على العَاقِلِ أنْ تَكُونَ لهُ سَاعةٌ يُناجِي فيها ربَّهُ وسَاعَةٌ يُحاسِبُ فيها نَفسَهُ وسَاعةٌ يُفكّرُ فيها فيمَا صَنعَ اللهُ
روى ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:فيمَا أَنزَلَ اللهُ تَعالى في تِلكَ الصُّحُفِ التي أَنزَلها على إبراهِيمَ عَليهِ السّلام على العَاقِلِ مَا لم يَكُنْ مَغلُوبًا عَلى عَقلِه أنْ تَكُونَ لهُ سَاعاتٌ،سَاعةٌ يُناجِي فيها ربَّهُ وسَاعَةٌ يُحاسِبُ فيها نَفسَهُ وسَاعةٌ يُفكّرُ فيها فيمَا صَنعَ اللهُ وسَاعةٌ يَخلُو فيها لمطعَمِه ومَشرَبِه،وعلى العَاقِل أنْ يَكونَ بصِيرًا بزَمانِه مُقبِلا على شَأنِه حَافِظًا للِسانِه،فمَن حسَب كلامَه مِن عَملِه قَلّ أن يَتكلَّم إلا فيمَا يَعنِيْه“
الله تعالى أنزل على إبراهيمَ عشرَ صحَائفَ في هذِه الصّحائفِ أَمثالٌ أي مَواعِظ وعِبَرٌ ليسَ فيهَا أَحكامٌ شَرعيةٌ كالقرءان ،أما القرءانُ شَاملٌ العقيدةَ والأحكامَ وأَخبارَ الأنبياءِ الأوَّلِينَ وجَامِعٌ أُمورَ الآخِرةِ وغَيرَ ذلكَ مِنَ المصَالح.
وفي هذِه الجُمَل التي هيَ في صُحفِ إبراهيمَ التي رواهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيها نصَائحُ كبِيرة مَن عمِلَ بها استفَادَ لآخِرتِه وفي دُنياه لأن فيها محاسَبةَ الشّخصِ نفسَه أي يفَكّرُ في نفسِه ماذَا عمِلتُ اليومَ حتى إذا عَرفَ أنّه عصَى اللهَ يتُوبُ،يتَدارَكُ نفسَهُ بالتّوبَةِ،وحتى إذا تذَكّرَ حَقًّا أضَاعَهُ مِن حقُوقِ اللهِ تَعالى يتَدارَكُه.
وأمَّا مُناجَاةُ اللهِ فمَعناهَا الإقبالُ على اللهِ بدُعائِه وتمجِيدِه،يجعَلُ وقتًا يُناجِي فيه اللهَ بالصّلاةِ والذِّكْر،وهَذا أَمرٌ مُهِمٌّ،والتّسبيحُ بالأنامِل أفضَل منَ التّسبيح بالسُّبحَةِ،ولا بأسَ باستعمالِ السُّبْحَةِ،وهيَ في مَعنى الخَيطِ الذي كان أبو هريرةَ يُسبّحُ بهِ وكانَ فيه أَلفَا عُقدَة،ثبَت أنّهُ كانَ يُسبّح اثنَتي عَشْرَة أَلف تَسبِيحَة كلَّ يوم،وكانَ يقولُ مِن بابِ التّواضُع واتّهامِ النّفسِ أُسبّحُ اللهَ بقَدْرِ ذُنُوبي.
ومنَ الدّليلِ على جوازِ استِعمالِ السُّبْحَة الحديث الذي أخرجَه ابنُ حِبّان وصحّحهُ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخَلَ معَ سَعدِ ابنِ أبي وقّاص على امرأةٍ في يَدِها نَوى أو حَصًى تُسبِّحُ بها فقال ألا أُخبِرُكِ بما هو أَيسَرُ علَيكِ مِن هَذا وأفضَل،سبحان اللهِ عَددَ ما خلَقَ في السّماءِ وسُبحانَ اللهِ عَددَ مَا خَلقَ في الأرضِ وسبحانَ اللهِ عَددَ ما هوَ خَالقٌ واللهُ أكبَرُ مِثلَ ذلكَ والحَمدُ للهِ مِثلَ ذلكَ ولا إلهَ إلا الله مثلَ ذلكَ ولا حولَ ولا قُوّةَ إلا باللهِ مِثلَ ذلكَ.
والأمرانِ الآخَرانِ أحَدُهما أنْ يتفَكّرَ في صُنعِ اللهِ،أي في حَالِ نَفسِه وفي حَالِ هَذِه الأرضِ التي يَعِيشُ علَيها وفي حَالِ العَالَم العُلويّ السّماءِ والنّجومِ فإنّ في التّفكّرِ زِيادةَ اليَقِين بكمَالِ قُدرةِ الله وفي ذلكَ تَقويةَ الإيمانِ، وفي ذلكَ محبَّةَ اللهِ وغَيرَ ذلكَ منَ الفَوائد.التّفكُّر يَزيدُ مِنْ خَشيَةِ اللهِ،والتّفكُّر الذي يحبُّهُ الله هو التّفَكُّر في مَصنُوعَاتِ الله، لينظُر في حالِ نَفسِه يقولُ أنَا كنتُ نُطفَةً ثم اللهُ تَعالى خلَقَني إنسانًا بشَرًا سَويًّا، ثم طَوّرني مِنْ حَالةِ الضّعفِ إلى حَالةِ القُوّة.أليسَ الإنسانُ أوّلَ ما يُولَدُ لا يتَكلَّمُ ولا يَعلَمُ شَيئًا ولا يمشِي ولا يميّزُ مَا يَنفَعُه مما يَضُرُّه،ثم الله تَعالى يُطوّرُه منَ الضّعفِ إلى القُوّةِ بَعدَ أنْ كانَ ضَعِيفًا،الله تعالى يَخلقُ فيهِ القُوّةَ والنّشاطَ ثم هذا النّشاطُ إن استَعملَهُ في الخيرِ فِيما يَنفَعُه لما بعدَ الموتِ في القَبر وفي الآخِرةِ كانَ حَازِمًا في أَمرِه.
