سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةُ وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ ءَايَةً
{ الـم } وَنَظَائِرُها أَسْمَاءٌ مُسَمَّيَاتُهَا الْحُرُوفُ الْمَبْسُوطَةُ التي مِنهَا رَكَّبَتِ الْكَلِمَ ، فَالْقَافُ تَدُلُّ عَلَى أَوَّلِ حُرُوفِ قَالَ ، وَالأَلِفُ تَدُلُّ عَلى أَوْسَطِ حُرُوفِ قَالَ ، وَاللاَّمُ تَدُلُّ عَلَى الْحَرْفِ الأَخِيرِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ أَنَّ كُلاًّ مِنهَا يَدُلُّ عَلَى مَعنًى فِي نَفْسِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَبِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيْرِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصغِيرِ وَهِيَ مُعْرَبَةٌ ، وَإِنَّمَا سُكِّنَتْ سُكُونَ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَسْمَاءِ حَيْثُ لا يَمَسُّهَا إِعْرَابٌ لِفَقْدِ مُقْتَضِيهِ. وَقِيلَ : إِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ كَالأَصْوَاتِ نَحْوُ غَاقٍ فِي حِكايَةِ صَوْتِ الْغُرَابِ ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّها أَسْمَاءُ السُّورَةِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَقْسَمَ اللًَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّهَا اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ. وَقِيلَ : إِنَّهَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ. وَمَا سُمِّيَتْ مُعْجَمَةً إِلاَّ لإِعْجَامِهَا وَإِبْهَامِهَا. وَقِيلَ : وُرُودُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ علَى نَمَطِ التَّعدِيدِ كَالإِيقاظِ لْمَن تَحَدَّى بِالْقُرءَانِ، وَكَالتَّحرِيكِ لِلنَّظَرِ فِي أَنَّ هَذا الْمَتْلُوَّ عَلَيهِم وَقَد عَجَزُوا عَنهُ عَن ءَاخِرِهِم كَلامٌ مَنظُومٌ مِنْ عَيْنِ ما يَنظُمُونَ مِنهُ كَلامُهُم لِيُؤَدِّيَهُمُ النَّظَرُ إِلَى أَنْ يَسْتَيْقِنُوا إِنْ لَمْ تَتَسَاقَطْ مَقدِرَتُهُم دُونَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُم عَن أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ بَعدَ الْمُراجَعَاتِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَهُم أُمَرَاءُ الكَلامِ إِلاَّ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلامِ الْبَشَرِ وَأَنَّهُ كَلامُ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ الْخَلافَةِ بِالْقَبُولِ بِمَنْزِلٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَرَدَتِ السُّوَرُ مُصَدَّرَةً بِذَلِكَ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ الأَسْمَاعَ مُسْتَقِلاًّ بِوَجْهٍ مِنَ الإِغْرَابِ وَتَقْدَمِةً مِنْ دَلائِلِ الإِعْجَازِ، وَذَلِكَ أَنَّ النُّطْقَ بِالْحُرُوفِ أَنْفُسِهَا كَانَتِ الْعَرَبُ فِيهِ مُسْتَوِيَةَ الأَقْدَامِ الأُمِّيُّونَ مِنْهُم وَأَهْلُ الْكِتَابِ بِخِلافِ النُّطْقِ بِأَسَامِي الْحُرُوفِ فَإِنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِمَنْ خَطَّ وَقَرَأَ وَخَالَطَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَتَعَلَّمَ مِنْهُم ، وَكَانَ مُسْتَبْعَدًا مِنَ الأُمِّيِّ التَّكَلُّمُ بِهَا اسْتِبْعَادَ الْخَطِّ وَالتِّلاوَةِ ، فَكَانَ حُكْمُ النُّطْقِ بِذَلِكَ مِنِ اشْتِهَارِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنِ اقْتَبَسَ شَيْئًا مِن أَهْلِهِ حُكْمَ الأَقَاصِيصِ الْمَذْكُورَةِ فِي القُرْءَانِ التي لَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ وَمَنْ يُضَاهِيهِم فِي شَىْءٍ مِنَ الإِحَاطَةِ بِهَا فِي أَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ وَشَاهِدٌ لِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْفَوَاتِحِ نِصْفُ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَهِيَ الأَلِفُ وَاللاَّمُ وَالْمِيمُ وَالصَّادُ وَالرَّاءُ وَالْكَافُ وَالْهَاءُ وَالْيَاءُ وَالْعَيْنُ وَالطَّاءُ وَالسِّينُ وَالْحَاءُ وَالقَافُ وَالنونُ فِي تِسْعٍ وَعِشرِينَ سُورَةً عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَهِيَ مُشتَمِلَةٌ عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ ، فَمِنَ الْمَهْمُوسَةِ نِصفُهَا الصَّادُ وَالكَافُ وَالْهَاءُ وَالسِّينُ وَالْحَاءُ ، وَمِنَ الْمَجْهُورَةِ نِصْفُهَا الأَلِفُ وَاللاَّمُ وَالْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالْعَيْنُ وَالطَّاءُ وَالْقَافُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ، وَمِنَ الشَّدِيدَةِ نِصفُهَا الأَلِفُ وَالْكَافُ وَالطَّاءُ وَالْقَافُ، وَمِنَ الرِّخْوَةِ نِصْفُهَا اللاَّمُ وَالْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالصَّادُ وَالْهَاءُ وَالْعَيْنُ وَالسِّيْنُ وَالْحَاءُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ، وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ نِصْفُهَا الصَّادُ وَالطَّاءُ، وَمِنَ الْمُنْفَتِحَةِ نِصفُهَا الأَلِفُ وَاللاَّمُ وَالْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالْكَافُ وَالْهَاءُ وَالْعَيْنُ وَالسِّيْنُ وَالْحَاءُ وَالْقَافُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ، وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ نِصْفُهَا الْقَافُ وَالصَّادُ وَالطَّاءُ ، وَمِنَ الْمُنخَفِضَةِ نِصفُها الأَلِفُ وَاللاَّمُ وَالْمِيمُ وَالرَّاءُ وَالكَافُ وَالْهَاءُ وَاليَاءُ وَالعَيْنُ وَالسِّيْنُ وَالْحَاءُ وَالنُّونُ، وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ نِصْفُهَا الْقَافُ وَالطَّاءُ وَغَيْرُ الْمَذكُورَةِ مِنْ هَذِهِ الأَجنَاسِ مَكثُورَةٌ بِالْمَذكُورَةِ مِنهَا. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّىْءِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ كَلِّهِ ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ عَلَى العَرَبِ الأَلفَاظَ التي مِنهَا تَراكِيبُ كَلامِهِم إِشارَةً إِلَى مَا مَرَّ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهُم وَإِلزَامِ الْحُجَّةِ إِيَّاهُم. وَإِنَّمَا جَاءَتْ مُفَرَّقَةً عَلَى السُّوَرِ لأَنَّ إِعَادَةَ التَّنبِيهِ عَلَى الْمُتَحَدَّى بِهِ مُؤَلَّفًا مِنهَا لا غَيْرُ أَوْصَلُ إِلَى الغَرَضِ، وَكَذَا كُلُّ تَكرِيرٍ وَرَدَ فِي القُرْءَانِ فَالْمَطلُوبُ مِنهُ تَمْكِينُ الْمُكَرَّرِ فِي النُّفُوسِ وَتَقرِيرُهُ. وَلَمْ تَجِئْ عَلَى وَتِيْرَةٍ وَاحِدَةٍ بَلِ اختَلَفَت أَعدَادُ حُرُوفِهَا مِثْلَ : ص وَ ق وَ ن وَ طه وَ طس وَ يس وَ حم وَ الـم وَ الـر وَ طسم وَالـمص وَ الـمر وَكهيعص وَ حم وَ عسق. فَوَرَدَتْ عَلَى حَرْفٍ وَحَرْفَيْنِ وَثَلاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ كَعَادَةِ افْتِنَانِهِم فِي الْكَلامِ. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك. و { الام } آية حيث وقعت ، وكذا { الاماص } آية و { الامار } لم تعد آية وكذا { الار } لم تعد آية في سورها الخمس و { طسام } آية في سورتيها و { طه } و { يس } آيتان و و { طس } ليست بآية و { حم } آية في سورها كلها و { حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } آيتان و { كاهيعاص } آية و { } و { } و { ق } ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية ، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات ، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله { الام } (آل عمران : 1) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال : { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } [البقرة : 255] (آل عمران : 1) ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء ، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين ، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعددة. { ذَالِكَ الْكِتَـابُ } [البقرة : 2] أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو ذلك إشارة إلى الم ، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة ، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث ، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له ، تقول : هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا ، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع الم إن جعلت الم إسماً للسورة أن يكون الم مبتدأ وذلك مبتدأ ثانياً والكتاب خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال ، وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم جملة وذلك الكتاب جملة أخرى ، وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل { لا رَيْبَ } [الأنعام : 12] لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام : ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ” فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ، أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن ، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب ، وإنما لم يقل لا فيه ريب كما قال لا فيها غول لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار ، ولو أولى الظرف يقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى : { لا فِيهَا غَوْلٌ } [الصافات : 47] (الصافات : 74) ، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي. ، والوقف على فيه هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على ريب.ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير : لا ريب فيه. { فِيهِ هُدًى } [البقرة : 2] فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في فيه مهاناً وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره.وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه.وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن : الياء قبل الهاء ، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن ، والياء بعدها.
والهدى مصدر على فعل كالبكى وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله : { أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى } [البقرة : 16] (البقرة : 61) وإنما قيل هدى { لِّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم : ” أعزك الله وأكرمك ” ، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6] ، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام ” من قتل قتيلاً فله سلبه ” وقول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض ، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً. ولم يقل : هدى للضالين.لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة ، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل هدى للمتقين مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله.
والمتقى في اللغة إسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى ، ففاؤها واو ولامها ياء ، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى. والوقاية فرط الصيانة ، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. ومحل هدى الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع لا ريب فيه لذلك ، أو النصب على الحال من الهاء في فيه والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال : إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، وذلك الكتاب جملة ثانية ، ولا ريب فيه ثالثة ، وهدى للمتقين رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة ، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
وقيل لعالم : فيم لذتك؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو ” هاد ” كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه. والإيجاز في ذكر المتقين كما مر. { الَّذِينَ } في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون ، أو هو مبتدأ وخبره ” أولئك على هدى ” ، أو جر على أنه صفة للمتقين ، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك ” زيد الفقيه ” المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات ، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما ، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين ، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة ، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين ، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك : زيد الفقيه المتكلم الطبيب ، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيآت { يُؤْمِنُونَ } يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم : آمنه أي صدقه وحقيقته
أمنه التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف.
{ بِالْغَيْبِ } بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك ، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك ” غاب الشيء غيباً ” .
هذا إن جعلته صلة للإيمان ، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة ، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان.
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها ، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه ، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه ، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى ، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم.
وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده.
وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد { وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
أعطيناهم.
و ” ما ” بمعنى ” الذي ” { يُنفِقُونَ } يتصدقون.
أدخل ” من ” التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً ، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد ، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب.
ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة.
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 92] هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا
45
أياماً معدودات ، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين ، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك ، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك : هو الشجاع والجواد ، وقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [النساء : 166] يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم ، لأنه الإيمان بالجميع واجب.
وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل.
{ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [النساء : 162] يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام { وَبِالاخِرَةِ } وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ } [القصص : 83] (القصص : 38) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا.
وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام.
{ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة : 4] الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
{ أؤلئك عَلَى هُدًى } [البقرة : 5] الجملة في موضع الرفع إن كان ” الذين يؤمنون بالغيب ” مبتدأ وإلا فلا محمل لها ، ويجوز أن يجري الموصول الأول على المتقين وأن يرتفع الثاني على الإبتداء وأولئك خبره ، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله.
ومعنى الاستعلاء في ” على هدى ” مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه
46
(1/37)
ونحوه ” هو على الحق وعلى الباطل وقد صرحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى.
ومعنى هدى { مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 3] أي أوتوه من عنده.
ونكر هدى ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه ” لقد وقعت على لحم ” أي على لحم عظيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا ؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو ” فلق وفلز وفلى ” ، وجاء العطف هنا بخلاف قوله : { أؤلئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أؤلئك هُمُ الْغَـافِلُونَ } [الأعراف : 179] الأعراف : 971) لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل ، وهم فصل.
وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لاصفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره ، أو هو مبتدأ و ” المفلحون ” خبره ، والجملة خبر ” أولئك ” فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر إسم الإشارة وتكريره ، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح.
وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل : زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته.
وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.
اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة (الآيتان : 6 ، 7).
لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه ، وبيّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى.
بقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] الكفر ستر الحق بالجحود ، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل.
ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله : { إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ } (الأنفطار : 31 ، 41) لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا ، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه ، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه ، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما.
{ سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [البقرة : 6] بهمزتين كوفي ، وسواء بمعنى الاستواء ، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى : { إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء } [آل عمران : 64] (آل عمران : 46) ، أي مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر لإن وأأنذرتهم أم لم تنذرهم مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه.
أو يكون سواء خبراً مقدماً وأأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه ، والجملة خبر لـ إن وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى.
والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً.
قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك ” اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ” يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء.
والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
{ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر لإن ، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر.
والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلّم
48
(1/38)
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [البقرة : 7] قال الزجاج : الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه.
وقال ابن عباس : طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير.
يعني أن الله صعد عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان.
وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه.
وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير.
وقال بعضهم : إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر ، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال : بنى الأمير المدينة ، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له ، فإسناده إلى الفاعل حقيقة.
وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [البقرة : 7] وحد السمع كما وحد البطن في قوله :
كلوا من بعض بطنكم تعفوا
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال : سمعت الشيء سمعاً وسماعاً ، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل.
وقيل : المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرىء ” وعلى أسماعهم ” .
{ وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌ } [البقرة : 7] بالرفع خبر ومبتدأ ، والبصر : نور العين وهو ما يبصر به الرائي ، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
والغشاوة : الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة.
والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَـاوَةً } [الجاثية : 23] (الجاثية : 32) ، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار ” جعل ” وتكرير الجار في
49
قوله وعلى سمعهم دليل على شدة الختم في الموضعين.
قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله : الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع ، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة ، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية.
والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه ، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير.
ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره.
ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
(1/39)
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 8] افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم { إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء : 145].
وقال مجاهد : أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين ، وآيتان في ذكر الكافرين ، وثلاث عشرة آية في المنافقين ، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة.
وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة.
وأصل ناس أناس
50
حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس ، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم.
ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين ، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا.
وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره ، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة.
وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام.
وإنما طابق قوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 8] وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ، قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين ، ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
المائدة : 37] (المائدة : 73) ، فهو أبلغ من قولك ” وما يخرجون منها ” .
وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً.
والآية تنفي قول الكرامية : إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفي عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم ، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
ودخلت الباء في خبر ” ما ” مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام ، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع وما هم بمؤمنين نظراً إلى معناه.
51
(1/40)
{ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ } [البقرة : 9] أي رسول الله صلى الله عليه وسلّمفحذف المضاف كقوله { وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف : 82] (يوسف : 28) كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره ، أي يظهرون غير ما في أنفسهم.
فالخداع إظهار غير ما في النفس ، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح : 10] (الفتح : 01) وقيل : معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه ، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك ” عاقبت اللص ” .
وقد قرىء ” يخدعون الله ” وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل : يخادعون الله ، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار واجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك.
قال صاحب الوقوف : الوقف لازم على بمؤمنين لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك ” ما هو برجل كاذب ” والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم.
ومن جعل يخادعون حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها يقول والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في بمؤمنين والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول : { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 165] أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر.
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } [البقرة : 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن ضررها يلحقهم.
وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون.
أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد ، والنفس ذات
52
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
الشيء وحقيقته.
ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما ، وللدم نفس لأن قوامها بالدم ، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه ، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد ، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم ، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
{ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [محمد : 29] أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد.
في الحديث مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين والمريض متردد بين الحياة والموت ، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب.
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } [البقرة : 10] أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار.
وقيل : المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة : 10] كوفي.
أي بكذبهم في قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، فما مع الفعل بمعنى المصدر ، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به.
وقيل : هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بأن الشأ وبين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 91] معطوف على يكذبون ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم { لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ } [البقرة : 11] لكان صحيحاً ، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة.
والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية ، وكان فساد
53
(1/41)
المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.
{ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة : 11] بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد ، لأن ” إنما ” لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك ” إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب ” و ” ما ” كافة لأنها تكفها عن العمل.
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 12] أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به.
” ألا ” مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى : { أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ } [القيامة : 40] (القيامة : 04) ، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم ، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف ، وما في ” ألا ” و ” إن ” من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله لا يشعرون .
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ } [البقرة : 13] نصحوهم من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد ، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسدّ من اتباع ذوي الأحلام ، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم ، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.
وإنما صح إسناد قيل إلى لا تفسدوا وآمنوا مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح ، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب.
و ” ما ” في كما كافة في ” ربما ” ، أو مصدرية كما في { بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 25] (التوبة : 52) واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه
54
وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم ، والكاف في كما في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
والاستفهام في أنؤمن للإنكار ، في السفهاء مشار بها إلى الناس ، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم.
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـاكِن لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 13] أنهم هم السفهاء.
وإنما ذكر هنا لا يعلمون وفيما تقدم لا يشعرون لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له ، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة ، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس.
والسفهاء خبر ” إن ” و ” هم ” فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر ” إن ” .
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا } [البقرة : 14] وقرأ أبو حنيفة رحمه الله ” وإذا لاقوا ” يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه.
الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم.
{ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
البقرة : 14] خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى.
وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود.
وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم ” تشيطن ” ، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من ” شطن ” إذا بعد لبعده من الصلاح والخير ، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل.
{ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة : 14] إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم.
وإنما خاطبوا
55
(1/42)
المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة بـ ” إن ” لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة ، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار.
وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد.
وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة : 14] تأكيد لقوله ” إنا معكم ” لأن معناه الثبات على اليهودية ، وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون.
والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ مات على المكان.
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04).
{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [البقرة : 194] (البقرة : 491) فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء ، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه.
قال الزجاج : هو الوجه المختار.
واستئناف قوله تعالى الله يستهزىء بهم من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة ، وفيه أن الله هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان.
ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل الله يستهزىء بهم ولم يقل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله إنما نحن مستهزؤون
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
{ وَيَمُدُّهُمْ } أي يمهلهم عن الزجاج { فِي طُغْيَـانِهِمْ } [البقرة : 15] في غلوهم في كفرهم { يَعْمَهُونَ } حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح.
56
{ أُوالَـائِكَ } مبتدأ خبره.
{ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى } [البقرة : 16] أي استبدلوها به واختاروها عليه.
وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا ، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلّم فلما جاءهم كفروا به ، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة ، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم ، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به.
والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء ، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ } [البقرة : 16] الربح الفضل على رأس المال ، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي ، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح ، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر.
{ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [البقرة : 16] لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما ، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة ، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح.
وقيل : الذين صفة أولئك وفما ربحت تجارتهم إلى آخر الآية في محل رفع خبر أولئك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
(1/43)
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب
57
المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال.
والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير.
يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير.
وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً ، وكذلك قوله { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الرعد : 35] (الرعد : 53) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع الذي موضع الذين كقوله { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة : 69] (التوبة : 96) فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد.
ومعنى استوقد أوقد ، ووقود ووقود النار سطوعها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً.
{ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } [البقرة : 17] الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله { هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [يونس : 5] (يونس : 5) وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء.
وجواب فلما
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة : 17] وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل ” إذا ” .
وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير : فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله.
وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى.
والنور ضوء النار وضوء كل نير ، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به.
والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب.
ولم يقل ذهب الله
58
(1/44)
بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ } [البقرة : 17] والظلمة عرض ينافي النور.
وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لا يُبْصِرُونَ } [البقرة : 17] وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم في ظلمات أصله ” هم في ظلمات ” ثم دخل ” ترك ” فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً.
وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، أو وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي.
وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم.
{ صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [البقرة : 18] أي هم صم ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما إنفت مشارعهم.
وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء ، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون ، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة : 18] لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء.
وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.
59
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [البقرة : 19] ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح.
وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق.
والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف ” مثل ” لدلالة العطف عليه ” وذوي ” لدلالة يجعلون عليه.
والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا ، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله : { وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُ } [غافر : 58] (غافر : 85) ، وقول امرىء القيس :
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
كأن قلوب الطير رطباً ويابسا
لدى وكرهاً العناب والحشف البالي
(1/45)
بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة.
والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به.
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة : 5] (الجمعة : 5) الآية.
فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب.
وكقوله : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ } [الكهف : 45] (الكهف : 54) ، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة ، فأما أن يراد
60
تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا.
فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر ، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهوان إلى الأغلظ.
وعطف أحد التمثيلين على الآخر بـ ” أو ” لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض ، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك ” جالس الحسن أو ابن سيرين ” تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، وقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان : 24] (الدهر : 42) ، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك.
والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً.
وتنكير ” صيب ” لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول ، والسماء هذه المظلة.
وعن الحسن أنها موج مكفوف.
والفائدة في ذكر السماء.
والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه ، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع.
ظلمات مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء ” فيه
61
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
(1/46)
ظلمات ” ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه.
والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه ، أو ملك يسوق السحاب.
والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع ، والضمير في فيه يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات ، فإن أريد به السحاب فظلماته ـــــ إذا كان أسحم مطبقاً ، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل.
وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل.
وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر ، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة.
ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل ، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما.
ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف.
{ يَجْعَلُونَ أَصَـابِعَهُمْ فِى } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله { هُمْ قَآ ـاِلُونَ } (الأعراف : 4) لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه.
ولا محل لـ ” يجعلون ” لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم.
ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقال : يكاد البرق يخطف أبصارهم.
وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة : 38] (المائدة : 83) والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل.
وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة.
{ مِّنَ الصَّوَاعِقِ } [البقرة : 19] متعلق بـ ” يجعلون ” أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم.
والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار.
قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود.
يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت.
ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق
62
{ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243] مفعول له ، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { وَاللَّهُ مُحِيطُ بِالْكَـافِرِينَ } [البقرة : 19] يعني أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُمْ } [البقرة : 20] الخطف الأخذ بسرعة ، و ” كاد ” يستعمل لتقريب الفعل جداً ، وموضع يخطف نصب لأنه خبر ” كاد ” .
{ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم } [البقرة : 20] ” كل ” ظرف و ” ما ” نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه ، والعامل فيه جوابها وهو { مَّشَوْا فِيهِ } [البقرة : 20] أي في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين.
و ” أضاء ” معتدٍ كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه ، والمفعول محذوف.
أو غير متعدٍ أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.
والمشي جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعي فإذا ازداد فهو عدوٌ.
{ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 20] ” أظلم ” غير متعدٍ وذكر مع أضاء كلما ومع أظلم إذا لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف.
{ قَامُوا } وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قام الماء إذا جمد.
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [البقرة : 20] بقصيف الرعد { وَأَبْصَـارِهِمْ } بوميض البرق.
ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما ولقد تكاثر هذا الحذف في ” شاء ” وأراد لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله :
(1/47)
جزء : 1 رقم الصفحة : 63
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
63
وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا } [الأنبياء : 17] (الأنبياء : 71).
{ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا } (الزمر : 4) { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] أي إن الله قادر على كل شيء.
لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ } قال علقمة : ما في القرآن ” يا أيها الناس ” فهو خطاب لأهل مكة ، وما فيه يا أيها الذين آمنوا فهو خطاب لأهل المدينة ، وهذا خطاب لمشركي مكة ، و ” يا ” حرف وضع لنداء البعيد ، وأي والهمزة للقريب ، ثم استعمل في مناداة من غفا وسها وإن قرب ودنا تنزيلاً له منزلة من بعد ونأى ، فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جداً.
وقول الداعي ” يا رب ” وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته.
و ” أي ” وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن ” ذو ” و ” الذي ” وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء.
فالذي يعمل فيه ” يا أي ” ، أي والتابع له صفته نحو ” يا زيد الظريف ” إلا أن ” أيا ” لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة ، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء وللعوض عما يستحقه أي من الإضافة.
وكثر النداء في القرآن على هذه الطريقة لأن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده أمور عظام وخطوب جسام ، يجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم إليها وهم عنها غافلون ، فاقتضت الحال
64
أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
{ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [البقرة : 21] وحدوه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد { الَّذِى خَلَقَكُمْ } [الروم : 40] صفة موضحة مميزة لأنهم كانوا يسمون الآلهة أرباباً.
والخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، وعند المعتزلة إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم لأن الشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم ، وعندنا هو اسم للموجود.
خلقكم بالإدغام : أو عمرو.
{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة : 21] احتج عليهم بأنه خالقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك فقيل لهم : إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام.
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] أي اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب.
و ” لعل ” للترجي والإطماع ولكنه إطماع من كريم فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه ، وبه قال سيبويه.
وقال قطرب : هو بمعنى ” كي ” أي لكي تتقوا.
{ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ } [الملك : 15] أي صير ومحل الذي نصب على المدح أو رفع بإضمار هو فراشاً بساطاً تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثانٍ لجعل ، وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن على التقديرين.
{ وَالسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة : 22] سقفاً كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } [الأنبياء : 32] (الأنبياء : 23) ، وهو مصدر سمي به المبنى.
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [البقرة : 22] مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ } [البقرة : 22] بالماء ، نعم خروج الثمرات بقدرته ومشيئته وإيجاده ولكن جعل الماء سبباً في خروجها كماء الفحل في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الكل بلا سبب كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة ، حكماً وعبراً للنظار بعيون الاستبصار.
و ” من ” في { مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة : 22] للتبعيض أو للبيان { رِّزْقًا } مفعول له إن كانت ” من ” للتبيض ، ومفعول به لـ ” أخرج ” إن كانت للبيان.
وإنما قيل الثمرات دون الثمر والثمار وإن كان الثمر المخرج بماء السماء
65
(1/48)
كثيراً ، لأن المراد جماعة الثمرة ، ولأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية.
{ لَكُمْ } صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقاً وإياكم.
{ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } [البقرة : 22] هو متعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل له ند ولا شريك.
ويجوز أن يكون الذي رفعاً على الابتداء وخبره فلا تجعلوا .
ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أي الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء.
المثل والند ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء ، ومعنى قولهم ليس لله ند ولا ضد نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] أنها لا تخلق شيئاً ولا ترزق والله الخالق الرازق ، أو مفعول تعلمون متروك أي وأنتم من أهل العلم.
وجعل الأصنام لله أنداداً غاية الجهل ، والجملة حال من الضمير في فلا تجعلوا .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ـــــ لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم ، وخلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار وما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الثمار رزقاً لبني آدم ، فهذا كله دليل موصل إلى التوحيد مبطل للإشراك ، لأن شيئاً من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها ، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وما يقرر إعجاز القرآن فقال.
{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا } [البقرة : 23] ” ما ” نكرة موصوفة أو بمعنى الذي { عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة : 23] محمد عليه السلام ، والعبد اسم لمملوك من جنس العقلاء ، والمملوك موجود قهر بالاستيلاء.
وقيل : نزلنا دون أنزلنا لأن المراد به النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي وذلك أنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً ، شيئاً فشيئاً لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بخطبه ضربة ، فلو أنزله
66
(1/49)
الله لأنزله جملة قال الله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان : 32] (الفرقان : 23) ، فقيل : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على تدريج { فَأْتُوا بِسُورَةٍ } [يونس : 38] أي فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً فرداً من نجومه سورة من أصغر السور.
والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات.
وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسور ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سور المدينة على ما فيها ، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء ، وهي أيضاً في نفسها مرتبة طوال وأوساط وقصار ، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين.
وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسؤرة التي هي البقية من الشيء.
وأما الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً فهي كثيرة ، ولذا أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السورة ، وبوب المصنفون في كل فن كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم.
منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بياناً واحداً ، ومنها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ، ومن ثم جزّأ القراء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة فيعظم عنده ما حفظه ويجل في نفسه ، ومنه حديث أنس رضي الله عنه كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فينا.
ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
{ مِّن مِّثْلِهِ } [يس : 42] متعلق بـ ” سورة ” صفة لها والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله يعني فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، أو لعبدنا أي فأتوا بمن هو على حاله من كونه أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء.
ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك.
ورد الضمير إلى المنزل أولى لقوله تعالى : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس : 38] (يونس : 83).
{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [هود : 13] (هود : 31).
{ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [الإسراء : 88] (الإسراء : 88).
ولأن الكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً.
وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه وهو مسوق إليه فإن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله.
وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله ، ولأن هذا التفسير يلائم قوله { وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم } [البقرة : 23] جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة { مِّن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] أي غير الله وهو متعلق بـ ” شهداءكم أي ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] إن ذلك مختلق وأنه من كلام محمد عليه السلام.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة : 24] لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون صدق النبي عليه السلام ، قال لهم : فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب وعاند.
