قال شيخنا رحمه الله ونفعنا به وأمدنا بأمداده
(اعلَم رحمَك اللهُ أنّ الفَرضَ أعظَمُ ثوابًا عندَ الله مِنَ النّفْل فالفَرضُ مَا في فِعلِه ثَوابٌ ويستَحقُّ تاركُه العقاب والنّفلُ ما في فعلِه ثوابٌ ولا يُعاقَب تاركُه فمَن ساوَى الفرضَ بالنّفل فقد أهلَك نفسَه
وأمّا قولُه عليه الصلاة والسلام”مَن فَطّرَ صَائمًا فلَهُ مِثلُ أَجْرِه” رواه الطبراني والبيهقي والترمذي. فمعناهُ لهُ أجرٌ شَبيهٌ بأجْره، ومَن اعتقدَ أنّهُ لهُ مثلُ أجْرِه تمامًا مِن جميع الوجُوه عدَدًا وكَيفِيّةً فقد كفَر، لأنّ الذي صامَ رمَضان صامَ الفَرض والذي أطعمَه عمِلَ نَفلا فالقولُ بأنّ لهُ مثل أجره تمامًا مِن جميع الوجوه فيه مُسَاواةُ الفَرض بالنّفل مِن حيث الثواب.
ومَن كانَ مِثلَ قَريبِ عهدٍ بإسلام ولم يخطُر ببالِه تَسويةُ النّفل بالفَرض إلا أنّهُ اعتقَد تمامَ المماثلةِ في الثّواب مِن كلّ الوجُوه فلا يَكفُر باعتقادِه هذا إنْ خفِيَ عليهِ الحُكْم ولم يَعلَم بحقيقةِ الأمر وإلا كفَر. إنْ عرَف الفَرقَ بينَ الفَرض والنّفْل وكانَ مميّزا ومع ذلكَ سَاوى بينَ الفَرض والنّفل يَكفر. أمّا إنْ كانَ غَيرَ مميّز فلا يَكفُر. إن كانَ تعَلّم أنّ هذا خَير وأنّ هذا خَير ولم يتعَلّم ما هو الفَرق بينَهُما إنْ كانَ مِثلَ قريبِ عَهدٍ بإسلام لا يَكفر، ما تَعلّم أنّ الفَرض في الشّرع لهُ مَنزلةٌ ليسَت للنّفل وأنّ تاركَ الفَرض يُعاقَب وتاركَ النّفل لا يُعاقَب، إن كانَ ما تعَلّم هذا فسَاوَى بينَهُما لا يكفر. مَن اعتقدَ أنّ هذا معناه أنهُ ينالُ مثلُ أجْرِه بحيثُ لو كانَ للصّائم مائةُ حَسَنة يكونُ لمن فَطّره مائةُ حسَنة وهكذا، فإن اعتقَد أنّهُ لهُ مِثلُه تمامًا مِن كلّ الوجوه يَكفر، أمّا إن اعتقَد مِن بعضِ الوجُوه فلا يكفُر، لأنّ الشّخصَ قَد يكونُ لهُ مائةٌ منَ الخَيل والآخَرُ لهُ مائةٌ منَ الخَيل لكنّ الخَيلان ليسَا متشَابهين مِن كلّ النّواحي، إنما هذه صفاتُها وهيئتُها تختَلفُ عن هذه.
ومَن أخَذ بظاهر الحديثِ مِن غيرِ أن يخطُرَ ببالِه أنّ له مثلُ أجْره مِن جميع الوجُوه أو مِن بعض الوجوه وهو يَعلَم الفَرق بينَ الفَرض والنّفل فلا يكفر لمجرّد هذا.
أمّا مَن صام النّفل فيحتَمل أن يكونَ للذي فطّره مِثلُ أجْرِه.
مَن صام فَرض رمضان ثوابُه أعظَم ممن دعاهُ على طعَام أي فَطّره لأنّ مَن صام رمضانَ يكون قَد عمِلَ فَرضًا أمّا مَن دعاهُ على طعَام فيكونُ قَد عمِلَ نَفلا وليسَ فَرضًا.
فالحديثُ معناه له ثوابٌ يُشبِه ثوابَه ليسَ لهُ مِثلُ ثوابِ الصّائم تمامًا، وكذلك حديث”مَن جَهّز غازيًا فقَد غَزا”رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وكذلك حديث”مَن دَلّ على خَيرٍ فَلَهُ مثلُ أجرِ فاعلِه”رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وحديثُ “قُل هوَ اللهُ أحَدٌ تَعدِل ثُلُثَ القُرءان”رواه أبو عوانة. أي ثواب قراءة سورة الإخلاص يشبه ثوابَ قراءةِ ثلُثِ القرءان مِن بعضِ النّواحِي لما فيها من التوحيد ولكن ليسَ مِثلَه على التّمام.
