المطر والأنعام وألبانُها و الاعتبار
الحمدُ لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البَرِّ الرحيم والملائكة الْمُقرَّبين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وحبيبِ رب العالمين وعلى جميع إخوانه
من النبيين والمرسلين وءال كُلٍّ والصالحين
وسلامُ الله عليهم أجمعين
يقولُ الله تباركَ وتعالى: ﴿وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {65} وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ {66} وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {67}﴾[1].
إنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يُخبِرُنا بأنهُ أنزَلَ لنا ماءً مِنَ السَّماءِ أحيا به الأرضَ بعدَ موتِها فصَارَت خضراءَ بعدَ أنْ كانت جَدْباء لا نباتَ فيها، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سَمَاعَ إنصَافٍ وتدبُّر لأنَّ مَنْ لَم يسمَع بقلبِهِ فكأنّهُ لا يسمَع.
وجعلَ لنا في الأنعَامِ عِبرَةً يَسْقِينا ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا﴾، أي يَخلُقُ الله اللَّبنَ وَسِيطًا بينَ الفَرثِ[2] والدّمِ يكتَنِفانِهِ بينَهُ وبينَهُما بَرزَخٌ لا يبغي أحدُهُما عليه بلونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، بل هو خالِصٌ مِنْ ذلكَ كلِّهِ.
قيلَ إذا أكلَتِ البهيمةُ العَلَفَ فاستقرَّ فِي كَرْشِها طبَخَتهُ فكانَ أسفَلُهُ فرثًا وأوسطُهُ لبنًا وأعلاهُ دَمًا، والكَبِدُ مُسَلَّطَةٌ على هذهِ الأصنافِ الثلاثةِ تُقسّمُها فيَجري الدّمُ في العروقِ واللّبنُ في الضُّروعِ ويبقى الفرثُ في الكَرشِ ثُم ينحَدِرُ وفي ذلكَ عِبرةً لِمَن اعتبر.
وسُئِلَ شقيقٌ عَنِ الإخلاصِ فقال: ((تَمييزُ العَمَلِ مِنَ العُيوبِ كتمييزِ اللَّبنِ مِنْ بينِ فرثٍ ودمٍ سائغًا للشَّاربين)) أي سَهْلَ المرورِ في الحَلقِ، يقولُ رسول الله: ((عليكم بألبانِ الإبلِ والبقر فإنها تَرُمُّ مِنْ كلِّ الشجر))[3] أي تأكُلُ وترعى أي تَجمَعُ مِنَ الشَّجرِ كلّهِ أي مِنَ الحارِّ والبارِدِ والرَّطبِ فتَقرُبُ ألبانُها لذلك مِنَ الاعتدالِ، وإذا أكلَت مِنَ الكُلِّ فقد جَمَعَت النفعَ كُلَّهُ فيكونُ لبنُها مُرَكبًّا مِنْ قُوى أشجارٍ مُختلفةٍ وأنواعٍ مِنَ النباتاتِ متباينة فكأنه شرابٌ مُجتَمعٌ مطبوخ. وهو أي اللَّبن شِفاءٌ مِنْ كلِّ داءٍ يَقبَلُ العلاجَ به إذا شاءَ الله أنْ يكونَ فيه شفاء، وقد قيل إنه إذا شُرِبَ سَمْنُ بقرٍ أو مَعْزٍ بعسلٍ نفَعَ مِنَ السمِّ القاتل والحيّةِ والعقرب، وهو ترياقُ السمومِ المشروبة[4].
ويقولُ: ((إنَّ في أبوالِ الإبلِ وألبانِها شفاءً للذَّرِبَةِ بطونُهُم))[5] أي فيها شِفاءٌ للذينَ فسَدَت بطونُهُم، والذَّرَبُ: بالتحريكِ الداّءُ الذي يَعرِضُ للمَعِدَةِ فلا تَهضِمُ الطعام ويفسُدُ فيها ولا تُمسِكُهُ. ويقول: ((إذا أكَلَ أحدُكُم طعامًا فليقُل: اللهمَّ بارك لنا فيه وأبدِلْنا خيرًا منه، وإذا شَرِبَ لبنًا فليقل: اللَّهم بارك لنا فيه وزِدنا منه، فإنّه ليسَ شىءٌ يُجزِىءُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ إلا اللَّبن))[6] يعني لا يكفي فِي دَفْعِ العَطَشِ والجوعِ معًا شىءٌ واحدٌ إلا هو، لأنه وإنْ كان بسيطًا في الحِسّ لكنّهُ مركّبٌ مِنْ أصلِ الخِلقَةِ تركيبًا طبيعيًّا مِن جواهِرَ ثلاث: جُبنيّةٌ وسَمنيّةٌ ومائيّةٌ.
قولُهُ: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ أي خَمرًا، والآيةُ فيها وجهان: أحدُهُما أنَّ الآية سابقةٌ على تَحريمِ الخمرِ فتكونُ منسوخة، وثانيهِما أن يَجمَعَ بين العِتَابِ والمِنَّة. قال الراغبُ في مفرداتِهِ: ((السَّكَرُ حَبْسُ الماء وذلك باعتِبارِ ما يَعرِضُ مِنَ السَّدِّ بينَ المرءِ وعقلِهِ)).
﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ وهو الخلُّ والرُّبُّ والتمرُ والزَّبيبُ وغيرُ ذلك.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ أي لَدِلالةً لِمَن يستعمِلُ العقلَ ويعملُ بِما يقتضيهِ عندَ النظرِ فِي الآياتِ، المعنى أنَّ مَنْ كان عاقلاً عَلِمَ بالضَّرورَةِ أن هذه الأحوالَ لا يقدرُ عليها إلا اللهُ سبحانَهُ وتعالى فيَحتَجُّ بحصُولِها على وجودِ الإلـٰهِ القادرِ الحكيم.
[1] – سورة النحل من ٦٥ إلى ٦٧.
[2] – وهو ما في الكَرشِ.
[3] – رواه ابن عساكر.
[4] – يقالُ رَمَّةِ الشاةُ الحشيشَ ترُمُّهُ رَمًّا أخذتهُ بشَفَتِها.
[5] – رواهُ الطبرانِيُّ والبيهقيُّ.
[6] – رواه أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه والبيهقي.