بابُ العلمِ قبلَ العمَل
قالَ الإمامُ البخاريُّ في صَحِيحِهِ: ((بابُ العِلْمِ قَبلَ العَمَلِ))
قالَ تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أنَّهُ لا إِلَـٰهَ إلا اللهُ وَاستَغفِرْ لِذَنْبِك﴾
معنى ذلكَ: أنَّ العِلمَ في الدِّينِ مُقَدَّمٌ على العَمَلِ لأنهُ بلا عِلْمٍ لا يصلُحُ العَمَلُ والعِبادَةُ معَ الْجهلِ لا تُنقِذُ صاحِبَها والجهلُ بالدينِ يَفْتِكُ بِصَاحِبِهِ كما يفعلُ السُّمُّ بِمَنْ يتناولُهُ، فلا نَجَاةَ بلا عِلْمٍ ومَنْ كانَ مُقبلاً على علمِ الدِّينِ فهذا علامَةُ أنَّهُ مِنَ الْمُفلحينَ في الآخرةِ، ومَنْ طلبَ عِلْمَ الدِّينِ في صغره وشبيبته كانَ ذلكَ أفضل.
كانَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ يُقرِّبُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ ويُدنيِهِ إليهِ في مَجالِسِهِ فقالَ بعضُ الصَّحابَةِ لِمَ تُدنيهِ دونَ سائِرِ أولادنا؟ فقالَ عمرُ: ((إنه فتى الكُهول له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عقول))، وقد ورَدَ عن عيسى عليه السَّلام أنه قال في مَدحِ علماءِ أمةِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم: ((علماءُ حُلماءُ بَرَرَةٌ أتقياء كأنَّهُم مِنَ الفقهِ أنبياء)) فقولُهُ: ((كأنهُم مِنَ الفِقْهِ أنبياء)) دَليلٌِ على فضلِ الفقهِ فِي الدينِ، والفقهُ معناهُ مَعرِفَةُ النَّفْسِ ما لَها وما عليها[1]، قال الإمام أبو حنيفةَ في علمِ التوحيدِ ((الفقه الأكبر)) أي هو العلمُ الْمُقَدَّمُ على غيرِهِ.
وقد قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَـٰفِ اللَّيلِ والنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلبَاب﴾ وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ أن تلا هذهِ الآية: ((ويلٌ لِمَنْ قرأها ولَمْ يتفكرْ فيها)) معناه: يَجبُ معرفةُ الدَّليلِ على وجودِ الله فعلى كل مكلف أن يعرف دليلا إجماليا على وجود الله، أما معرِفَةُ الأدلَّةِ على سائرِ الأحكامِ الشَّرعيةِ فهو فرضُ كفايةٍ ليسَ فرضَ عينٍ وقد كانَ أغلبُ أصحابِ الرَّسولِ عليه الصّلاةُ والسَّلامُ لا يعرفونَ تفاصيلَ الأدلَّةِ على الأحكامِ الشرعيةِ بل الأقلُّ يعرفونَها.
والاستدلالُ على وجودِ اللهِ سهلٌ وذلكَ بأن يُقالَ العالَمُ مُتَغَيّرٌ وكلُّ مُتَغَيِّرٍ لابُدَّ لهُ مِنْ مُغيّرٍ فالعالَمُ لابدَّ له مِنْ مُغَيّرٍ، الْجُمْلَتَانِ الأُوُلَيَانِ تُسَمَّيانِ مُقَدِّمَتَيْنِ والْجُمْلَةُ الأخيرةُ تُسمّى نتيجة، وهذا الْمُغيّرُ هو الله، الاسمُ عُرِفَ بطريقِ الأنبياءِ أما الدّليلُّ العقليُّ فيُعرفُ بطريقِ الفكر الصَّحيحِ وذلكَ يكونُ باستعمالِ العقلِ.
ثم إنَّ اللهَ تعالى جعلَ هذا العالَمَ على صنفينِ: الحجمِ وصِفةِ الحجمِ، ومعنَى الحجمِ ما اتَّخَذَّ حيّزًا مِنَ الفراغِ وهو إما لطيفٌ وإما كثيفٌ، واللّطيفُ ما لا يضبطُ باليدِ أي ما لا يُمْسَكُ باليَدِ كالنورِ والهواءِ والروحِ والملائكةِ والظلام، والكثيفُ ما يُضبَطُ[2] باليَدِ كالإنسانِ والحجرِ والشجرِ والقمرِ، أما صفاتُ الحجمِ فهي التي يُسَمِّيها العلماءُ الأعراض، والعَرَضُ هو صِفَةُ الحجمِ وهو شىء لا يقومُ بذاتِهِ إنما يقومُ بالحجمِ، والأعراضُ نَحوُ أربعينَ منها الحركَةُ والسُّكونُ واللونُ والحرارةُ والبرودةُ واليبوسةُ وغيرُ ذلكَ كثير.
فإذا كانَ العالَمُ مُنحصرًا في الأحجامِ اللّطيفةِ والكثيفةِ وصفاتِ الأحجامِ تبيَّنَ أنَّ اللهَ لا يجوزُ أن يكونَ مُشْبِهاً للأحجامِ ولا يجوزُ أن يكونَ موصوفاً بصفاتِها كل هذا شرحٌ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِير﴾ هذهِ ءايةٌ مُحْكَمَةٌ وهي أعظمُ ءايةٍ فِي تنـزيهِ اللهِ عَنْ مُشابَهَةِ خَلْقِهِ يليها قولُهُ تعالى: ﴿وَكُلُّ شَىءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار﴾ ومعناها أنَّ كلَّ شىءٍ خلقَهُ الله على حجمٍ، لأن الْمِقْدارَ معناه الحجمُ والحجمُ إما صغيرٌ أو كبيرٌ وإما بين الصغيرِ والكبيرِ وهذا دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى ليس حجماً بالمرّة ومَنْ قال بِخِلافِ ذلكَ يكونُ مُكَذِّباً للقُرءان ومَنْ كذَّبَ القرءانَ كَفَرْ.
[1] – أي الحلال والحرام.
[2] – أي يُمسَكُ.