قرئ على شيخنا رحمه الله ونفعنا به
عن أبي ذَرّ قالَ” أمَرَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصِلَ رَحِمي وإنْ أَدْبَرَت وأنْ أُحِبَّ المساكِينَ وأُجَالِسَهُم وأن أقولَ الحَقَّ وإنْ كانَ مُرّا وأنْ لا يَأخُذَني في اللهِ لَومَةُ لائِم وأنْ أَنظُرَ إلى مَن هوَ تَحتي ولا أَنظُرَ إلى مَن هوَ فَوقِي وأنْ أُكثِرَ مِن قَولِ لا حَولَ ولا قُوّةَ إلا بالله”. هَذا حديثٌ حسَن أخرجه أحمد وصحّحَه ابنُ حبّان.
(قالَ أبو ذَرّ ” وأَوصَاني بأَن أَصِلَ رَحِمِي وإنْ أَدبَرَت ” المعنى أن الرسولَ أوصَاهُ أيضًا بأن يصِلَ رحمَه وإن كانَ رحمُه قَطَعَه، والرّحِمُ هوَ القَريبُ، وإنْ كانَ لا يَعرِفُ لهُ المعروفَ الذي يَعمَلُه مَعهُ، لو كانَ رَحمُه يُسِيءُ إليهِ فيَنبغي أن يُحسِنَ إليهِ ولا يَنقَطِعَ عن مُعامَلتِه بالإحسَانِ فيكونُ أَجرُه عظِيمًا عندَ الله، لأنّ اللهَ يحِبُّ مِنَ المؤمنِ أن يَعمَلَ مَعرُوفًا مع الذي يعمل معه المعروف ومع الذي لا يَعمَلُ مَعهُ مَعروفًا. فالذي يُحِسنُ إلى رحمِه الذي يحسِنُ مُعاملتَه أَجرُهُ أقَلَّ مِنَ الإحسان إلى الذي لا يحسِنُ مُعامَلتَه لأنّ هَذا فيهِ كَسرٌ للنّفسِ في طَاعةِ اللهِ واللهُ يحِبُّ ذلكَ، فمَن خَالفَ نفسَه فأَحسَنَ إلى رحمِه الذي يَقطَعُه كانَ لهُ الثّوابُ العَظِيم.)
(قال شيخنا رحمه الله قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: ” أَوصَاني خَلِيلِي بخِصَالٍ مِنَ الخَيرِ أَوصَاني بحُبِّ المسَاكِينِ والدُّنُوِّ مِنهُم ” أي الاقترَابِ مِنهُم, كانَ رسولُ اللهِ مِن شِدّةِ شَفقَتِه ورَحمَتِهِ للمؤمِنينَ أنّه إذَا لم يَر بَعضَ أصحَابِه بُرهَةً مِنَ الزّمَن يَتفَقّدُه , حتى أنّه قِيلَ لهُ عن رجُلٍ غَريبٍ مؤمنٍ فَقيرٍ حِينَ سَألَ عَنه قيلَ لهُ إنّهُ تُوفي، فذَهَبَ إلى قَبرِه وصَلّى عَليهِ، سأَلَ عن قَبرِه أَينَ دُفِنَ فدُلَّ عَليهِ فصَلّى عَليهِ.
إلى هَذا الحَدِّ كانَ يحِبُّ المسَاكِينَ ويَعتَني بهِم وهَذا مَا كانَ إلا رجُلا مؤمِنًا مِسكِينًا كانَ غَرِيبًا. في حديثِ أبي ذر تهذيبٌ للنّفوس بحيثُ إنّ فيه ترغِيبًا في محبّةِ المسَاكينِ والفقراءِ والرغبة في تقريبِهم إلى مجلِسه , كذلك الرسول أحبّ أن يكون في الدنيا مع المتواضِعين وأن يُحشَر يومَ القيامة مع المتواضعِين، وقد طَلب من الله أن يُحشَر في زُمرة المساكينِ أي المتواضِعين لأنّ المتكبرين يَحشُرهُم الله تعالى أمثالَ الذّر أي النّمل الأحمر في صُورة رجَالٍ صِغار أذِلاء , أهلُ الله لا يحبُّونَ المتكَبرينَ بل يحبُّونَ أن يَكونُوا معَ المؤمنينَ المتَواضِعين الذين قلُوبهُم مُنكَسِرةٌ لله تعالى، الرسول طلب من ربّه: ” اللهُمّ أَحيِني مِسكِينا وأَمِتني مِسكِينًا واحشُرني في زُمرَةِ المسَاكِين ” رواه البيهقي والحاكم والطبراني.
المسكينُ يُطلَقُ على مَعنَيَينِ: الفَقيرِ الذي لا مَالَ لهُ يَكفِيْهِ، والمتَواضِعِ الذي ليسَ فيهِ تَكَبُّرٌ ولو كانَ غَنِيّا. لا يَنظُر إلى الفقراءِ نَظرةَ احتِقَارٍ ولا يُهِينُهم أو يَسخَرُ مِنهُم، وهذا الأخيرُ هو الذي طلبَ رسولُ الله أن يكونَ بصِفَتِه، وذلكَ لأنّ الأنبياءَ يَنظُرونَ إلى أن العبادَ كلَّهُم تحتَ مجَارِي أَقدَارِ اللهِ تعالى، فالضّعيفُ والقَويُّ لا يتَجَاوزُ ما قَدّرَ اللهُ تَعالى لهُ.