ولْيَتفَكّرِ الإنسانُ في حَواسّهِ الخَمسِ الظّاهرةِ وهيَ السّمع والبصَر الشّمّ والذّوق واللّمس،
أما السّمعُ فهو قُوّةٌ مُودَعَةٌ في العَصَبِ المفرُوشِ في مُقَعَّرِ الصّمَاخ أي مؤخَّرِه يُدرَكُ بهِ الأصواتُ بطَريقِ وصُولِ الهَواءِ المتَكَيِّفِ بكَيْفِيّةِ الصّوتِ إلى الصّمَاخِ، بمعنى أنّ اللهَ يَخلُقُ الإدراكَ في النّفسِ عندَ ذَلكَ،
والبصَرُ وهوَ قُوّةٌ مُودَعَةٌ في العصَبتَينِ المجوَّفتَينِ اللّتَينِ يتَلاقَيانِ في الدّمَاغ ثم يَفتَرِقَانِ فيتَأدّيَانِ إلى العَينَينِ يُدرَكُ بهما الأضواءُ والألوانُ والأشكَالُ وغَيرُ ذلكَ مما يخلُقُ الله إدرَاكَهُ في النَّفسِ عندَ استِعمالِ تِلكَ القُوّة ،
والشّمُّ وهو قوّةٌ مُودَعةٌ في الزّائِِدَتَينِ النَّاتِئتَينِ في مُقَدَّم الدِّمَاغِ الشّبِيهَتَين بحَلَمَتي الثّدْي يُدرَك بها الرّوائحُ بطَريقِ وصُولِ الهَواءِ المتَكيِّفِ بكَيفِيّةٍ ذِي رائِحةٍ إلى الخَيشُوم يخلُق الله سبحانَه وتَعالى الإدراكَ عندَ ذلك ،
والذَّوقُ وهو قُوّةٌ مُنبَثٌّةٌ في العصَبِ المفروشِ على جِرْمِ اللِّسانِ يُدرَكُ بها الطُّعُومُ بمخَالطَةِ الرّطُوبةِ اللُّعَابيّةِ التي في الفَمِ للمَطعُوم ووصُولها إلى العصَب،يَخلُقُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالى الإدراكَ عندَ ذلكَ.
واللَّمسُ وهوَ قُوّةٌ مُنبَثَّةٌ في جمِيعِ البَدنِ يُدرَكُ بها الحرارَةُ والبُرودَةُ والرّطُوبَةُ واليبُوسةُ ونحوُ ذلكَ عندَ الاتّصالِ والتّمَاسِ يَخلُقُ اللهُ سُبحانَهُ وتَعالى الإدراكَ عندَ ذلكَ.
أمَّا التّفكُّر في ذاتِ اللهِ مَنهِيٌّ عنهُ لقَولِه صَلى الله عليه وسلم:لا فِكرَةَ في الرَّبِّ“رواه أبو القاسِم الأنصاري.
ومعنَاهُ لا يجُوز التّفكُّر في ذاتِ اللهِ لأنّهُ لا شَبيهَ لهُ،أمّا التّفكُّر في مخلوقاتِ اللهِ فَقد أُمِرنَا بهِ،
فاللهُ سُبحانَهُ وتَعالى لا يُدركُه الوَهمُ لأنّ الوَهمَ يُدرِكُ الأشياءَ التي لها وجُودٌ في هذه الدُّنيا كالإنسان والغمَامِ والمطَرِ والشّجَر ومَا أَشبَه ذلك،فيُفهَم مِن هذا أنّ الله لا يجوز تصَوُّرُه بكيفِيّةٍ وشَكلٍ ومِقدَارٍ ومِسَاحةٍ ولَونٍ وكُلّ ما هو مِن صِفاتِ الخَلق.
وكذلكَ يُفهَمُ مِن قَولِه تَعالى” وأنَّ إلى ربّكَ المنتَهَى “أنّهُ لا تُدركُه تصَوُّراتُ العِبادِ وأَوهَامُهُم كمَا ذكَرَه البغَوِيُّ بإسنادِه عن أُبيّ بنِ كَعبٍ وهوَ مِن مشَاهِيرِ الصّحابةِ أنّه قال“إليه انتَهى فِكرُ مَن تفَكَّر“أي إليه تنتهي الأفكار،أي لا تصِلُ إليه الأفكار ،أي الذي دُونَهُ تَنتَهِي الفِكرةُ،معناه الأفكارُ والأوهام تَعجِزُ عن إدراكِ حقِيقةِ الله.
فالتفكر في ذات الله أي حقيقته ليس فيه خير لأن الله لا يمكن تصوُّرُه في النفس.