معجزة الإسراء والمعراج
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي خصّهُ اللهُ بالإسراء والمعراج دونَ سائر الأنبياءِ علَيهِمُ الصّلاةُ والسلام، صلى الله عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسَله.أما بعد، إن الله تبارك وتعالى الذي أكرَمَ نَبِيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الظّاهراتِ الباهِرات حيثُ إنّه تَبارك وتعالى ما أعطَى نبيًّا مُعجِزةً إلا وأعطَى محمّدًا مِثلَها أو أعظَم منها فإنّه تَبارك وتعالى خصّ حبيبَه المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإسراءِ والمعراج دونَ سائر إخوانِه الأنبياء، والإسراءُ ثابتٌ بالقرءان الكريم بالنصِّ الصريح وفي الحديثِ الصحيح. والمعراجُ وهو عروجُ النبي صلى الله عليه وسلم على مِرقَاةٍ شِبهُ سُلّمٍ حَقِيقيّ معَ جبريلَ ثم وصل إلى مَكانٍ سمِعَ فيهِ صَريفَ أقلامِ الملائكةِ الذينَ يَنقُلُونَ في صُحفِهم، هذا المعراجُ ثابتٌ في الحديث الصحيحِ وفي إشارةٌ إليهِ في قوله تعالى{“ولقَد رءاهُ نَزلةً أُخرَى عندَ سِدرَةِ المنتَهى عِندَها جَنّةُ المأوَى”} بعدَ أن صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإخوانه النبيين إمامًا في المسجدِ الأقصى عُرج به إلى السمواتِ وتجَاوزَ السّمواتِ السّبع وكانَ معهُ جبريلُ عليهِ السلام وكُلّمَا وصَل إلى سماءٍ كانَ جبريلُ يَطلُبُ أن يُفتَح لهُ وكانَ خَازنُ كلّ سماءٍ يَسأل مَن؟ فيُجيب جبريلُ بأنّه جبريلُ ومعه نبيُّ اللهِ محمّد صلى الله عليه وسلم. وفي السّموات لقيَ ءادمَ وعيسى ويحيى ولقِيَ يوسَف وإدريسَ وهارون وموسى وإبراهيم مستندًا إلى البيتِ المعمور. والبيتُ المعمور موجُودٌ في السّماء السابعة وهو بمحاذاةِ الكعبةِ يَدخُلُه كلَّ يومٍ سبعونَ ألفَ ملَكٍ ثم يَخرُجُونَ منهُ ولا يعودُونَ إليهِ مَرّةً ثانية، وهذا دِلالةٌ على مَدى كَثْرةِ عدَدِ الملائكة الكِرام البَررة الذينَ هُم أكثَرُ مِنَ الجِنّ والإنسِ، والنبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج لقِيَ نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم وكلّمَه في السّماء وأخبرَه بأن اللهَ فرَض على أمتِه خمسِينَ صَلاةً، فقال موسى لحبيبِ اللهِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم: “ارجِع إلى ربِّكَ فاسْأَلهُ التّخفِيف فإني خَبِرتُ بَني إسرائيلَ” معناهُ أي ارجع إلى المكانِ الذي كنتَ تَسمَع فيه كلامَ اللهِ واسأل ربكَ التّخفيف، فكانَ نبي الله صلى الله عليه وسلم يسألُ ربّه التّخفيفَ حتى صارت الصلواتُ خمسًا في العدَد ويضَاعِفُ اللهُ الأجرَ والثوابَ منْ عشَرةٍ إلى سبعمائةِ ضِعف إلى ما شاء الله، وفي المعراجِ رأَى النبيُّ خَازنَ النّار مَالكًا ورَأى سِدْرةَ المنتَهى وابتداؤها من السماءِ السادسَة وتَعلُو إلى السّابعة وما فَوقَها يَغشَاها فَراشٌ مِن ذَهَب، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنّةَ ودخَلَها وقال: “رأيتُ أكثرَ أهلِها الفقَراء” فالفقرُ مع الإيمانِ والتّقوى ليسَ عَيبًا وليسَ أَمرًا مشينًا إلا أنّ بعضًا منَ الناس عندَ الفقر يعتَرضُونَ على الله كما يعترضُ أحدُهم عندَ البَلوى والمصيبة والغضَب، أما الفقرُ بحّدِّ ذاتِه ليسَ عيبًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يدخلُ فقراءُ المهاجرين الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بخمسِمائَةِ عَام“
ورأى النارَ وقال بأنّ أكثرَ أهلِها النّساء ورأى
العرشَ ولهُ قوائمُ أربع كالسّرير يحمِلُه في الدّنيا أَربَعةٌ مِنَ الملائكةِ ويوم القِيامة يكونونَ ثمانية . وتحدّثَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن واحدٍ مِن حملَةِ العَرشِ بأنّ ما بَينَ شَحمَةِ أُذُنه إلى عَاتقِه كالمسَافَةِ التي هيَ هَكذا
بالنّسبة لنا مسَافةُ سبعِمائة عام بخفَقانِ الطّير المسرع، هذاالعَرشُ المِجيدُ يحمِلُه مَلائكةُ الرحمنِ وحَاشا أن يكونَ اللهُ جَالسًا عليه، تحمِلُه الملائكةُ لأنّ اللهَ تَعالى هوَ الذي خَلقَ العَرش وهوَ الذي خلَق السماءَ وهو الذي خلقَ الكرسِيّ فلم يخلُقِ اللهُ شَيئًا ليَجلِسَ عليه أو ليسكُن فيه أو ليستَند إليه لأنّ الجلُوسَ
والسُّكنى والاستنادَ مِن صفَاتِ المخلوقات.