أولادُ رجلٍ واحِدٍ مِن أمٍّ واحِدةٍ، هذا يَطلَعُ نَشِيطًا قَوِيّ الحركةِ وهذَا يطلَع ضَعيفًا بلِيدَ الذِّهنِ لماذا ذلكَ؟ لأنّ الله تعالى هو المتصَرِّفُ بعِبادِه كيفَما شاءَ.
فالأنبياءُ والأولياء يَعرفونَ أنّ كلَّ إنسانٍ يكونُ تحتَ تصَرُّفِ اللهِ تعَالى، فإنْ رأَوا إنسَانًا نشِيطًا ذكِيا كانَ ذلكَ بعَونِ الله تعالى، والذينَ تكونُ حالتُهم بعكسِ ذلكَ يعلَمُونَ أنّ الله تعالى قَسَم له بهذه الصِّفة، هذا البشَرُ كلُّهم مِن ذُرية آدمَ ومعَ ذلكَ انظُروا إلى كَثرَةِ اختِلاف أَحوالهِم وأَعمَالهِم لا يُحصِيْهَا إلا اللهُ تعَالى.)
(قال أبو ذر: ” وأَوصَاني أن أقُولَ الحقَّ ولَو كانَ مُرًّا ” المعنى أنّه يَنبَغي للمؤمِنِ أن يقولَ قولَ الحقِّ عندَ مَن يحِبُّ وعندَ مَن لا يُحِبُّ هذا الحقّ.قال عليه الصلاة والسلام: رحم الله عمرَ يقولُ الحقَّ وإن كانَ مُرّا لقَد تَركَه الحَقُّ ومَا لَهُ مِن صَديق”، فنَحنُ علَينا أن نقتَدي بأئمّةِ الهُدى ولا نَخَافَ في اللهِ لومَةَ لاَئِم، علَينا أن نقُول الحقَّ ولا نخَافَ في اللهِ لومَةَ لائِم، علينا أن نقولَ الحقّ وإن كانَ مُرًّا.
قولُ الحقّ مُرّ على كثيرٍ منَ النّفُوس كثيرٍ منَ النّفُوس إذا قلتَ لهم قولاً حقًّا يكرهُونَك يتأذَّون منك عليكَ أن لا تُبالي، لا تَنظُر إلى رضاهم وغضبهم وكراهيتهم أنتَ انظُر إلى أن تأتمر بأوامرِ الله. اللهُ أمَر بالتّحذير منَ الذينَ يحرِّفون شريعتَه،
وكذلكَ إذا علِمتَ أنّ فُلانًا يُريدُ أن يخطب بنتًا وأنتَ تَعرف فيها أنها لا تَصلُح له فواجِبٌ عليكَ أن تُحَذّره، ثم هو تَتركه وشأنه إما أن يسمع النّصيحةَ فيَكُف عن خِطبَتها وإمّا أن يمضيَ في مُرادِ نفسِه أنت تكون كسَبت الثوابَ لأنّكَ حَذّرتَه نَصحتَه.كذلكَ العكس.)
(قال أبو ذرٍّ: ” وأَوصَاني أَن أَنظُرَ إلى مَن هوَ دُوني ولا أَنظُرَ إلى مَن هُوَ فَوقِي ” أي في أُمورِ الدُّنيا أي لا يَنظُر إلى أُمُورِ الأغنياءِ بل يَنظُر إلى الفُقَراءِ , فإذَا نَظَر إلى الأغنِياءِ يَحتَقِرُ نِعمَةَ اللهِ التي أَنعَمَها علَيهِ ويَصِيرُ عِندَه جَشَعٌ فلا يَشكُرُ اللهَ تَعالى، لأنّ تَفكِيرَهُ تَشَتّتَ في أَموالِ الأغنياءِ يُفَكِّرُ كَيفَ يَصِيرُ مِثلَ هؤلاءِ فَينهَمِكُ في أُمورِ الدُّنيا حتى يَصير يجمَعُ المالَ بالحَرام لا يُبالي فَهَمُّه أن يجمَعَ، أمّا إذَا نظَرَ إلى مَن هُوَ دُونَه أي أَفقَرَ مِنهُ يَزدَادُ شُكرًا للهِ تَعالى ويكونُ ذلكَ أَعْوَنَ لهُ على الإحسانِ بما يَستَطِيعُ لمن هُوَ أَحوَجُ مِنهُ،فقَد رَوينا في الحديثِ الصحيح أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ” سَبقَ دِرهَمٌ مائةَ ألفِ دِرهَم، قيلَ وكيفَ ذلكَ يا رسولَ اللهِ؟ فقال ” رَجلٌ لهُ دِرهمَانِ ” أي لا يملِكُ غَيرَهُما ” فتَصدّقَ بأَحدِهمَا ورَجُلٌ تَصدَّقَ بمائةِ أَلفٍ مِن عُرضِ مَالِهِ “رواه النسائي. فبِمَا أنّ هذا الإنسانَ لا يملِكُ مِنَ النّقُودِ إلا دِرهَمَين أخرَجَ دِرهمًا واحِدًا ابتغاءَ الفَضلِ مِنَ اللهِ كانَ ثوابُ هذَا الدِّرهَم الواحِد أعظَم مِن ثَوابِ الغَنيّ الذي تصَدّقَ بمائةِ ألفٍ والمائةُ ألفٍ بالنّسبةِ لمالِه قَليلٌ مِنْ كَثِير.)