وفيه دليلان على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزاً ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله.
ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم ، سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجيء بـ ؛ ” إن ” الذي للشك دون ” إذا ” الذي للوجوب ، وعبّر عن الإتيان بالفعل
(1/50)
لأنه فعل من الأفعال.
والفائدة فيه أنه جارٍ مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً إذ لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال ” فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله ” .
ولا محل لقوله ولن تفعلوا لأنها جملة اعتراضية ، وحسّن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله ولن تفعلوا و ” لا ” و ” لن ” أختان في نفي المستقبل إلا أن في ” لن ” تأكيداً.
وعن الخليل أصلها ” لا أن ” ، وعند
68
الفراء ” لا ” أبدلت ألفها نوناً ، وعند سيبويه حرف موضوع لتأكيد نفي المستقبل ، وإنما علم أنه إخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لأنهم لو عارضوه بشيء لاشتهر فكيف والطاعنون فيه أكثر عدداً من الذابين عنه؟ وشرط في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول ، وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد وأبوا الانقياد استوجبوا النار فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد ، فوضع فاتقوا النار موضعه لأن اتقاء النار سبب ترك العناد وهو من باب الكناية وهي من شعب البلاغة ، وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن.
والوقود ما ترفع به النار يعني الحطب ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح.
وصلة الذي والتي تجب أن تكون معلوماً للمخاطب فيحتمل أن يكونوا سمعوا من أهل الكتاب أو من رسول الله ، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم : 6] (التحريم : 6).
وإنما جاءت النار منكرة ثم ومعرفة هنا لأن تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه الآية بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أولاً.
ومعنى قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي حجارة الكبريت ، فهي أشد توقداً وأبطأ خموداً وأنتن رائحة وألصق بالبدن أو الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيراً.
وإنما قرن الناس بالحجارة لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث عبدوها وجعلوها لله أنداداً ونحوه قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98] (الأنبياء : 89) أي حطبها ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في إيلامهم.
{ أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ } [البقرة : 24] هيئت لهم.
وفيه دليل على أن النار مخلوقة خلافاً لما يقوله جهم سنة الله في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطاً لاكتساب ما يزلف وتثبيطاً عن اقتراف ما يتلف ، فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله :
69
جزء : 1 رقم الصفحة : 63
(1/51)
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة : 25] والمأمور بقوله ” وبشر ” الرسول عليه السلام أو كل أحد ، وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمة وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
وهو معطوف على ” فاتقوا ” كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم.
أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك ” زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق ” .
والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر.
فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين.
ولو قال : ” أخبرني ” مكان ” بشرني ” عتقوا جميعاً ، لأنهم أخبروه ، ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه.
وأما فبشرهم بعذاب أليم فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك.
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم.
والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس.
والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه.
ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً ، لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ، ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله
70
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
الجنة.
{ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } [البقرة : 25] أي بأن لهم جنات.
وموضع ” أن ” وما عملت فيه النصب بـ ” بشّر ” عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل.
والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف ، والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون والجنين والجنة والجان والجنان ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان.
والجنة مخلوقة لقوله تعالى : { وَقُلْنَا يَااَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } (البقرة : 53) خلافاً لبعض المعتزلة.
ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان.
{ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ } [الرعد : 35] الجملة في موضع النصب صفة لجنات ، والمراد من تحت أشجارها كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية.
وأنهار الجنة تجري في غير أخدود.
وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة والجري الأطراد.
والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل : نهر مصر ، واللغة الغالة نهر ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار مجازي.
وإنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] (مريم : 4) ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } [محمد : 15] (محمد : 51) ، الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
(1/52)
{ كُلَّمَا رُزِقُوا } [البقرة : 25] صفة ثانية لـ ” جنات ” أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله.
{ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَـاذَا الَّذِى } [البقرة : 25] أي كلما رزقوا من الجنات ، من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك ، رزقاً قالوا ذلك.
فـ ” من ” الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة ، ونظيره أن تقول : رزقني
71
فلان فيقال لك : من أين؟ فتقول : من بستانه.
فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول : من الرمان.
وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار.
{ رُزِقْنَا } أي رزقناه فحذف العائد { مِن قَبْلِ } [يوسف : 6] أي من قبل هذا ، فلما قطع عن الإضافة بنى ، والمعنى هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه بدليل قوله { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَـابِهًا } [البقرة : 25] وهذا كقولك ” أبو يوسف أبو حنيفة ” تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته.
والضمير في به يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، وإنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن أجناساً أخر ، لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتاً بيناً كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر.
وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية ، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم في كل أوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه ، والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف.
وعنه عليه السلام : والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدلها الله مكانها مثلها فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك وقوله : وأتوا به متشابهاً جملة معترضة للتقرير كقولك ” فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل ” ورأى من الرأي كذا وكان صواباً ، ومنه
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ } [النمل : 34] (النمل : 43).
{ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } [البقرة : 25] أزواج مبتدأ ولهم الخبر وفيها ظرف للإستقرار.
{ مُّطَهَّرَةٌ } من مساوى الأخلاق ، لا طمحات ولا مرحات ، أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس.
ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ، ولم يقل طاهرة لأن { مُّطَهَّرَةٌ } أبلغ لأنها تكون للتكثير ، وفيها إشعار بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل.
{ وَهُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 25] الخلد والخلود البقاء الدائم
72
(1/53)
الذي لا ينقطع ، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر ، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات ، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال.
قلنا : الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود.
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها.
وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم بديع ـــــ وفيه لغتان : التعدي بنفسه وبالجار.
يقال : استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا ، وضرب المثل صنعة من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
و ” ما ” هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك : ” أعطني كتاباً ما ” تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ } [المائدة : 13] (النساء : 551) ، كأنه قال : لا يستحي أن يضرب مثلاً البتة.
وبعوضة عطف بيان لـ ” مثلاً ” أو مفعول لـ ” يضرب ” ومثلاً حال من
73
النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين على أن ” ضرب ” بمعنى ” جعل ” واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب.
يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه ، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت.
{ فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة : 26] فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة ، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة.
ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً للدنيا.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } [البقرة : 26] الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب { مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 3] في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } [البقرة : 26] ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك.
وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلاً استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو : يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له.
ومثلاً نصب على التمييز أو على الحال كقوله { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } [الأعراف : 73] (الأعراف : 37) وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء ، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد.
تقول : زيد ذاهب.
فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت : أما زيد فذاهب ، ولذا قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط.
وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون ، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء.
وماذا فيه وجهان : أن يكون ” ذا ” اسماً موصولاً بمعنى
74
(1/54)
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
الذي و ” ما ” استفهاماً فيكون كلمتين ، وأن تكون ” ذا ” مركبة مع ” ما ” مجعولتين اسماً واحداً للاستفهام فيكون كلمة واحدة ، فـ ” ما ” على الأول رفع بالابتداء وخبره ” ذا ” مع صلته أي أراد ، والعائد محذوف.
وعلى الثاني منصوب المحل بـ ” أراد ” والتقدير : أي شيء أراد الله.
والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة.
وقال معتزلة بغداد : إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة.
فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساهٍ ولا مكره عليه ، وإن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به.
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [البقرة : 26] جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بـ ” أما ” ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى ، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة.
وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، ولأن القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
إن الكرام كثير في البلاد وإن
قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية خلق فعل الاهتداء ، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة ، وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد.
فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، ألا ترى أنه الحق لما كان واضحاً جلياً تمثل له بالضياء والنور ، وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ، ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله لا حال أحقر منها وأقل ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقل من الذباب وضربت لها البعوضة؟ فالذي دونها مثلاً ـــــ لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله ، سائق للمثل على قضية مضربه ، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور يناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أن
75
الحق ، وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين.
والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا : أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قرد ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس ، وأضعف من البعوضة ، وأعز من مخ البعوض ، ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح.
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَـاسِقِينَ } [البقرة : 26] هو مفعول يضل وليس بمنصوب على الاستثناء لأن يضل لم يستوف مفعوله.
والفسق : الخروج عن القصد.
والفاسق في الشريعة : الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله.
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } [البقرة : 27] النقض : الفسخ وفك التركيب.
والعهد : الموثق.
والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً.
وعهد الله ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم ، أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره ، أو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم.
وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
(1/55)
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ } (الأعراف : 172) الآية ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ } (الأحزاب : 7) وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } ، { مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ } [البقرة : 27] أصله من الوثاقة وهي إحكام الشيء ، والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله
76
وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يكون بمعنى توثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو لله تعالى أي من بعد توثقته عليهم و ” من ” لابتداء الغاية { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [البقرة : 27] هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض.
والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء ، و ” ما ” نكرة موصوفة أو بمعنى الذي و ” أن يوصل ” في موضع جر بدل من الهاء أي بوصله ، أو في موضع رفع أي هو أن يوصل { وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } [الرعد : 25] بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان { أُوالَـائِكَ } مبتدأ { هُمْ } فصل والخبر { الْخَـاسِرُونَ } أي المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } [البقرة : 28] معنى الهمزة التي في ” كيف ” مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم وما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب ، ونظيره قولك : أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح؟ والواو في { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا } [البقرة : 28] نطفاً في أصلاب آبائكم للحال و ” قد ” مضمرة.
والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى : { بَلْدَةً مَّيْتًا } [ق : 11] (الفرقان : 94) { فَأَحْيَـاكُمْ } في الأرحام { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [الجاثية : 26] عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الحج : 66] للبعث { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 28] تصيرون إلى الجزاء ، أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور.
وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور ، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور.
وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر ، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ } [البقرة : 29] أي لأجلكم ولانتفاعكم به في
77
(1/56)
ؤ دنياكم ودينكم.
أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم ، وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها.
وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله خلق لكم على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل.
{ جَمِيعًا } نصب على الحال من ما { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ } [البقرة : 29] الاستواء : الاعتدال والاستقامة.
يقال : استوى العود أي قام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ } [البقرة : 29] (فصلت : 11) ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر.
والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق.
والضمير في مبهم يفسره { اللَّهُ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [نوح : 15] كقولهم ” ربه رجلاً ” .
وقيل : الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها في معنى الجنس.
ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن.
” وثم ” هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض ، ولا يناقض هذا قوله { وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ } [النازعات : 30] (النازعات : 03) لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر.
وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقًا } [الأنبياء : 30] (الأنبياء : 03) ، وهو الالتزاق { وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 29] فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت من خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم.
وهو وأخواته مدني غير ورش ، ” وهو هو وأبو عمرو وعلي ، جعلوا الواو كأنها في نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون
78
في عضد عضد بالسكون.
ولما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
(1/57)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـائكَةِ } [الحجر : 28] ” إذ ” نصب بإضمار ” اذكر ” .
والملائكة جمع ملأك كالشمائل جمع شمال وإلحاق التاء لتأنيث الجمع.
{ إِنِّي جَاعِلٌ } [البقرة : 30] أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما { فِى الارْضِ خَلِيفَةً } [البقرة : 30] وهو من يخلف غيره ” فعيلة ” بمعنى ” فاعلة وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى : خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته.
ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم.
واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك ” مضر وهاشم ” ، أو أريد من يخلفكم أوخلقاً يخلفكم فوحد لذلك ، أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي ، قال الله تعالى : { يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ } (ص : 62) ، وإنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، أو ليعلّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة.
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة : 30] تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يجهل ، وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو من جهة اللوح أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر.
{ وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ } [البقرة : 30] أي يصب.
والواو في { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } [البقرة : 30] للحال كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟ { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال أي نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى : { وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ } [المائدة : 61] (المائدة : 16) ، أي دخلوا كافرين.
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة : 30] ونطهر أنفسنا لك.
وقيل : التسبيح والتقديس تبعيد الله من السوء من سبح في الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها وأبعد.
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 30] أي أعلم من الحكم في ذلك ما هو خفي عليكم يعني يكون فيهم الأنبياء والأولياء والعلماء.
و ” ما ” بمعنى ” الذي ” وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا
79
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
تعلمونه.
إنى حجازي وأبو عمرو.
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ } [البقرة : 31] هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزو واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الإبلاس.
{ الاسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة : 31] أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] (مريم : 4) ، ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى : أنبئوني بأسماء هؤلاء و أنبئهم بإسمائهم ، ولم يقل ” أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم ” .
ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة.
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـائِكَةِ } [البقرة : 31] أي عرض المسميات ، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم.
وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت { فَقَالَ أَنابِئُونِى } [البقرة : 31] أخبروني { بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 31] في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء ، وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا.
{ قَالُوا سُبْحَـانَكَ } [سبأ : 41] تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك.
وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟ وانتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً { لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة : 32] وليس فيه علم الأسماء ، و ” ما ” بمعنى ” الذي ” ، والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا ، إلا الذي علمتنا.
{ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } [البقرة : 32] غير المعلم { الْحَكِيمُ } فيما قضيت
80
(1/58)
وقدرت.
والكاف اسم ” إن ” و ” أنت ” مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر ” إن ” ، أو أنت فصل والخبر العليم .
والحكيم خبر ثان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
{ قَالَ يَا ءادَمُ أَنابِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنابَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة : 33] سمى كل شيء باسمه.
{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 33] أي أعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون.
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } [البقرة : 33] تظهرون.
{ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة : 33] تسرون.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ } [الكهف : 50] أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له.
عن أبي بن كعب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن.
والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض.
وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس.
وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى .
{ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ } [طه : 116] الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، ولهذا قال : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف : 12] (الأعراف : 21) ، وقوله : { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [الكهف : 50] (الكهف : 05) معناه صار من الجن كقوله { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43] (هود : 34).
وقيل : الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من
81
النور ، ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته.
ولأنه قال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى } [الكهف : 50] (الكهف : 05) ، ولا نسل للملائكة.
وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد ، فمن طهر منهم فهو ملك ، ومن خبث فهو شيطان ، ومن كان بين بين فهو جن.
{ أَبَى } امتنع مما أمر به { وَاسْتَكْبَرَ } تكبر عنه.
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 34] وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر ، لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج ، أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لأنه كان كافراً أبداً في علم الله وهي مسألة الموافاة.
{ وَقُلْنَا يَا ءادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً { أَنتَ } تأكيد للمستكن في اسكن ليصح عطف { وَزَوْجُكَ } عليه { الْجَنَّةَ } هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف.
وقالت المعتزلة : كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها.
قلنا : إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء.
وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها ، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد.
{ وَكُلا مِنْهَا } [البقرة : 35] من ثمارها فحذف المضاف.
{ رَغَدًا } وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً { حَيْثُ شِئْتُمَا } [البقرة : 35] شئتما وبابه بغير همز : أبو عمرو.
وحيث للمكان المبهم أي أيّ مكان من الجنة شئتما { وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ } [البقرة : 35] أي الحنطة.
ولذا قيل : كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان ، أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة ، أو التينة.
{ فَتَكُونَا } جزم عطف
82
(1/59)
على تقربا أو نصب جواب للنهي.
{ مِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة : 35] من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين أنفسهم.
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } [البقرة : 36] أي عن الشجرة ، أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما.
فأزالهما حمزة.
وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم ، أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه.
وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى.
فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين.
وقال مشايخ سمرقند : لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية.
وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه.
{ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [البقرة : 36] من النعيم والكرامة ، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها .
وقد توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له أخرج منها فإنك رجيم ، لأنه منع عن دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.
وروي أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به.
وقيل : قام عند الباب فنادى.
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا } [البقرة : 36] الهبوط النزول إلى الأرض.
والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء.
والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَا } [طه : 123] (طه : 321) { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [طه : 123] المراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض.
والجملة في موضع الحال من الواو في اهبطوا أي اهبطوا متعادين.
{ وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ } [البقرة : 36] موضع استقرار أو استقرار.
{ وَمَتَاعٌ } وتمتع بالعيش.
{ إِلَى حِينٍ } [البقرة : 36] إلى يوم القيامة أو إلى الموت.
قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً.
83
{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [البقرة : 37] أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها.
وبنصب آدم ورفع كلماتً : مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهنا قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 23] (الأعراف : 32).
وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى.
قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ ألم تسكنى جنتك؟ وهو تعالى يقول : بلى بلى.
قال : فلم أخرجتني من الجنة؟ قال : بشؤم معصيتك.
قال : فلو تبت أراجعي أنت إليها؟ قال : نعم { فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة : 37] فرجع عليه بالرحمة والقبول.
واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعاً له ، وقد طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك.
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } [البقرة : 37] الكثير القبول للتوبة.
{ الرَّحِيمُ } على عباده.
{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } [البقرة : 38] حال أي مجتمعين.
وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد ، أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، أو لما نيط به من زيادة قوله.
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى } [البقرة : 38] أي رسول أبعثه إليكم ، أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَاتِنَآ } [البقرة : 39] في مقابلة قوله { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [البقرة : 38] أي بالقبول والإيمان به.
{ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 38] في المستقبل { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] على ما خلفوا.
والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك ” إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك ” .
فلا خوف بالفتح في كل القرآن : يعقوب.
84
(1/60)
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ أُوالَـائِكَ } [البقرة : 39] مبتدأ والخبر { أَصْحَـابُ النَّارِ } [الزمر : 8] أي أهلها ومستحقوها.
والجملة في موضع الرفع خبر المبتدأ أعني والذين { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله.
فإسرا هو العبد أو الصفوة ، وإيل هو الله بالعبرية ، وهو غير منصرف لوجود العلمية والعجمة.
{ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 40] ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها.
وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم ، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلّم المبشر به في التوراة والإنجيل.
{ وَأَوْفُوا } أدوا وافياً تاماً ، يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به ، والاختيار أوفيت ، وعليه نزل التنزيل.
{ بِعَهْدِى } بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي ، أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز.
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة : 40] بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم.
والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً.
وعن قتادة : هما لئن أقمتم ولأكفرن.
وقال أهل الإشارة : أوفوا في دار محنتي ، على بساط خدمتي ، بحفظ حرمتي ، أوف في دار نعمتي ، على بساط كرامتي ، بسرور رؤيتي.
{ وَإِيَّـاىَ فَارْهَبُونِ } [البقرة : 40] فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك ” زيدا رهبته ” وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة : 5] (الفاتحة : 4) وإيّاي منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون ، وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه.
وإنما لم ينتصب بقوله فارهبون لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد في ” زيدا فاضربه ” بـ ” اضرب ” الذي هو ظاهر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
{ وَءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ } [البقرة : 41] يعني القرآن { مُصَدِّقًا } حال مؤكدة من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً { لِّمَا مَعَكُمْ } [آل عمران : 81] من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ } [البقرة : 41] أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به ، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به.
وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، والضمير في به يعود
85
(1/61)
إلى القرآن.
{ وَلا تَشْتَرُوا } [المائدة : 44] ولا تستبدلوا.
{ بِاَايَـاتِى } بتغييرها وتحريفها.
{ ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] قال الحسن : هو الدنيا بحذافيرها.
وقيل : هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله.
{ وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ } [البقرة : 41] فخافوني فارهبوني فاتقوني بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط : يعقوب.
{ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ } [البقرة : 42] لبس الحق بالباطل خلطه.
والباء ، إن كانت صلة مثلها في قولك ” لبست الشيء بالشيء ” خلطته به ، كان المعنى ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بين حقها وباطلكم.
وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك ” كتبت بالقلم ” ، كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه.
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } [البقرة : 42] هو مجزوم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا ، أو منصوب بإضمار ” أن ” ، والواو بمعنى الجمع ، أي ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك ” لا تأكل السمك وتشرب اللبن ” .
وهما أمران متميزان ، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها ، وكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] في حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة } [البقرة : 43] أي صلاة المسلمين وزكاتهم.
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة : 43] منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام.
وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود ، وأن يكون أمراً بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة ، أي صلوها مع المصلين لا منفردين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
والهمزة في { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ } [البقرة : 44] للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم.
{ بِالْبِرِّ } أي سعة الخير والمعروف ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير ومنه قولهم ” صدقت وبررت ” .
وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه.
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها.
{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 44] وتتركونها من البر كالمنسيات.
{ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 44] تبكيت أن تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على
86
الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم.
{ وَاسْتَعِينُوا }
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
(1/62)
على حوائجكم إلى الله { بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } [البقرة : 153] أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض ، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال : ” واستعينوا بالصبر والصلاة .
وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر.
وقيل : الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه.
{ وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة أو للاستعانة.
{ لَكَبِيرَةٌ } لشاقة ثقيلة من قولك ” كبر عليّ هذا الأمر ” { إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ } [البقرة : 45] لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ، ألا ترى إلى قوله : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ } [البقرة : 46] أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه.
وفسر يظنون بـ ” يتيقنون ” لقراءة عبد الله يعلمون ، أي يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك ، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة.
والخشوع الإخبات والتطامن وأما الخضوع فاللين والانقياد.
وفسر اللقاء بالرؤية وملاقو ربهم بمعاينوه بلا كيف.
{ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 46] لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ } [البقرة : 47] نصب عطف على نعمتي أي اذكروا نعمتي وتفضيلي.
{ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] على الجمع الغفير من الناس يقال ” رأيت عالماً من الناس ” والمراد الكثرة.
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } [البقرة : 281] أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف.
{ لا تَجْزِى نَفْسٌ } [البقرة : 48] مؤمنة.
{ عَن نَّفْسٍ } [البقرة : 48] كافرة { شَيْئًا } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها.
ووشيئاً مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء ، والجملة منصوبة المحل صفة ويوماً والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه وولا يقبل منها شفاعةٌ } ولا تقبل بالتاء : مكي وبصري ، والضمير في منها يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة ، وقيل : كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ } [المدثر : 48] ، وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشافعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها .
{ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة : 48] أي فدية لأنها معادلة للمفدي.
{ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 48] يعاونون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي.
{ وَإِذْ نَجَّيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [البقرة : 49] أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام ، وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس.
{ يَسُومُونَكُمْ } حال من آل فرعون أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً ، وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم { سُواءَ الْعَذَابِ } [غافر : 45] ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزيدة أو مطالبة ، وسوء مفعول ثانٍ لـ ” يسومونكم ” وهو مصدر سيىء.
يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ، ومعنى سوء العذاب ، والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } [البقرة : 49] بيان لقوله
88
(1/63)
يسومونكم ولذا ترك العاطف { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [البقرة : 49] يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ وكان ما شاء الله { وَفِى ذَالِكُم بَلاءٌ } [البقرة : 49] محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون ، ونعمة إن أشير به إلى الانتجاء.
{ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران : 49] ، صفة لـ ” بلاء ” { عَظِيمٌ } صفة ثانية.
{ وَإِذْ فَرَقْنَا } [البقرة : 50] فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم.
وقرىء فرّقنا أي فصلنا يقال : فرق بين الشيئين وفرّق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط.
{ بِكُمُ الْبَحْرَ } [البقرة : 50] كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم ، أو فرقناه بسببكم ، أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال.
روي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : أين أصحابنا فنحن لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم.
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـاكُمْ وَأَغْرَقْنَآ } [البقرة : 50] إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه.
وإنما قال { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } [البقرة : 51] لأن الله تعالى وعده الوحي ووعده هو المجيء للميقات إلى الطور.
وعدنا حيث كان بصري.
لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وقال { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [البقرة : 51] لأن الشهور غررها بالليالي وأربعين مفعول ثانٍ لـ ” واعدنا لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه في أربعين ليلة { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 51] أي إلها فحذف المفعول الثاني لـ ” اتخذتم ” ، وبابه بالإظهار مكي وحفص { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد ذهابه إلى الطور ، { وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ } [البقرة : 51] أي بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أي عبدتموه ظالمين.
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } [البقرة : 52] محونا ذنبوكم عنكم.
{ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ } [يوسف : 48] من بعد اتخاذكم العجل.
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم.
89
{ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَالْفُرْقَانَ } [البقرة : 53] يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره ” رأيت الغيث والليث ” تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة.
أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام.
وقيل : الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 53] لكي تهتدوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } [إبراهيم : 6] للذين عبدوا العجل.
{ لِقَوْمِهِ يَـاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } معبوداً { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } [البقرة : 54] هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت.
وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم إبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة والبلادة { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 54] قيل : هو على الظاهر وهو البخع.
وقيل : معناه قتل بعضهم بعضاً.
وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفاً.
{ ذالِكُمْ } التوبة والقتل { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } [البقرة : 54] من الإصرار على المعصية.
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } [البقرة : 54] المفضال بقبول التوبة وإن كثرت { الرَّحِيمُ } يعفو الحوبة وإن كبرت.
والفاء الأولى للتسبيب لأن الظلم سبب التوبة ، والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم إذ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، والثالثة متعلقة بشرط محذوف كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
(1/64)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَـامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } عياناً وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال من نرى أي ذوي جهرة.
{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّـاعِقَةُ } [البقرة : 55] أي الموت.
قيل : هي نار جاءت من السماء فأحرقتهم.
روي أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له : نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة.
فقال موسى : سألته ذلك فأباه
90
عليّ.
فقالوا : إنك رأيت الله تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم.
وتعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت.
قلنا : إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم : إنك رأيت الله فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم.
ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة ، والإيمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم.
ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد.
{ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [البقرة : 50] إليها حين نزلت.
{ ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم } [البقرة : 56] أحييناكم وأصله الإثارة { مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 56] نعمة البعث بعد الموت.
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } [البقرة : 57] جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } [البقرة : 57] الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع.
{ وَالسَّلْوَى } كان يبعث الله عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه.
وقلنا لهم { كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ } [البقرة : 57] لذيذات أو حلالات { مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } [البقرة : 57] يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] أنفسهم مفعول يظلمون وهو خبر ” كان ” .
{ وَإِذْ قُلْنَا } [البقرة : 58] لهم بعدما خرجوا من التيه.
{ ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ } [البقرة : 58] أي بيت المقدس أو أريحاء.
والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق ، أمروا بدخولها بعد التيه.
{ فَكُلُوا مِنْهَا } [البقرة : 58] من طعام القرية وثمارها.
{ حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } [البقرة : 58] واسعاً { وَادْخُلُوا الْبَابَ } [الأعراف : 161] باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها ، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلوا الباب في حياته ودخلوا بيت المقدس بعده.
{ سُجَّدًا } .
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
حال وهو جمع ساجد ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى
91
(1/65)
الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً له.
{ وَقُولُوا حِطَّةٌ } [البقرة : 58] فعلة من الحط كالجلسة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة ، والأصل النصب وقد قرىء به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات.
وقيل : أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها.
وعن عليّ رضي الله عنه : وهو بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن عكرمة : هو لا إله إلا الله.
{ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـايَـاكُمْ } [البقرة : 58] جمع خطيئة وهي الذنب.
” يغفر ” : مدني تغفر : شامي.
{ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 58] أي من كان محسناً منكم.
كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة.
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 59] فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ، فـ ” بدل ” يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء ، فالذي مع الباء متروك والذي بغير باء موجود ، يعني وضعوا مكان حطة قولاً غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله.
وقيل : قالوا مكان حطة حنطة.
وقيل : قالوا بالنبطية حطاً سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا.
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا } [البقرة : 59] عذاباً.
وفي تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بإنزال الرجز عليهم لظلمهم.
{ مِّنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] صفة لرجز { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [البقرة : 59] بسبب فسقهم.
روي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً وقيل سبعون ألفاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } [البقرة : 60] موضع إذ نصب كأنه قيل : واذكروا إذا
92
استسقى أي استدعي أن يسقي قومه.
{ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } [البقرة : 60] عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر.
واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً ، أو للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
{ فَانفَجَرَتْ } الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أي سالت بكثرة ، أو فإن ضربت فقد انفجرت وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ.
{ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [البقرة : 60] على عدد الأسباط وقرىء بكسر الشين وفتحها وهما لغتان ، وعيناً تمييز.
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } [البقرة : 60] كل سبط { مَّشْرَبَهُمْ } عينهم التي يشربون منها.
وقلنا لهم { كُلُوا } من المن والسلوى.
{ وَاشْرَبُوا } من ماء العيون.
{ مِن رِّزْقِ اللَّهِ } [البقرة : 60] أي الكل مما رزقكم الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ } [البقرة : 60] لا تفسدوا فيها.
والعيث أشد الفساد { مُفْسِدِينَ } حال مؤكدة أي لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَـامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى.
وإنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف.
أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ } [البقرة : 61] سله وقل له أخرج لنا { يُخْرِجْ لَنَا } [البقرة : 61] يظهر لنا ويوجد { مِمَّا تُانبِتُ الارْضُ مِن بَقْلِهَا } [البقرة : 61] هو ما أنبتته الأرض من
93
(1/66)
الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس.
{ وَقِثَّآئِهَا } يعني الخيار { وَفُومِهَا } هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود وثومها { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى } [البقرة : 61] أقرب منزلة وأدون مقداراً والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار { بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } [البقرة : 61] أرفع وأجل.
