اللهُ تَعالى أَنزَلَ القُرءَانَ ءايات مِنهُ مُحكَمَاتٌ وءايات مِنهُ مُتَشابِهات المحكَمَاتُ هيَ التي مَعانِيها لا إشكَالَ فيها، والمتَشَابِهاتُ مَا فيها إشكَالٌ بأنْ تَكُونَ غَيرَ واضِحَةِ المراد بها، فمَدَح اللهِ تعالى الذينَ يَأخُذُونَ بالآياتِ المحكَمَاتِ ولا يَأخُذُونَ بظَاهِر المتَشَابِهات بل يَعتَقِدُونَ فيها مَعانيَ مُوافِقَةً للمُحكَمَات، فمِنَ المحكَمات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ} لأنّ مَعناها واضِحٌ وهوَ أنّ اللهَ لا يُشبِهُ غَيرَه مُطلَقًا، لا يُشبِهُ صِنفًا مِن أصنَافِ المخلُوقَاتِ بلا استِثنَاءِ شَىءٍ مِنها فدَلَّت هَذه الآيةُ على أنّ اللهَ ليسَ جِسمًا كثِيفًا ولا بجِسم لطِيف ودَلّت على أنّهُ تَعالى لا يتّصفُ بصِفاتِ الأجسَام الكثِيفَةِ واللّطِيفَةِ وذلكَ تَنزِيهٌ للهِ عن الحركَةِ والسّكُون اللّون والانفِعَال مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ وحُدُوث صِفَةٍ في ذَاتِه. ومِن صِفَاتِ الأجسَام حُدوثُ صِفَةٍ بَعدَ صِفَةٍ ومعنى ذلكَ أنّ اللهَ ذَاتُه أزليّ لا ابتداءَ لوُجُودِه لم يَسبِقْه العَدمُ وأنّ صِفَاتِه كذَلكَ كحَياتِه وقُدرَتِه ومَشِيئَتِه وسَمعِه وبَصَرِه وعِلمِه وكَلامِه فَلا مَشِيئَةَ للهِ إلا مَشِيئَة واحِدَة أبَديّة شَامِلَة لكُلّ مَا يَدخُلُ في الوُجُودِ وعِلمُه كذَلكَ عِلمٌ واحِدٌ شَامِلٌ لكُلّ شَىءٍ حَدَثَ أو سيَحدُثُ إلى ما لا نهايةَ لهُ، وقُدرَتُه قُدرَةٌ واحِدَةٌ أزَليّةٌ أبَديّةٌ شَامِلَةٌ لكُلّ مَا يَدخُلُ في الوجُود. وكذَلكَ سَمْعُه سمْعٌ أزَليّ أبَديّ يَسمَعُ الأصواتَ بسَمْع أزَليّ أبَديّ ليسَ بسَمْع يَحدُث عندَ حُدُوثِ الأصواتِ وبَصَرُه أي رؤيَتُه للأشيَاء للمَوجُودَاتِ رؤيَة أزليّة أبَديّة ليسَ تَحدُث عندَ رؤيَةِ المبصَرات. وكلامُه صِفَةٌ لهُ أزليّ أبَديّ ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا، على هَذا أهلُ السُّنّةِ الصّحَابَةُ ومَن بَعدَهُم. قالَ أبو حَنِيفَة وهوَ مِنَ التّابعِينَ وُلِدَ سَنةَ ثَمانِينَ مِنَ الهِجرَة في كتابه الذي ألّفَه في التّوحِيد إنّ اللهَ يَسمَعُ ويَرَى لا كَمَا نَسمَعُ ونَرَى، ونَحنُ نَتكَلَّمُ بالآلآتِ والمخَارج والحُروفِ واللهُ يتَكَلَّمُ بِلا ءالَةٍ ولا حَرفٍ. والقُرءَانُ الذي قَرأَه جِبريلُ على سَيّدِنا محَمَّدٍ ليسَ عَينَ كَلامِ الله الذي ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا، ليسَ عَينَه، وذلكَ كمَا لو كُتِب كَلِمةُ لفظ الجَلالَةِ على ورقَةٍ أو جِدَارٍ فقالَ قائلٌ مَا هَذا يُقَالُ لهُ اللهُ أي عِبارَةٌ عن الله ليسَ المعنى أنّ هَذه الأشكَالَ أشكَالَ الحرُوف هيَ عَينُ ذَاتِ الله، على هَذا المعنى يُقَالُ القُرءانُ كَلامُ الله، ليسَ على معنى أنّ اللهَ قَرأ القرءانَ بالحَرف والصّوت. يَدُلُّ على ذلكَ قَولُه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي أنّ القرءانَ شَىءٌ قَرأَه جِبريلُ لأنّه لو كانَ اللهُ قَرأَه على جِبريلَ بالحَرف والصّوت ما قالَ اللهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم بل لَقَالَ إنّه لَقَولي، ولا يُقَال القرءانُ مَخلُوقٌ لأنّه يُوهِمُ أنّ القُرءان بمعنى كلام اللهِ الذّاتي مَخلُوقٌ حَادثٌ،