ بأن يُخَلّفَها معَ قومِها فإنَّ هواها إليهم فلم يَسِرْ بها، ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ أي إنَّ الأمرَ أنه سيصيبُها ما أصابَهم، ورُوِيَ أنه قال لَهم: متَى موعِدُ هلاكِهم قالوا: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾ فقالَ: أريدُ أسرعَ من ذلك، فقالوا: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾.
﴿فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ أي جعلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ جَناحَهُ في أسفَلِها أي أسفَلِ قُراها ثُمَّ رفعَها إلى السَّماء حتى سَمِعَ أهلُ السَّماءِ نباحَ الكِلابِ وصِياحَ الِدّيكَة ثمَّ قلَبَهَا عليهم وأُتبِعوا الحِجارةَ مِنْ فوقِهم وذلك قولُهُ: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ أي طينٍ قال الرَّاغبُ: ((السّجّيلُ حجرٌ وطينٌ مُختَلِط))، ﴿مَّنضُودٍ﴾ أي مُتَتَابِع أو مَجمُوعٍ مُعَدٍّ للعذاب ﴿مُّسَوَّمَةً﴾ أي مُعلَّمَةً للعذاب، قيلَ مكتوبٌ على كلِّ واحدٍ اسمُ مَنُ يُرمَى به، ﴿عِندَ رَبِّكَ﴾ أي في خزائنِهِ أو بعلمِهِ، أو في حُكمِهِ، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ أي بشَىءٍ بعيد، وفيهِ وعيدٌ لأهلِ مكّة فإنَّ جبريلَ عليهِ السّلامُ قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ما مِنْ ظالِمٍ مِنْ أمّتِكَ إلا وهو بعَرْضِ حجرٍ يسقُطُ عليه مِنْ ساعةٍ إلى ساعة”، أو الضَّميرُ للقرى أي هي قريبةٌ مِنْ ظالِمي مكّة يَمُرُّونَ بها في مسايرِهِم.
اللهم اغفر لنا وارحمنا واعف عنا وقنا عذابك في الدّنيا والآخرة
يا أرحم الراحمين
[1] – سورة هود.
[2] – سورة القمر.
[1] – سورة هود.
[2] – سورة العنكبوت.
[3] – رواهُ ابنُ أبي حاتِمٍ بإسنادٍ حسن.
[4] – أي اعتَادُوا عليها.
[1] – أي سِرْ بهم ليلاً.
[2] – هذا قَسَمٌ أي لَحَياتُكَ قَسَمٌ يُقسَمُ به.
[1] – سورة الحِجر ٤٩ إلى ٧٧.
[2] – لبخعَ: أي أجهدَها.