{ اهْبِطُوا مِصْرًا } [البقرة : 61] من الأمصار أي انحدروا إليه من التيه.
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ ، أو مصر فرعون.
وإنما صرفه من وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لإرادة البلد ، أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف { فَإِنَّ لَكُم } [البقرة : 61] فيها { مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة : 61] أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في التيه.
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } [البقرة : 61] أي الهوان والفقر يعني جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه.
فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة وفقر إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية.
عليهم الذلة : حمزة وعلي وكذا كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة وبكسر الهاء والميم : أبو عمرو.
وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } [البقرة : 61] من قولك ” باء فلان بفلان ” إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له.
أي صاروا أحقاء بغضبه.
وعن الكسائي حفوا { ذَالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب.
{ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ } [البقرة : 61] بالهمزة : نافع وكذا بابه.
أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء.
وقد قتلت اليهود شعياء وزكريا ويحيى صلوات الله عليهم.
والنبي من النبإ لأنه يخبر عن الله تعالى ” فعيل ” بمعنى ” مفعل ” أو بمعنى ” مفعل ” .
أو من نبا أي ارتفع ، والنبوة المكان المرتفع.
{ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الشورى : 42] عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئاً يستحقون به القتل عندهم في التوراة.
وهو في محل النصب على الحال من الضمير في يقتلون أي يقتلونهم مبطلين { ذَالِكَ } تكرار للإشارة.
{ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة : 61] بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء.
وقيل : هو اعتداؤهم في السبت.
ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم
94
فجسروا على جحود الآيات وقتلهم الأنبياء ، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النساء : 137] بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون.
{ وَالَّذِينَ هَادُوا } [المائدة : 69] تهودوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود.
{ وَالنَّصَـارَى } جمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامرأة نصرانة.
والياء في نصراني للمبالغة كالتي في ” أحمري ” سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح.
{ وَالصَّـابِئِينَ } الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين ، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة.
وقيل : هم يقرؤون الزبور.
{ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 62] من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً { وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } [البقرة : 62] ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ } [فاطر : 39] في الآخرة { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 62] ومحل من آمن الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم ، والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إن والمعطوف عليه.
فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي ، وفي الثاني فلهم والفاء لتضمن من معنى الشرط.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
(1/67)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ } [البقرة : 84] بقبول ما في التوراة.
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } [البقرة : 63] أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق.
وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم.
{ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم } [البقرة : 63] من الكتاب أي التوراة { بِقُوَّةٍ } بجدٍ وعزيمة { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } [البقرة : 63] واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] رجاء منكم أن تكونوا متقين.
ثمّ تولّيتم } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به.
{ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ } [يوسف : 48] من بعد القبول { فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [البقرة : 64] بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيقكم
95
للتوبة.
{ لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ } [البقرة : 64] الهالكين في العذاب.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } [البقرة : 65] عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ } [البقرة : 65] هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت.
وقد اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد.
وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم.
{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا } [البقرة : 65] بتكويننا إياكم { قِرَدَةً خَـاسِئِينَ } [البقرة : 65] خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغاروالطرد.
يعني المسخة { نَكَـالا } عبرة تنكل من اعتبر بها أن تمنعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة : 66] لما قبلها.
{ وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة : 66] وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين.
{ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة : 66] الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } [إبراهيم : 6] أي واذكروا إذ قال موسى ، وهو معطوف على نعمتي في قوله { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 40] (البقرة : 04) كأنه قال : اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى.
وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي ، واذكروا وقت إنجائنا إياكم ، واذكروا وقت فرقنا ، واذكروا نعمتي ، واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه.
والظروف التي تأتي إلى قوله { سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (البقرة ؛ 421).
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن } [النساء : 58] أي بأن { تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة : 67] قال المفسرون : أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها .
وذلك أن
96
رجلاً موسراً اسمه ” عاميل ” قتله بنو عمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بديته فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله.
{ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } [البقرة : 67] أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء.
هزأً بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبضمتين والواو : حفص.
غيرهما بالتثقيل والهمزة.
{ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ } [البقرة : 67] العياذ واللياذ من وادٍ واحد.
{ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ } [البقرة : 67] لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه ، وفيه تعريض بهم أي أنتم جاهلون حيث نسبتموني إلى الاستهزاء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
(1/68)
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } [البقرة : 68] سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عالمين بماهيتها ، لأن ” ما ” وإن كانت سؤالاً عن الجنس ، و ” كيف ” عن الوصف ولكن قد تقع ” ما ” موقع ” كيف ” ، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشان ، وما هي خبر ومبتدأ.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ } [البقرة : 68] مسنة ، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها.
وارتفع فارض لأنه صفة لـ ” بقرة ” ، وقوله : { وَلا بِكْرٌ } [البقرة : 68] فتية عطف عليه.
{ عَوَانٌ } نصف.
{ بَيْنَ ذَالِكَ } [النساء : 150] بين الفارض والبكر ، ولم يقل بين ذينك مع أن ” بين ” يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور ، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط فقل كأنها.
وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك.
{ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } [البقرة : 68] أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير.
97
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } [البقرة : 69] موضع ما رفع لأن معناه الاستفهام تقديره : ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } [البقرة : 69] الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع ، وهو توكيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل ، ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها ، وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده { تَسُرُّ النَّـاظِرِينَ } [البقرة : 69] لحسنها.
والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
عن علي رضي الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى : تسر الناظرين ، { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } [البقرة : 68] تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها ، وعن النبي عليه السلام لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَـابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة : 70] إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا { وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [البقرة : 70] إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل ، وإن شاء الله اعتراض بين اسم ” إن ” وخبرها.
وفي الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد ” أي لو لم يقولوا إن شاء الله { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الارْضَ } [البقرة : 71] لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول ، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض { وَلا تَسْقِى الْحَرْثَ } [البقرة : 71] ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروق ، و ” لا ” الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد
98
(1/69)
الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية { مُسَلَّمَةٌ } عن العيوب وآثار العمل.
{ لا شِيَةَ فِيهَا } [البقرة : 71] لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لون آخر.
{ قَالُوا الْـاَـانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } [البقرة : 71] أي بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها ، جئت وبابه بغير همز : أبو عمرو { فَذَبَحُوهَا } فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [البقرة : 71] لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل ، روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لإبني حتى يكبر وكان براً بوالديه.
فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة ، وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة.
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } [البقرة : 72] بتقدير ” واذكروا ” ، خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم.
{ فَادَّارَءاْتُمْ فِيهَا } [البقرة : 72] فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفع ، أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح ، أو لأن الطرح في نفسه دفع ، وأصاله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة ليمكن الإدغام ، ثم سكنوا الدال إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن ، فاداراتم بغير همز : أبو عمر.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة : 72] مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً ، وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ ، وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم.
99
جزء : 1 رقم الصفحة : 97
(1/70)
{ فَقُلْنَا } والضمير في { اضْرِبُوهُ } يرجع إلى النفس ، والتذكير بتأويل الشخص والإنسان ، أو إلى القتيل لما دل عليه ما كنتم تكتمون.
{ بِبَعْضِهَا } ببعض البقرة وهو لسانها أو فخذها اليمنى أو عجبها ، والمعنى فضربوه فحيى فحذف ذلك لدلالة { كَذَالِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى } [البقرة : 73] عليه.
روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك ، وقوله كذلك يحيي الله الموتى إما أن يكون خطاباً للمنكرين في زمن النبي عليه السلام ، وإما أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة.
{ وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ } [غافر : 81] دلائله على أنه قادر على كل شيء { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 73] فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص ، والحكمة في ذبح البقرة وضربه ببعضها وإن قدر على إحيائه بلا واسطة التقرب به ، الإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب والتعليم لعباده ترك التشديد في الأمور والمسارعة إلى امتثال أوامر الله من غير تفتيش وتكثير سؤال وغير ذلك.
وقيل : إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من البهائم لأنها أفضل قرابينهم ، ولعبادتهم العجل فأراد الله تعالى أن يهون معبودهم عندهم ، وكان ينبغي أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ، ولكنه تعالى إنما قص قصص بني إسرائيل تعديداً لما وجد منهم من الجنايات وتقريعاً لهم عليها ، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع.
فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك ، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة.
وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها إن وصلت بالأولى بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله اضربوه ببعضها ليعلم أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وقصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
وقيل : هذه القصة تشير إلى أن من أراد إحياء قلبه بالمشاهدات فليمت نفسه بأنواع المجاهدات.
100
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
(1/71)
ومعنى { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } [البقرة : 74] استبعاد القسوة { مِّن بَعْدِ } [يونس : 3] ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها.
وصفة القلوب بالقسوة مثل لنبوها عن الاعتبار والاتعاظ.
من بعد { ذَالِكَ } إشارة إلى إحياء القتيل أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة { فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ } [البقرة : 74] فهي في قسوتها مثل الحجارة { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] منها.
وأشد معطوف على الكاف تقديره أو مثل أشد قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أو هي في أنفسها أشد قسوة.
يعني أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً ، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة.
وإنما لم يقل أقسى لكونه أبين وأدل على فرط القسوة.
وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس كقولك ” زيد كريم وعمرو أكرم ” .
{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ } [البقرة : 74] بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ } [البقرة : 74] ما بمعنى ” الذي ” في موضع النصب وهو اسم ” إن ” واللام للتوكيد.
والتفجر التفتح بالسعة والكثرة.
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } [البقرة : 74] أصله يتشقق وبه قرأ الأعمش فقلبت التاء شيناً وأدغمت { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ } [البقرة : 74] يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير ، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً وقلوبهم لا تندى.
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } [البقرة : 74] يتردى من أعلى الجبل { مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر : 21] قيل : هو مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به.
وقيل : المراد به حقيقة الخشية على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز.
وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة وعلى هذا
101
قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ } [الحشر : 21] (الحشر : 12) ، الآية.
يعني وقلوبهم لا تخشى.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] وبالياء مكي وهو وعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
{ أَفَتَطْمَعُونَ } الخطاب لرسول الله والمؤمنين.
{ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } [البقرة : 75] أن يؤمنوا لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم كقوله تعالى : { فَـاَامَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت : 26] (العنكبوت : 62) ، يعني اليهود.
{ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } [البقرة : 75] طائفة فيمن سلف منهم.
{ يَسْمَعُونَ كَلَـامَ اللَّهِ } [البقرة : 75] أي التوراة.
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } [البقرة : 75] كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآية الرجم.
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم.
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] أنهم كاذبون مفترون.
والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
(1/72)
{ وَإِذَا لَقُوا } [البقرة : 14] أي المنافقون أو اليهود.
{ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] أي المخلصون من أصحاب محمد عليه السلام.
{ قَالُوا } أي المنافقون { مِّنْ } بأنكم على الحق وأن محمداً هو الرسول المبشر به.
{ وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ } [البقرة : 76] الذين لم ينافقوا { إِلَى بَعْضٍ } [التحريم : 3] إلى الذين نافقوا { قَالُوا } عاتبين عليهم { أَتُحَدِّثُونَهُم } أتخبرون أصحاب محمد عليه السلام { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 76] بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } [البقرة : 76] ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله تعالى هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد؟ وقيل : هذا على إضمار المضاف أي عند كتاب ربكم.
وقيل : ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أن هذه حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعون
102
{ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } [البقرة : 77] جميع { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
{ وَمِنْهُمْ } ومن اليهود { أُمِّيُّونَ } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 78] التوراة { إِلا أَمَانِىَّ } [البقرة : 78] إلا ما هم عليه من أمانيهم وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، أو إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أو إلا ما يقرؤون من قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لا في حمام المقادر
أي لا يعلمون هؤلاء حقيقة المنزل وإنما يقرؤون أشياء أخذوها من أحبارهم.
والاستثناء منقطع.
{ وَإِنْ هُمْ } [الأنعام : 116] وما هم { إِلا يَظُنُّونَ } [البقرة : 78] لا يدرون ما فيه فيجحدون نبوتك بالظن.
ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم ثم العوام الذين قلدوهم { فَوَيْلٌ } في الحديث ويل واد في جهنم { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 79] المحرف { بِأَيْدِيهِمْ } من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون منزلاً.
وذكر الأيدي للتأكيد وهو من مجاز التأكيد { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [البقرة : 79] عوضاً يسيراً.
{ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة : 79] من الرشا.
{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [البقرة : 80] أربعين يوماً عدد أيام
103
عبادة العجل.
وعن مجاهد رضي الله عنه : كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً.
{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } [البقرة : 80] أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار { فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُا } [البقرة : 80] متعلق بمحذوف تقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 80] أم إما أن تكون معادلة أي أتقولون على الله ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون ، أو منقطعة أي بل أتقولون على الله ما لا تعلمون.
{ بَلَى } إثبات لما بعد النفي وهو لن تمسنا النار أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله هم فيها خالدون { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [البقرة : 81] شركاً عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله عنهم { وَأَحَـاطَتْ بِهِ } وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه ، فأما إذا مات مؤمناً فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطاً به فلا يتناوله النص ، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج.
وقيل : استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتفصّ عنها بالتوبة ، خطياته مدني.
{ خَطِياـئَتُهُ فَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 81].
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
(1/73)
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } الميثاق العهد المؤكد غاية التأكيد { لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } [البقرة : 83] إخبار في معنى النهي كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الأمر.
وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء وهو يخبر عنه ، وتنصره قراءة أبيّ لا تعبدوا ، وقوله وقولوا والقول مضمر.
لا يعبدون : مكي وحمزة وعلي لأن بني إسرائيل اسم ظاهر والأسماء الظاهرة كلها غيب.
ومعناه
104
أن لا يعبدوا فلما حذفت ” أن ” رفع.
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } [الإسراء : 23] أي وأحسنوا ليلتئم عطف الأمر وهو قوله وقولوا عليه.
{ وَذِى الْقُرْبَى } [البقرة : 83] القرابة { وَالْيَتَـامَى } جمع يتيم وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم لقوله عليه السلام لا يتم بعد البلوغ
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
{ وَالْمَسَـاكِينَ } جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة.
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة : 83] قولاً هو حسن في نفسه لإفراط حسنه.
حسناً : حمزة وعلي.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } عن الميثاق ورفضتموه { إِلا قَلِيلا مِّنكُمْ } [البقرة : 83] قيل : هم الذين أسلموا منهم { وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ } [البقرة : 83] وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولية ، عن المواثيق.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَـارِكُمْ } [البقرة : 84] أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض.
جعل غير الرجل نفسه إذ اتصل به أصلاً أو ديناً.