وقالَ السّيوطي في الإتقان واختَلَف النّاسُ في معنى كونِ سُورةِ الإخلاص تَعدِلُ ثُلُثَ القُرءان فقِيلَ كأنّه صلى الله عليه وسلم سمِعَ شَخصًا يُكرّرُها تَكرَارَ مَن يَقرأ ثُلُثَ القُرءان فخُرّج الجَوابُ على هذا وفيه بُعْدٌ ظَاهرٌ عن الحديث وسائرُ طُرُق الحديثِ ترُدُّه، وقيلَ لأنّ القرءانَ يَشتَمِلُ على قَصَصٍ وشَرائعَ وصِفاتٍ وسورةُ الإخلاص كلُّها صفات فكانَت ثُلُثا بهذا الاعتِبار، (وهذا جيد)،وقالَ الغَزاليّ في الجواهر معَارِفُ القُرءان المهمّة ثلاثة معرفةُ التّوحيد والصراطُ المستقيم والآخِرة وهيَ مشتَمِلَةٌ على الأوّل فكانَت ثُلُثا، (وهذا جيد)،
وقالَ أيضًا فيما نقَلَه عنه الرّازيّ يَشتَمِلُ القرءانُ على البراهِين القاطِعَةِ على وجُودِ الله تعالى ووَحدَانِيّتِه وصِفاتِه، أمّا صفاتُ الحقيقة وأما صفات الفعل وأما صفات الحُكم، فهذه ثلاثة أمور، وهذه السورة تَشتَمِلُ على صِفاتِ الحقيقة فهيَ ثُلُث.
وقالَ الخُوَيّي المطَالِبُ التي في القرءان مُعظَمُها الأصولُ الثّلاثةُ التي بها يصِحّ الإسلام ويحصُلُ الإيمان وهيَ معرفةُ الله والاعترافُ بصِدْقِ رسُولِه واعتقادُ القِيام بينَ يدَي الله تعالى فإنّ مَن عرَف أنّ اللهَ واحِدٌ وأنّ النّبيّ صَادقٌ وأنّ الدّينَ واقِعٌ صارَ مؤمنًا حقًّا، ومَن أنكَر شَيئًا مِنها كفَرَ قَطعًا، وهذه السّورةُ تُفِيدُ الأصلَ الأوّلَ فهيَ ثُلُثُ القُرءان مِن هذا، (وهذا الوَجهُ يُوافَق عليه).
وقال غيره القرءان قسمان خبر وإنشاءٌ والخبر قسمان خبرٌ عن الخالق وخبرٌ عن المخلوق فهذه ثلاثةُ أثلاثٍ وسورةُ الإخلاص أَخْلَصَتِ الخبَرَ عن الخَالِق فهيَ بهذا الاعتِبار ثلُث. وأما من قال إنها تعدِلُ في الثواب ثلثَ القرءان وقالَ إنّ هذا هو الذي يَشهَدُ لهُ ظاهرُ الحديث فكلامُه غيرُ صَحيح، بل قالَ ابنُ عَقيل لا يجوز أن يكونَ المعنى فلَهُ أَجْرُ ثُلُث القرءانِ لقوله عليه السلام”مَن قَرأ القُرءانَ فَلَهُ بكُلّ حَرفٍ عَشرُ حَسَناتٍ”رواه الطبراني
وقال ابنُ عبدِ البرّ السُّكوتُ في هذه المسألة أفضلُ منَ الكلام فيها وأَسْلَم.
ثم أَسنَد إلى إسحاق بنِ منصور قلتُ لأحمدَ بنِ حَنبل قولُه صلى الله عليه وسلم “قُل هوَ اللهُ أحَد تَعدِلُ ثُلُثَ القُرءان”ما وجهُه، فلم يَقُم لي فيها على أَمْر.
وقالَ إسحاقُ بنُ راهَويه معناه أنّ اللهَ لما فَضّل كلامَهُ على سائر الكلام جعَلَ لبَعضِه أيضًا فَضلا في الثواب لمن قرَأه تحريضًا على تَعلِيمِه لا أنّ مَن قرأ قُل هوَ الله أحَد ثلاثَ مَرّات كانَ كمَن قرَأ القرءانَ جمِيعَه، هذا لا يستَقيم ولو قرأهَا مائَتي مَرّة. اه
(قال السيوطي في شرح مسلم قيل معناه أن القرآن على ثلاثةِ أنحاء قَصَصٌ وأحكام وصفاتُ الله تعالى وقل هوَ الله أحَد متمَحّضَةٌ للصّفاتِ فهيَ ثلُثٌ وجُزءٌ مِن ثلاثةِ أجْزاء. ومثلُ ذلكَ نقَل النّوويّ في شَرح مسلم عن المازَريّ.)
(قال في فَيض القدير لأنّ معاني القرآن آيِلَةٌ إلى ثلاثةِ علُومٍ عِلمِ التّوحِيدِ وعِلمِ الشّرائع وعِلم تهذِيبِ الأخلاق وتَزكيةِ النّفْس، والإخلاصُ تَشمَلُ على القِسم الأشرفِ مِنها الذي هو كالأصلِ للأخِيرَيْن وهوَ عِلمُ التّوحيد.)
وأمّا حديث “مَن جَهّزَ غَازيًا فقَد غزَا “فتَجهيز الغازي فَرض على الإمام وعلى المستطيع إن لم يكن إمامٌ وكان بالمسلمين ضرورة لذلك، ففي حال وجوبه يكون أجرُ المجهّزِ مسَاويًا لأجرِ الغازي.)