(قال أبو ذرّ: ” وأَن أُكثِرَ مِن قَولِ لا حولَ ولا قُوةَ إلا بالله “رواه البيهقي. هذه الكلمةُ وردَ في ثوابها عن رسولِ الله ثوابٌ ونَفعٌ كَبيرٌ , وأمّا ثَوابها فقد ورد في الحديثِ الصحيحِ أنها كَنزٌ تحتَ العَرشِ أي ذُخرٌ كَبيرٌ مِنَ الثّوابِ يَدّخِرُه الله تعالى للمؤمنِ الذي يقولُ هذِه الكلمةَ الشّريفةَ، يَدّخِرُها لهُ إلى الآخِرة، يكونُ محفُوظًا تحتَ العَرشِ. فأمّا فائدتها فهيَ أنها تُزيلُ الهمّ، إذا إنسانٌ مُصابٌ بالهمِّ فمِن أفضَلِ ما يَشتَغِلُ به هذهِ الكَلمة، وهذهِ الكلِمةُ أيضا تَنفَع لمن ابتُلِيَ بالوَسوسَةِ حتى صَارَ في نَفسِه وَحشَةٌ وضِيقٌ شَدِيدٌ حتى يَكاد يُصَابُ بالجُنون، هذه تُفيدُه بإذنِ الله، إن واظَبَ وثَبَت علَيها فلا بُدّ أن يَرى الفَرجَ ويَنقَلِبَ عُسْرُه يُسْرًا، الله تعالى جعَل لها سِرّا كَبِيرًا ونَفعًا عظِيمًا فزَوالُ الهَمِّ مِن إحْدَى فَوائدِها، فائدةٌ مِن عَشَراتِ الفَوائدِ. وأمّا مَعنَاها توحِيدٌ وهو أنّه لا أحَدَ يَستَطِيعُ أن يَفعلَ الخَيرَ والطّاعةَ إلا بعَونِ اللهِ وأنّهُ لا يَستَطِيعُ أحَدٌ أن يَعتَصِمَ مِنَ الشّرِّ إلا بحِفظِ اللهِ، فمَهمَا كانَ الإنسانُ نَشِيطًا في عَملِ الخَيرِ فإنّ هذا النَشاطَ هو نِعمةٌ منَ اللهِ فلْيَحمَدِ اللهَ تعالى، مَن يَسّرَه اللهُ للخَير فليحمَدِ اللهَ ولا يأخُذْهُ العُجبُ بنَفسِه بل يَنظُر إلى أنّ اللهَ هوَ الذي قَدّرَه أن يَعمَلَ هذِه الحسَنات، فلَولا تَقديرُ اللهِ لما استَطاعَ أن يفعَل هذهِ الحَسناتِ فإنْ لاحَظَ أنّ هذا الخيرَ الذي يعمَلُه هو بتقديرِ اللهِ ابتَعَد عن الرِّيَاء وكانَ قَريبًا مِنْ حَالِ المُخلِصِين لأنّ الذي يَعمَلُ عَمَلا مِنَ الحَسناتِ بنِيّةٍ خَالصَةٍ للهِ ليسَ فيها رياءٌ فالقَليلُ عندَ الله تعالى يُجَازيْهِ بالكثِير، ذاكَ الذي أعطَى دِرهَما لَولا شِدّةُ يقِينِه وإخلاصِه للهِ تَعالى وهوَ نِصفُ ما يملِكُ وتخَلّى عنهُ لوجْهِ اللهِ تعالى، فاللهُ جَعلَ ثَوابَ هَذا الدِّرهَم أفضَلُ مِنْ ثَوابِ هَذا الذي تصَدّقَ بمائةِ أَلفٍ، فالفِعلُ على حسَبِ ما يُتقِنُه المسلمُ يكونُ ثَوابُه عندَ الله تعالى كبِيرًا، الإخلاصُ أصلُه الإتقانُ والشأنُ في حُسنِ النّيةِ لذلكَ عَظّم رسولُ اللهِ أَمرَ النِّيّةِ فقال: … ” لِكُلِّ امرئ ما نَوى ” العَملُ القَليلُ الذي فيهِ إخْلاصٌ عندَ اللهِ خيرٌ منَ الكَثيرِ الذي ليسَ فيه إخْلاصٌ.)