وقيل : إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } [البقرة : 84] بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة : 84] عليها كما تقول : فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها.
أو وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } [البقرة : 85] استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم.
أنتم مبتدأ وهؤلاء بمعنى ” الذين ” { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 85] صلة هؤلاء .
وهؤلاء مع صلته خبراً أنتم { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَـارِهِمْ } [البقرة : 85] غير مراقبين ميثاق الله { تَظَـاهَرُونَ عَلَيْهِم } [البقرة : 85] بالتخفيف كوفي أي تتعاونون.
وبالتشديد غيرهم.
فمن خفف فقد حذف إحدى التائين.
ثم قيل ؛ هي الثانية لأن الثقل بها.
وقيل : الأولى.
ومن شدد قلب التاء الثانية ظاء وأدغم.
{ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [البقرة : 85] بالمعصية والظلم.
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـارَى تُفَـادُوهُمْ } [البقرة : 85] تفدوهم ” : أبو عمرو.
أسرى تفدوهم مكي وشامي.
أسرى تفدوهم : حمزة أسارى تفادوهم : علي.
فدى وفادى بمعنى.
وأسارى حال وهو جمع أسير وكذلك أسرى.
والضمير في { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 85] للشأن أو هو ضمير مبهم تفسيره { إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ } [البقرة : 85] بفداء الأسرى.
{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة : 85] بالقتال والإجلاء.
قال السدي : أخذ الله عليكم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء الأسير فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء.
{ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَالِكَ } [البقرة : 85] هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض { مِنكُمْ إِلا خِزْىٌ } [البقرة : 85] فضيحة وهوان { فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } وهو الذي لا روح فيه ولا فرح أو إلى أشد من عذاب الدنيا { وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] بالياء مكي ونافع وأبو بكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
(1/74)
{ أُوالَـائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاخِرَةِ } [البقرة : 86] اختاروها على الآخرة اختيار المشتري { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 86] ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة.
أتاه جملة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } [البقرة : 87] يقال : قفاه إذا اتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب وقفاه به إذا أتبعه إياه.
يعني وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل وهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم.
صلوات
106
الله عليهم { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
البقرة : 87] هي بمعنى الخادم ، ووزن مريم عند النحويين ” مفعل ” لأن ” فعيلاً ” لم يثبت في الأبنية ، البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات.
{ وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 87] أي الطهارة وبالسكون حيث كان : مكي.
أي بالروح المقدسة كما يقال ” حاتم الجود ” ووصفها بالقدس للاختصاص والتقريب.
أو بجبريل عليه السلام لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب ، وذلك لأنه رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله.
أو بالإنجيل كما قال في القرآن { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52] (الشورى : 25) ، أو باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره.
{ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لا تَهْوَى } [البقرة : 87] تحب { أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } [البقرة : 87] تعظمتم عن قبوله { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } [البقرة : 87] كعيسى ومحمد عليهما السلام { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة : 87] كزكريا ويحيى عليهما السلام.
ولم يقل قتلتم لوفاق الفواصل ، أو لأن المراد وفريقاً تقتلونه بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد عليه السلام لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.
والمعنى ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول منهم بالحق استكبرتم عن الإيمان به ، فوسط ما بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجب من شأنهم.
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُ } [البقرة : 88] جمع أغلف أي هي خلقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد عليه السلام ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لا يختن { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } [البقرة : 88] فرد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم.
{ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 88] فـ ” قليلاً ” صفة مصدر محذوف أي فإيماناً قليلاً يؤمنون.
وما مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب.
وقيل : القلة بمعنى العدم.
غلف تخفيف غلف وقرىء به جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقاً لقبلنا.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
(1/75)
الزخرف : 30] أي اليهود { كِتَـابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [البقرة : 89] أي القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } [البقرة : 101] من كتابهم لا يخالفه { وَكَانُوا مِن قَبْلُ } [البقرة : 89] يعني القرآن { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة : 89] يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، ويقولون لأعدائهم المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا } [البقرة : 89] ما موصولة أي ما عرفوه وهو فاعل ” جاء ” .
{ كَفَرُوا بِهِ } [البقرة : 89] بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة.
{ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 89] أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فيه دخولاً أولياً ، وجواب لما الأولى مضمر وهو نحو كذبوا به أو أنكروه ، أو كفروا جواب الأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد.
و ” ما ” في { بِئْسَمَا } نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس أي بئس شيئاً { اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } [البقرة : 90] أي باعوه والمخصوص بالذم.
{ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [البقرة : 90] يعني القرآن.
{ بَغْيًا } مفعول له أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، وهو علة اشتروا { أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ } [البقرة : 90] لأن ينزل.
أو على أن ينزل أي حسدوه على أن ينزل الله.
{ مِن فَضْلِهِ } [النساء : 32] الذي هو الوحي { عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [البقرة : 90] وهو محمد عليه السلام.
{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه أو كفروا بمحمد بعد عيسى عليهما السلام ، أو بعد قولهم عزيز ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك.
{ وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة : 90] مذل.
” بئسما ” وبابه غير مهموز : أبو عمرو.
وينزل بالتخفيف : مكي وبصري.
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 91] لهؤلاء اليهود.
{ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا } [البقرة : 91] يعني القرآن ، أو مطلق يتناول كل كتاب { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } [البقرة : 91] أي التوراة.
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ } [البقرة : 91] أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة.
{ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } [البقرة : 91] غير مخالف له وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ، ومصدقاً حال مؤكدة.
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنابِيَآءَ اللَّهِ } [البقرة : 91] أي فلم قتلتم فوضع
108
المستقبل موضع الماضي ويدل عليه قوله { مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] أي من قبل محمد عليه السلام ، اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء.
قيل : قتلوا في يوم واحد ثلثمائة نبي في بيت المقدس.
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
{ وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ } بالآيات التسع وأدغم الدال في الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلي.
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 51] إلهاً { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور.
{ وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ } [البقرة : 51] هو حال أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها ، أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
{ بِقُوَّةٍ } كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى.
{ وَاسْمَعُوا } ما أمرتم به في التوراة.
{ قَالُوا سَمِعْنَا } [الأنبياء : 60] قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث إنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة.
{ وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 93] أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله : في قلوبهم ، بيان لمكان الإشراب والمضاف وهو الحب محذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
(1/76)
{ بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه.
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـانُكُمْ } [البقرة : 93] بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الإيمان اليهم.
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاخِرَةُ } [البقرة : 94] أي الجنة.
{ عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] ظرف ، و ” لكم ” خبر ” كان ” { خَالِصَةً } حال من الدار الآخرة أي سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً { مِّن دُونِ النَّاسِ } [البقرة : 94]
109
هو للجنس.
{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 94] فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصاً من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه.
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا } [البقرة : 95] هو نصب على الظرف أي لن يتمنوه ما عاشوا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب الله وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله { وَلَن تَفْعَلُوا } [البقرة : 24] (البقرة : 42) ، ولو تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث.
{ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] تهديد لهم.
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ } [البقرة : 96] مفعولاً وجد ” هم ” و ” أحرص ” { عَلَى حَيَواةٍ } [البقرة : 96] التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وعلى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة ” أبي ” على الحياة { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [آل عمران : 186] هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس ، نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وإن دخلا تحت الملائكة ، أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه ، وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك.
وقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [البقرة : 96] بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.
وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قول الأعاجم زي هزارسال.
وقيل : ومن الذين أشركوا كلام مبتدأ أي ومنهم ناسٌ يود أحدهم على حذف الموصوف ،
110
والذين أشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزيز ابن الله.
والضمير في { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ } [البقرة : 96] لأحدهم.
وقوله { أَن يُعَمَّرَ } [البقرة : 96] فاعل بمزحزحه أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ، ويجوز أن يكون هو مبهماً وأن يعمر موضحه.
والزحزحة التبعيد والإنحاء.
قال في جامع العلوم وغيره : لو يعمر بمعنى ” أن يعمر ” ، فـ ” لو ” هنا نائبة عن ” أن ” و ” أن ” مع الفعل في تأويل المصدر وهو مفعول يود أي يود أحدهم تعمير ألف سنة.
{ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 96] أي بعمل هؤلاء الكفار فيجازيهم عليه.
وبالتاء : يعقوب.
(1/77)
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ } [البقرة : 97] بفتح الجيم وكسر الراء بلا همز : مكي.
وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعاً : كوفي غير حفص.
وبكسر الراء والجيم بلا همز : غيرهم.
ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد الله لأن ” جبر ” هو العبد بالسريانية و ” إيل ” اسم الله.
روي ان ابن صوريا من أحبار اليهود حاجّ النبي صلى الله عليه وسلّم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال : جبريل.
فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مراراً ، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه ، وإن لم يكن إياه فعلى أي ذنب تقتلونه.
{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } [البقرة : 97] فإن جبريل نزل القرآن ، ونحو هذا الإضمار ـــــ أعني إضمار ما لم يسبق ذكره ـــــ فيه فخامة حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته.
{ عَلَى قَلْبِكَ } [البقرة : 97] أي حفظه إياك.
وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } (الشعراء : 491) ، وكان حق الكلام أن يقال على قلبي ولكن
111
جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به ، وإنما استقام أن يقع فإنه نزله جزاء للشرط لأن تقديره إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
وقيل : جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً فإنه نزل الوحي على قلبك { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بأمره { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 97] رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
{ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـاـاـاِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ } [البقرة : 98] بصري وحفص.
و ” ميكائل ” باختلاس الهمزة كـ ” ميكاعل ” : مدني.
وميكائيل بالمد وكسر الهمزة مشبعة : غيرهم.
وخص الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر إذ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات.
{ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـافِرِينَ } [البقرة : 98] أي لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ومن عاداهم عاداه الله
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـات بَيِّنَـاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلا الْفَـاسِقُونَ } [البقرة : 99] المتمردون من الكفرة واللام للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك بها فنزلت الواو في { أَوَكُلَّمَا } الواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات البينات.
وكلما { عَـاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ } [البقرة : 100] نقضه ورفضه وقال { فَرِيقٌ مِّنْهُم } [الروم : 33] لأن منهم من لم ينقض { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 100] بالتوراة وليسوا من الدين في شيء فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً ولا يبالون به.
112
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [البقرة : 101] محمد صلى الله عليه وسلّم { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [البقرة : 101] أي التوراة والذين أوتوا الكتاب اليهود { كَتَبَ اللَّهُ } [الانفال : 75] يعني التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها ، أو كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
{ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [البقرة : 101] مثل لتركهم وإعراضهم عنه مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 101] أنه كتاب الله.
(1/78)
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ } [البقرة : 102] أي نبذ اليهود كتاب الله واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ } [البقرة : 102] أي على عهد ملكه في زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما يسمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرأونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا ؛ إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والإنس والريح.
{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ } [البقرة : 102] تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به { وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ } [البقرة : 102] هم الذين { كَفَرُوا } باستعمال السحر وتدوينه.
ولكن بالتخفيف الشياطين بالرفع : شامي وحمزة وعلي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة : 102] في موضع الحال أي كفروا معلمين الناس السحر قاصدين به إغواءهم وإضلالهم
113
{ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } [البقرة : 102] الجمهور على أن ما بمعنى ” الذي ” هو نصب عطف على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أو على ما تتلوا أي واتبعوا ما أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ } [البقرة : 102] علمان لهما وهما عطف بيان للملكين ، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً إن كان فيه رد ما لزم في شرط الإيمان ، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه لئلا يغتر به كان مؤمناً ، قال الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله : القول بأن السحر على الإطلاق كفر خطأ بل يجب البحث عن حقيقته ، فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا.
ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الأناث ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقبل توبته إذا تاب.
ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم.
وقيل : أنزل أي قذف في قلوبهما مع النهي عن العمل.
قيل : إنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم فكانا يحكمان في الأرض ويصعدان بالليل ، فهويا زهرة فحملتهما على شرب الخمر فزنيا فرآهما إنسان فقتلاه فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة ، فهما يعذبان منكوسين في جب ببابل وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها.
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } [البقرة : 102] وما يعلم الملكان أحداً { حَتَّى يَقُولا } [البقرة : 102] حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } [البقرة : 102] ابتلاء واختبار من الله.
{ فَلا تَكْفُرْ } [البقرة : 102] بتعلمه والعمل به على وجه يكون كفراً { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } [البقرة : 102] الفاء عطف على قوله يعلمون الناس السحر أي يعلمونهم فيتعلمون من السحر والكفر اللذين دل عليهما قوله كفروا و يعلمون الناس السحر أو على مضمر والتقدير : فيأتون فيتعلمون.
والضمير لما دل عليه من أحد أي فيتعلم الناس من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه } أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشوز والخلاف ابتلاء امنه.
وللسحر حقيقة عند أهل السنة كثرهم الله وعنده المعتزلة هو تخييل وتمويه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ } [البقرة : 102] بالسحر { مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 102] بعلمه ومشيئته { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ } [البقرة : 102] في الآخرة وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية.
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } [البقرة : 102] أي اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاـاهُ } [البقرة : 102] أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله
114
(1/79)
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ } من نصيب { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } باعوها وإنما نفى العلم عنهم بقوله { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] مع إثباته لهم بقوله ولقد علموا على سبيل التوكيد القسمي لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلمهم جعلهم حين لم يعلموا به كأنهم لا يعلمون.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا } [البقرة : 103] برسول الله والقرآن { وَاتَّقُوا } الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 103] أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، لكنه جهلهم لما تركوا العمل بالعلم والمعنى : لأثيب من عند الله ما هو خير ، وأوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها.
ولم يقل لمثوبة الله خير لأن المعنى لشيء من الثواب خير لهم.
وقيل : لو بمعنى التمني كأنه قيل : وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا } كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم : راعنا يا رسول الله أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي ” راعينا ” ، فلما سمعوا بقول المؤمنين ” راعنا ” افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو ” انظرنا ” من نظره إذا انتطره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَاسْمَعُوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا.
{ وَلِلْكَـاـفِرِينَ } ولليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 104] مؤلم.
115
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } [البقرة : 105] وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو.
{ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 105] من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية.
والخير الوحي وكذلك الرحمة.
{ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 105] يعني أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي والله يختص بالتوبة من يشاء { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105] فيه إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم ولما طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً نزل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
(1/80)
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [البقرة : 106] تفسير النسخ لغة التبديل ، وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلاً في حقنا بياناً محضاً في حق صاحب الشرع.
وفيه جواب عن البداء الذي يدعيه منكروه ـــــ أعني اليهود ـــــ ومحله حكم يحتمل الوجود والعدم في نفسه لم يلحق به ما ينافي النسخ من توقيت أو تأبيد ، ثبت نصاً أو دلالة.
وشرطه التمكن من عقد القلب عندنا دون التمكن من الفعل خلافاً للمعتزلة.
وإنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة متفقاً ومختلفاً ويجوز نسخ التلاوة والحكم ، والحكم دون التلاوة ، والتلاوة دون الحكم ونسخ وصف بالحكم مثل الزيادة على النص فإنه نسخ عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله.
والإنساء أن يذهب بحفظها عن القلوب أو ننسأها مكي وأبو عمرو أي نؤخرها من نسأت أي أخرت { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } [البقرة : 106] أي نأت بآية خير منها للعباد أي بآية العمل بها أكثر للثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ أَوْ مِثْلِهَآ } [البقرة : 106] في ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 106] أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 107] فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ.
{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } [البقرة : 107] يلي أمركم { وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ناصر يمنعكم من العذاب { أَمْ تُرِيدُونَ } [البقرة : 108] أم منقطعة وتقديره بل أتريدون { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـاَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُـاـاِلَ مُوسَى } [البقرة : 108] روي أن قريشاً قالوا : يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قالوا اجعل لنا إلهاً.
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالايمَـانِ } [البقرة : 108] ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } [البقرة : 108] قصده ووسطه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم } [البقرة : 109] أن يردوكم { مِّن بَعْدِ إِيمَـانِكُمْ كُفَّارًا } [البقرة : 109] حال من ” كم ” أي يردونكم عن دينكم كافرين ، نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد واقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.
{ حَسَدًا } مفعول له أي لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم } [البقرة : 109] يتعلق بـ ” ودّ ” أي ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [البقرة : 109] أي من بعد علمهم بأنكم على الحق ، أو بحسداً أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم.
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } [البقرة : 109] فاسلكوا بهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة : 109] بالقتال { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] فهو يقدر على الانتقام منهم.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } [البقرة : 110] تجدوا ثوابه عنده { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 110] فلا يضيع عنده عمل عامل.
117
والضمير في { وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 111] لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أي وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله ، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ } [
(1/81)
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
البقرة : 113]؟ وهود جمع هائد كعائذ وعوذ وواحد اسم كان للفظ من ، وجمع الخبر لمعناه.
{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [البقرة : 111] أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم.
والأمنية أفعولة من التمني مثل الأضحوكة.
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ } [البقرة : 111] هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة.
وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ” وتلك أمانيهم اعتراض.
{ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في دعواكم.
{ بَلَى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره.
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [لقمان : 22] مصدق بالقرآن.
{ فَلَهُا أَجْرُهُ } [البقرة : 112] جواب من أسلم .
وهو كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط وبلى رد لقولهم.
{ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 112].
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ } [البقرة : 113] أي على شيء يصح ويعتد به.
والواو في { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 113] للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق
118
للآخر.
{ كَذَالِكَ } مثل ذلك القول الذي سمعت به { قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
البقرة : 113] أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ، قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء ، وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [البقرة : 113] أي بين اليهود والنصارى بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب اللائق به.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [البقرة : 114] موضع من رفع على الابتداء وهو استفهام وأظلم خبره والمعنى : أي أحد أظلم؟ وأن يذكر ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالايَـاتِ } [الإسراء : 59] (الإسراء : 95).
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا } [الإسراء : 94] (الإسراء : 49).
ويجوز أن يحذف حرف الجر مع ” أن ” أي من أن يذكر وأن تنصبه مفعولاً له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد الله وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم.
والسبب فيه طرح النصارى في بيت المقدس الأذى ، ومنعهم الناس أن يصلوا فيه ، أو منع المشركين رسول الله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.
وإنما قيل مساجد الله وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاماً وإن كان السبب خاصاً كقوله تعالى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [الهمزة : 1] (الهمزة : 1) والمنزول فيه الأخنس بن شريق.
{ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ } [البقرة : 114] بانقطاع الذكر والمراد بـ من العموم كما أريد العموم بمساجد الله.
{ أُوالَـائِكَ } المانعون { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } [البقرة : 114] أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله { إِلا خَآئِفِينَ } [البقرة : 114] حال من الضمير في يدخلوها أي على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها.
والمعنى : ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم.
روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً خيفة أن يقتل.
وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا بولغ ضرباً.
ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا لا يحجن بعد
119
(1/82)
هذا العام مشرك.
وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } [الأحزاب : 53] (الأحزاب : 35) { لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } [البقرة : 114] قتل وسبي للحربي وذلة بضرب الجزية للذمي { وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 114] أي النار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } [البقرة : 115] أي بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها { فَأَيْنَمَا } شرط { تَوَلَّوْا } مجزوم به أي ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { شَطْرَهُ } (البقرة : 441) ، والجواب { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة : 115] أي جهته التي أمر بها ورضيها.
والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان.
{ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 115] أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت.
وقيل : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا.
هو حجة على الشافعي رحمه الله فيما إذا استدبر.
وقيل : فأينما تولوا للدعاء والذكر.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } [البقرة : 116] يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله.
قالوا : شامي فإثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها ، وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة أخرى.
{ سُبْحَـانَهُ } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 116] أي هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزيز والولادة تنافي الملك.
{ كُلٌّ لَّهُ قَـانِتُونَ } [البقرة : 116] منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره.
والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه أي كل ما في السموات والأرض ، أو كل من جعلوه لله
120
ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم.
وجاء بـ ما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون كقوله ” سبحان ما سخركن لنا ” { بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنعام : 101] أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق.
وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا } [البقرة : 117] أي حكم أو قدر { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [البقرة : 117] هو من ” كان ” التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثمّ.
وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ، ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء.
وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثمّ.
والوجه الرفع في فيكون وهو قراءة العامة على الاستئناف أي فهو يكون ، أو على العطف على يقول .
ونصبه ابن عامر على لفظ كن لأنه أمر وجواب الأمر بالفاء نصب.
وقلنا : إن كن ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال وإذ قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون ، وإذا كان كذلك فلا معنى للنصب.
وهذا لأنه لو كان أمراً فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بـ ” كن ” أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب.
(1/83)
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 118] من المشركين أو من أهل الكتاب ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } [البقرة : 118] هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى استكباراً منهم وعتواً { أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ } [البقرة : 118] جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات واستهانه بها { كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى { قَدْ بَيَّنَّا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة : 118] أي لقوم ينصفون
121
فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها { إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا } [البقرة : 119] للمؤمنين بالثواب { وَنَذِيرًا } للكافرين بالعقاب { وَلا تُسْـاَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ } [البقرة : 119] ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك في دعوتهم وهو حال كـ ” نذيراً ” وبشيراً وبالحق أي وغير مسؤول أو مستأنف.
قراءة نافع ولا تسأل على النهي ومعناه ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان سائلاً عن الواقع في بلية فيقال لك : لا تسأل عنه.
وقيل : نهى الله نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعري ما فعل أبواي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة : 120] كأنهم قالوا لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام ، فذكر الله عز وجل كلامهم.
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } [البقرة : 120] الذي رضي لعباده { هُوَ الْهُدَى } [الأنعام : 71] أي الإسلام.
وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى.
ألا ترى إلى قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم } [البقرة : 120] أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع { بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة : 120] أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ } من عذاب الله { مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ناصر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ الَّذِينَ } مبتدأ { الْكِتَـابِ مِنَ } [القصص : 52] صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والإنجيل ، أو أصحاب النبي عليه السلام والكتاب القرآن.
{ يَتْلُونَهُ } حال مقدرة من ” هم ” لأنهم لم يكونوا تالين له وقت إيتائه ، ونصب على المصدر.
{ حَقَّ تِلاوَتِهِ } [البقرة : 121] أي يقرأونه حق قراءته في الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر ، أو يعملون به ويؤمنون بما فيه مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي صلى الله عليه وسلّم.
{ أُوالَـائِكَ } مبتدأ خبره
122
{ يُؤْمِنُونَ } به } والجملة خبر الذين ويجوز أن يكون يتلونه خبراً ، والجملة خبر آخر.
{ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوالَـائكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 121] حيث اشتروا الضلالة بالهدى { يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي أنعمتها عليكم { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَـاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 123] هم رفع بالابتداء والخبر ينصرون .
والجمل الأربع وصف لـ يوماً أي واتقوا يوماً لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا تنفعها فيه ولا هم ينصرون فيه.
وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصي منهم ، وختم قصة بني إسرائيل بما بدأ به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
(1/84)
{ وَإِذْ } أي واذكر إذ { ابْتَلَى إِبْرَاهِ مَ رَبُّهُ بِكَلِمَـاتٍ } [البقرة : 124] اختبره بأوامر ونواه.
والاختبار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد علم ، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى.
وقيل : اختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك.
وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِ مَ رَبُّهُ بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ } أي قام بهن حق القيام وأدّاهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ ونحوه { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } [النجم : 37] (النجم : 73) ومعناه في قراءة أبي حنيفة رحمه الله فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً.
والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه في قوله : { رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا ءَامِنًا } [البقرة : 126] (البقرة : 621).
{ وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [البقرة : 128] (البقرة : 821).
123
{ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ } [البقرة : 129] (البقرة : 921).
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة : 127] (البقرة : 721).
والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس : الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق.
وخمس في الجسد : الختان وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاثون سهماً من الشرائع : عشر في براءة { التَّـائِبُونَ } (الآية : 21) ، وعشر في الأحزاب { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ } [الأحزاب : 35] الآية ، وعشر في ” المؤمنين ” و ” المعارج ” إلى قوله { يُحَافِظُونَ } وقيل : هي مناسك الحج { قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة : 124] هو اسم من يؤتم به أي يأتمون بك في دينهم.
{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى } [البقرة : 124] أي واجعل من ذريتي إماماً يقتدى به.
ذرية الرجل أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء.
فعيلة من الذرء أي الخلق فأبدلت الهمزة ياء.
{ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 124] بسكون الياء : حمزة وحفص أي لا تصيب الإمامة أهل الظلم من ولدك أي أهل الكفر.
أخبر أن إمامة المسلمين لا تثبت لأهل الكفر وأن من أولاده المسلمين والكافرين قال الله تعالى : { وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات : 113] (الصافات : 311).
والمحسن المؤمن والظالم الكافر.
قالت المعتزلة : هذا دليل على أن الفاسق ليس بأهل للإمامة قالوا : وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر ” من استرعى الذئب ظلم ” .
ولكنا نقول : المراد بالظالم الكافر هنا إذ هو الظالم المطلق.
وقيل : إنه سأل أن يكون ولده نبياً كما كان هو فأخبر أن الظالم لا يكون نبيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } [البقرة : 125] أي الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } [البقرة : 125] مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه { وَأَمْنًا } وموضع أمن فإن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا في الملتجىء إلى الحرم.
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِ مَ مُصَلًّى } [البقرة : 125] وقلنا أتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه.
وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال ” هذا مقام إبراهيم ” فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام ” لم أومر بذلك ” .
فلم تغب الشمس حتى
124
(1/85)
نزلت.
وقيل : مصلى مدعى ، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه.
وقيل : الحرم كله مقام إبراهيم.
واتخذوا شامي ونافع بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها { وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ } أمرناهما { أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ } [البقرة : 125] بفتح الياء : مدني وحفص أي بأن طهرا أو أي طهرا والمعنى طهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها { لِلطَّآئِفِينَ } للدائرين حوله { وَالْعَـاكِفِينَ } المجاورين الذين عكفوا عنده أي أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين.
وقيل : للطائفين للنزّاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة.
{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة : 125] والمصلحين جمعاً راكع وساجد.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِ مُ } [البقرة : 126] رب اجعل هذا } أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان { بَلَدًا ءَامِنًا } [البقرة : 126] ذا أمن كعيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك ” ليل نائم ” فهذا مفعول أول.
وبلداً مفعول ثانٍ وآمناً صفة له.
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة : 126] لأنه لم يكن لهم ثمرة.
ثم أبدل { مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 126] من أهله بدل البعض من الكل أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة.
قاس الرزق على الإمامة فخص المؤمنين به.
قال الله تعالى جواباً له { وَمَن كَفَرَ } [النور : 55] أي وارزق من كفر { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا } [البقرة : 126] تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إلى حين أجله.
فأمتعه : شامي { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } [البقرة : 126] ألجئه { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 126] المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَإِذْ يَرْفَعُ } [البقرة : 127] حكاية حال ماضية { إِبْرَاهِ مُ الْقَوَاعِدَ } [البقرة : 127] هي جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة.
ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر.
{ مِنَ الْبَيْتِ } [البقرة : 127] بيت الله وهو الكعبة { وَإِسْمَـاعِيلَ } هو عطف على إبراهيم
125
(1/86)
وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة { رَبَّنَآ } أي يقولان ربنا.
وهذا الفعل في محل النصب على الحال وقد أظهره عبد الله في قراءته ومعناه يرفعانها قائلين ربنا { تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة : 127] تقربنا إليك ببناء هذا البيت { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ } [البقرة : 127] لدعائنا { الْعَلِيمُ } بضمائرنا ونياتنا.
وفي إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام تفخيم لشأن المبين.
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [البقرة : 128] مخلصين لك أوجهنا من قوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] (البقرة : 211) أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن ، والمعنى زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك.
{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ } [البقرة : 128] واجعل من ذريتنا { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة : 128] ومن للتبعيض أو للتبيين.
وقيل : أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى : { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } [التحريم : 6] (التحريم : 6).
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [البقرة : 128] منقول من ” رأى ” بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أي وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها.
وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك.
وأرنا : مكي قاسه على فخذ في فخذ ، وأبو عمرو يشم الكسرة.
{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } [البقرة : 128] ما فرط منا من التقصير أو استتاباً لذريتهما { إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } في الأمة المسلمة { رَسُولا مِّنْهُمْ } [المؤمنون : 32] من أنفسهم فبعث الله فيهم محمداً عليه السلام ، قال عليه السلام أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي .
{ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ } [البقرة : 129] يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ورسلك { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 164] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } السنة وفهم القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ } [البقرة : 129] الغالب الذي لا يغلب { الْحَكِيمُ } فيما أوليت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 130] استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن
126
(1/87)
يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم.
والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج { إِلا مَنِ } [سبأ : 37] في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب ، وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك ” هل جاءك أحد إلا زيد ” والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من { سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة : 130] أي جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه.
فوضع سفه موضع جهل وعدي كما عدي ، أومعناه سفه في نفسه فحذف في كما حذف ” من ” في قوله { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف : 155] (الأعراف : 551) أي من قومه ، وعلى في قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
أي على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج.
وقال الفراء : هو منصوب على التمييز وهو ضعيف لكونه معرفة.