ثم وصَل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مَكانٍ سمِعَ فيهِ صَريفَ أقلامِ الملائكةِ الذينَ يَنقُلونَ منَ اللوح المحفوظِ ويَكتُبونَ في صُحفِهم، أمّا ما يَروِيه الدّجّالُونَ
الجَاهِلُون القائلونَ بأنّ النبي وصَلَ إلى مكانٍ تخَلّى عنه جبريل وقالَ له إن أنتَ دخَلت وصلتَ وإن أنا دخلتُ احتَرقتُ ويَزعُمون بأنّه دخَل على مَكانٍ اجتَمع فيه
بالله فإن هذه هي عقيدة المجسّمة المكذبة لقولِ الله {ليسَ كمثلِه شىء} لم يكن المقصودُ بالعروج أن يصعَد النبيُّ إلى مكَانٍ ليَجتَمع بالله فيه، إنما
المقصودُ تكريمُ النبي بإطلاعِه على عجائبَ مخلوقاتِ الله في العالم العُلوي،والله تعالى كانَ قبلَ المكان بلا مكان وبعدَ أن خلقَ المكانَ السّموات السبع
والجنةَ والفضَاء والأرضِينَ السّبع والعرش والكرسيّ والنّجوم والكواكب ما زالَ الله موجودًا بلا مَكان. وفي ليلةِ المعراج سمعَ النبيُّ كلامَ اللهَ الذي لا
يُشبِهُ كلامَ المخلوقينَ ليسَ هوَ لغةً عَربية ولا عِبرانية ولا سُريانية ولا غيرَ ذلك لأنّ كلامَ اللهِ ليسَ له مخارج حروف ولا يكونُ بإطباقِ شفَتَين وتحريك لسان تنزّه الله عن مشابهة المخلوقين.
روى ابنُ عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم “رَأى ربَّهُ بفؤادِه مَرّتَين“
أي جَعلَ اللهُ في قلب النبي قوةَ الرؤيةِ فرَأى اللهَ الذي لا يُشبِهُ شيئًا وليسَ معناه أنه اجتَمع به في جهةِ فوقٍ بل لما كانَ النبي في المعراج أكرمَه الله بالرؤية فرأى الله الذي لا يحُدّه زمانٌ ولا مَكانٌ ولا يُتَصَوّر في الأذهان تَنزه
عن مشابهة المخلُوقين، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جِبريل مَرّتَين على هيئتِه الأصلِية في المرّة الأولى في أجياد في مَكّة المكرّمة وفي المرّة الثانية ليلةَ المعراج ولهُ ستّمائة جَناح كل جناح يَسُدّ ما بينَ المشرِق والمغرب.
وأمّا قولُ الله تعالى {ثم دَنا فتَدلى فكَانَ قَابَ قَوسَين أو أَدنى}
فتفسيرُ هذهِ الآيةِ هوَ كما رَوت عائشةُ رضيَ الله عنها بأنّ جِبريلَ هو الذي دنَا فتدَلى أي اقتَرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيثُ كانت المسافَةُ بَينَ
جِبريل والنبيّ مَسافة ذِراعَين، والذِّراع مِن رؤوس الأصَابع إلى المرفق، المسَافة كانت بينَ جِبريل والنبي مسَافة ذراعَين يعني تقريبًا أربعة أشبَار،
أما أولئكَ الذين يفسِّرون بأنّ الله نزَلَ واقتَربَ منَ النّبي بحيثُ كانَت المسافةُ بين النبي والله مسافةَ الحاجِبَين اللذَين فوقَ العَينَين فإنّ هذا الكلام ضَلال مُبِين لا
يُوافق أهل الحق ولا أهلَ العُقول السّليمة تنزه ربُّنا عن أن يكونَ سَاكنًا في جِهة عُلْوٍ أو في جِهةِ يمينٍ أو في جِهةِ يَسَارٍ أو في جِهة قدّام أو في جهةِ خَلفٍ
تَنزّه ربُّنا عن مشابهة المخلوقين، سبحانه وتعالى عما يصفه المشركون.