{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [البقرة : 130] بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة من طريقته منه { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] ظرف لاصطفيناه ، أو انتصب بإضمار ” اذكر ” كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
{ لَهُ رَبُّهُا أَسْلِمْ } [البقرة : 131] أذعن أو أطع أو أخلص دينك لله { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 131] أي أخلصت أو انقدت.
{ وَوَصَّى } وأوصى مدني وشامي.
{ بِهَآ } بالملة أو بالكلمة وهي أسلمت لرب العالمين { إِبْرَاهِ مُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [البقرة : 132] هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً { أَوْ بَنِى } على إضمار القول { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } [البقرة : 132] أي أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ووفقكم للأخذ به { فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [البقرة : 132] فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك ” لا تصلّ إلا وأنت خاشع ” فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } [البقرة : 133] أم منقطعة ومعنى الهمزة
127
(1/88)
فيها الإنكار.
والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أي حين احتضر ، والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
أو متصله ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] بدل من ” إذ ” الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف لـ حضر { لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ } [البقرة : 133] ما استفهام في محل النصب بـ تعبدون أي أيّ شيء تبعدون؟ و ” ما ” عام في كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول ” ما زيد ” تريد أفقيه أم طبيب.
{ مِن بَعْدِى } [الصف : 6] من بعد موتي.
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ } [البقرة : 133] أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار.
{ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } [البقرة : 133] عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم أب قال عليه السلام في العباس ” هذا بقية آبائي ” .
{ إِلَـاهًا وَاحِدًا } [ص : 5] بدل من إله آبائك كقوله : { كَلا لَـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أو نصب على الاختصاص أي نريد بإله آبائك إلهاً واحداً.
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] حال من فاعل نعبد أو جملة معطوفة على نعبد أو جملة اعتراضية مؤكدة.
{ تِلْكَ } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون { أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } [البقرة : 134] مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } [البقرة : 134] أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم { وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 134] ولا تؤاخذون بسيئاتهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 135] أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى.
وجزم { تَهْتَدُوا } لأنه جواب الأمر.
{ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 135] بل نتبع ملة إبراهيم { حَنِيفًا } حال من المضاف إليه نحو ” رأيت وجه هند قائمة ” .
128
(1/89)
والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق.
{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 135] تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاًّ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك.
{ قُولُوا } هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل { بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ } [البقرة : 136] أي القرآن { وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ } [البقرة : 136] السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر.
ويعدى أنزل بـ ” إلى ” و ” على ” فلذا ورد هنا بـ ” إلى ” وفي آل عمران بـ ” على ” { وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [البقرة : 136] أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
وأحد في معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه.
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] لله مخلصون { فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } [البقرة : 137] ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون لله تعالى مثل وتعالى عن ذلك.
فقيل : الباء زائدة ومثل صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم والهاء يعود إلى الله عز وجل ، وزيادة الباء غير عزيز قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَة بِمِثْلِهَا } [يونس : 27] (يونس : 72) والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله في الآية الأخرى : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04) وقيل : المثل زيادة أي فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه بما آمنتم به .
وما بمعنى ” الذي ” بدليل قراءة أبي بالذي آمنتم به .
وقيل : الباء للاستعانة كقولك ” كتبت بالقلم ” أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها وّإن تولّوا } عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها فإنّما هم في شقاقٍ } أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [البقرة : 137] ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل
129
بعضهم وإجلاء بعضهم ، ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين.
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لما ينطقون به { الْعَلِيمُ } بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم ، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } [البقرة : 138] دين الله وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله : آمنا بالله .
وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس.
والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم.
وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة كقولك لمن يغرس الأشجار إغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرم.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } [البقرة : 138] تمييز أي لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير.
{ وَنَحْنُ لَهُ عَـابِدُونَ } [البقرة : 138] عطف على آمنا بالله وهذا العطف يدل على أن قوله : صبغة الله داخل في مفعول قولوا آمنا أي قولوا هذا وهذا ونحن له عابدون ويردّ قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه.
وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
(1/90)
{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ } [البقرة : 139] أي أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } [البقرة : 139] نشرك جميعاً في أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده { وَلَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ } [البقرة : 139] يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } [البقرة : 139] أي نحن له موحدون نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون ، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره.
130
{ أَمْ تَقُولُونَ } [البقرة : 140] بالتاء شامي وكوفي غير أبي بكر.
وأم على هذا معادلة للهمزة في أتحاجوننا يعني أي الأمرين تأتون : المحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ أو منقطعة أي بل أتقولون.
يقولون : غيرهم بالياء ، وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة.
{ إِنَّ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 140] ثم أمر نبيه عليه السلام أن يقول مستفهماً راداً عليهم بقوله : { قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة : 140] يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } (آل عمران : 76).
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ } [البقرة : 140] أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية.
والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها ، أو أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها.
وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه السلام بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته.
ومن في قوله من الله مثلها في قولك ” هذه شهادة مني لفلان ” إذا شهدت له في أنها صفة لها.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة.
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 134] كررت للتأكيد أو لأن المراد بالأول الأنبياء عليهم السلام وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ } [البقرة : 142] الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة ، وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ، أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء ، أو المشركون لقولهم ” رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها والله ليرجعن إلى دينهم ” .
وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد ، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقبل الرمي يراش السهم.
{ مَا وَلَّـاهُمْ } [البقرة : 142] ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } [البقرة : 142] يعنون بيت المقدس.
131
(1/91)
والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها { قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } [البقرة : 142] أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها له { يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [البقرة : 272] من أهلها { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] طريق مستوٍ.
أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها ، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده.
{ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ } [البقرة : 143] ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم فالكاف للتشبيه و ” ذا ” جر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب.
{ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة : 143] خياراً.
وقيل : للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم ، أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض.
أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية ، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا { لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ } [البقرة : 143] غير منصرف لمكان ألف التأنيث { عَلَى النَّاسِ } [الأعراف : 144] صلة شهداء { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
البقرة : 143] عطف على لتكونوا .
روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة.
ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 117] (المائدة : 71).
وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم.
واستدل
132
الشيخ أبو منصور رحمه الله بالآية على أن الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة ، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله.
وأخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ } [البقرة : 143] أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثاني مفعولي جعل.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة.
{ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [البقرة : 143] أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة إلا امتحاناً للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى قوله لنعلم أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد ، فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً ، فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوماً له موجوداً كائناً ، والتغير على المعلوم لا على العلم.
أو لنميز التابع من الناكص كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
(1/92)
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الانفال : 37] (الأنفال : 73) فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم به يقع التمييز ، أو ليعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه أو هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب ” فلنلقه في النار لنعلم أيذوب ” .
{ وَإِن كَانَتْ } [البقرة : 143] أي التحويلة أو الجعلة أو القبلة.
وإن هي المخففة ، واللام في { لَكَبِيرَةٌ } أي ثقيلة شاقة وهي خبر ” كان ” واللام فارقة { إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } [البقرة : 143] أي هداهم الله فحذف العائد أي إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول.
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } [البقرة : 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس ؛ سمى الصلاة إيماناً لأن وجوبها على أهل
133
الإيمان وقبولها من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان.
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت.
ثم علل ذلك فقال { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ } مهموز مشبع : حجازي وشامي وحفص.
رؤوف غيرهم بوزن ” فعل ” وهما للمبالغة.
{ رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ، والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } [البقرة : 144] تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود ، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم.
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.
{ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } [البقرة : 144] تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها وواقفت مشيئة الله وحكمته.
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 144] أي نحوه.
وشطر نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي.
وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين.
روي أنه عليه السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة.
{ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } [البقرة : 144] من الأرض وأردتم الصلاة { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُا وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } [البقرة : 144] أي التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه يصلي إلى القبلتين.
{ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 144] بالياء مكي وأبو عمرو ونافع وعاصم ، وبالتاء غيرهم.
فالأول وعيد للكافرين بالعقاب على الجحود والإباء ، والثاني وعد للمؤمنين بالثواب على القبول.
والأداء.
134
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [البقرة : 145] أراد ذوي العناد منهم { بِكُلِّ ءَايَةٍ } [البقرة : 145] برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق { مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } [البقرة : 145] لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
(1/93)
{ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة : 145] حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا في ذلك قولوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة ، وإن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم في البطلان.
{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } [البقرة : 145] يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك ، فاليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة : 145] أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة وأن دين الله هو الإسلام { إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 145] لمن المرتكبين الظلم الفاحش.
وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى.
وقيل : الخطاب في الظاهر للنبي عليه السلام والمراد أمته ، ولزم الوقف على الظالمين إذ لو وصل لصار { الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } [القصص : 52] صفة للظالمين.
وهو مبتدأ والخبر { يَعْرِفُونَهُ } أي محمداً عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة.
والأول أظهر لقوله { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } [الأنعام : 20] قال عبد الله بن سلام : أنا أعلم به مني بابني فقال له عمر : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه.
{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ } [البقرة : 146] أي الذين لم يسلموا { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } [البقرة : 146] حسداً وعناداً { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] لأن الله تعالى بينه في كتابهم.
135
{ الْحَقِّ } مبتدأ خبره { مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] واللام للجنس أي الحق من الله لا من غيره.
يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل ، أو للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ومن ربك خبر بعد خبر أو حال.
{ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147] الشاكين في أنه من ربك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
{ وَلِكُلٍّ } من أهل الأديان المختلفة.
{ وِجْهَةٌ } قبلة.
وقرىء بها.
والضمير في { هُوَ } لكل .
وفي { مُوَلِّيهَا } للوجهة.
أي هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو لله تعالى.
أي الله موليها إياه.
هو مولاها : شامي أي هو مولى تلك الجهة قد وليها.
والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم.
{ فَاسْتَبِقُوا } أنتم { الْخَيْرَاتِ } فاستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره.
{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا } [البقرة : 148] أنتم وأعداؤكم { يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } [البقرة : 148] يوم القيامة فيفصل بين المحقق والمبطل ، أو ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستقبلوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } ومن أي بلد خرجت للسفر { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 136
البقرة : 144] إذا صليت.
{ وَإِنَّهُ } وإن هذا المأمور به { لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 149] وبالياء : أبو عمرو.
136
(1/94)
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة : 150] وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } [البقرة : 150] أي قد عرّفكم الله جل ذكره أمر الاحتجاج في القبلة بما قد بين في قوله : ولكل وجهة هو موليها .
لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة في خلاف ما في التوراة من تحويل القبلة.
وأطلق اسم الحجة على قول المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة.
{ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [البقرة : 150] استثناء من ” الناس ” أي لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام.
أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
ثم استأنف منبهاً بقوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ } [المائدة : 3] فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم { وَاخْشَوْنِى } فلا تخالفوا أمري { وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } [البقرة : 150] أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى الكعبة.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 150] ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم.
الكاف في { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } [البقرة : 151] إما أن يتعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو بما بعده أي كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فعلى هذا يوقف على تهتدون وعلى الأول لا.
{ رَسُولا مِّنكُمْ } [البقرة : 151] من العرب { يَتْلُوا عَلَيْكُمْ } [البقرة : 151] يقرأ عليكم { ءَايَـاتِنَا } القرآن { وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ } [البقرة : 151] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } السنة
137
والفقه { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 151] ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 136
فاذكروني } بالمعذرة { أَذْكُرْكُمْ } بالمغفرة أو بالثناء والعطاء ، أو بالسؤال والنوال ، أو بالتوبة وعفو الحوبة ، أو بالإخلاص والخلاص ، أو بالمناجاة والنجاة.
{ وَاشْكُرُوا لِي } [البقرة : 152] ما أنعمت به عليكم { وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة : 152] ولا تجحدوا نعمائي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ } فبه تنال كل فضيلة { وَالصَّلَواةِ } فإنها تنهى عن كل رذيلة { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 153] بالنصر والمعونة { وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 154] نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً.
{ أَمْوَاتُ } أي هم أمواتٍ { بَلْ أَحْيَآءٌ } [آل عمران : 169] أي هم أحياء { وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ } [البقرة : 154] لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حساً.
عن الحسن رضي الله عنه أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدواً وعشياً فيصل إليهم الوجع.
وعن مجاهد : يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 138
(1/95)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا.
{ بِشَىْءٍ } بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه.
وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليهم ، ويريهم أن رحمته معهم في كل حال ، وأعلمهم بوقوع البلوى قبل وقوعها ليوطنوا نفوسهم عليها.
{ مِّنَ الْخَوْفِ } [البقرة : 155] خوف الله والعدو { وَالْجُوعِ } أي القحط أو صوم شهر رمضان { وَنَقْصٍ مِّنَ الامْوَالِ } [البقرة : 155] بموت المواشي أو الزكاة ، وهو عطف على شيء ، أو على الخوف أي وشيء من نقص الأموال.
{ وَالانفُسِ } بالقتل والموت.
أو بالمرض والشيب { وَالثَّمَرَاتِ } ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة
138
الفؤاد { وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 155] على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم وإذعان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه .
وطفيء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل : أمصيبة هي؟ قال.
” نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة ” .
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتي منه البشارة.
{ الَّذِينَ } نصب صفة للصابرين.
ولا وقف عليه بل يوقف على راجعون .
ومن ابتدأ بـ ” الذين ” وجعل الخبر أولئك يقف على الصابرين لا على راجعون .
والأول الوجه لأن الذين وما بعده بيان للصابرين.
{ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } [النساء : 62] مكروه.
اسم فاعل من أصابته شدة أي لحقته.
ولا وقف على مصيبة لأن { قَالُوا } جواب إذا وإذا وجوابها صلة الذين .
{ إِنَّا لِلَّهِ } [البقرة : 156] إقرار له بالملك.
{ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 156] إقرار على نفوسنا بالهلك.
{ أُوالَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة : 157] الصلاة : الحنو والتعطف فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد : 27] (الحديد : 72) { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة : 711).
والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة.
{ وَأُوالَـائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة : 157] لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر الله.
قال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعم العلاوة أي الصلاة والرحمة والاهتداء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 138
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } [البقرة : 158] هما علمان للجبلين.
{ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ } [البقرة : 158] من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة وهي العلامة { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ } [البقرة : 158] قصد الكعبة { أَوِ اعْتَمَرَ } [البقرة : 158] زار الكعبة ، فالحج : القصد ، والاعتمار : الزيارة ، ثم غلبا على قصد البيت
139
وزيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان.
{ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ } [البقرة : 158] فلا إثم عليه { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة : 158] ، أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء.
وأصل الطوف المشي حول الشيء والمراد هنا السعي بينهما.
قيل : كان على الصفا ” إساف ” وعلى المروة ” نائلة ” وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله.
وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله فلا جناح .
وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى.
وكذا قوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
(1/96)