قالَ ابنُ عَبّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُما في الخَوارج الذينَ كَفّروا سَيّدَنا عَلِيّا فدَعَاهُم إلى الرُّجُوع فأَبَوا فقَاتَلَهُم، “ءامَنُوا بمحْكَمِه وهلكوا عند متشابهه”ءامنوا بمحكمه أي القُرءان، الخَوارجُ فَسَّرُوا بَعضَ ءاياتِ القرءانِ على غَيرِ وَجهِها فهَلَكُوا، كَفَرُوا. فالتّأويلُ للآياتِ المتشَابهاتِ واجِبٌ إمّا بالتّفصِيلِ وإمّا بالإجمال فالتّأويلُ التّفصِيليُّ مِثلُ أنْ يُقَالَ في ءايَةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} قَهَرَ العَرشَ وتَأويلُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} بمجيءِ قُدرَتِه أي آثَارِ قُدرَتِه العظِيمَةِ وهذَا التّأويلُ التّفصِيليّ ثَبَت عن الصّحابةِ، وأمّا التأويلُ الإجماليُّ فهوَ كَأن يُقَالَ الرّحمنُ على العَرش استوى بلا كَيفٍ وجَاءَ رَبُّكَ بِلا كَيفٍ للهِ وَجهٌ بلا كَيفٍ للهِ عَينٌ بلا كَيفٍ للهِ يَدٌ بلا كَيفٍ، ومَعنى بلا كَيفٍ أنّه ليسَ على هَيأَةِ المخلوق، لأنّ وَجهَ المخلُوقِ وعَينَه ويدَه جِسمٌ فَمَن فَسّرَ الآياتِ المتشَابهاتِ على ظَواهِرها جَعَل اللهَ جِسمًا متّصِفًا بصِفاتِ الجِسم فهوَ لم يَعرفِ الله ولا يَعبُدُ الله، إنّما يَعبُدُ شَيئًا تَوهّمَه حَالًّا فَوقَ العَرش ولم يَردْ في القرءانِ ولا في الحديثِ أنّ فَوقَ العَرشِ جِسمًا مُستَقِرًّا علَيهِ إلا الكتَاب الذي كتَبَ اللهُ فيهِ “إنّ رَحمتي سبَقَت غَضَبي” هَذا الكتَابُ وَردَ فيه عن الرّسولِ صلى الله عليه وسلم حَديثٌ ثَابتٌ
(فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَيٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ:” إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي “أَيْ أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ، الْمَلائِكَةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ، وَالْجَنَّةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ. وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبِّانَ:” لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [مَعْنَاهُ وَعَدَ] وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي”
“إنّ اللهَ لَمّا قَضَى خَلْقَهُ” أي قَضَى العَالَم “كَتَبَه ووَضَعَه فَوقَ العَرش”، هذا الكتابُ فقَط يُوجَدُ فَوقَ العَرشِ، فالذينَ يَعتَقِدُونَ أنّ اللهَ مُستَقِرٌّ فَوقَ العَرشِ يَعبُدُونَ شَيئًا لا وُجُودَ لهُ إنّما شَىءٌ تَوهَّمُوه أنّهُ فَوقَ العَرشِ، اللهُ لم يُنَزّل القُرءانَ ليَهتَديَ بهِ كُلُّ مَن قَرأَهُ بل ليَهتَدِيَ بهِ مَن شَاءَ اللهُ لهُ الهدَى ويَهلِكَ بهِ مَن شَاءَ اللّهُ لهُ الضّلال كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} الذينَ كَانُوا يَسمَعُونَه مِنَ الرّسول مِنَ المشركين فلَم يؤمنوا بهِ وكَذّبُوه هؤلاء هلَكُوا بهِ والذينَ صدّقُوه واتّبَعُوا الرّسُولَ فآمَنُوا باللهِ على ما يَلِيقُ بهِ سَعِدُوا صَارُوا مُهتَدِينَ سُعَداءَ. فهؤلاء المشَبّهَةُ المجَسّمَةُ يقُولُونَ المؤَوّلُ مُعَطِّلٌ يُرِيدونَ بذلكَ تكَفِيرَ مَن لا يَقُولُ إنّ اللهَ قَاعدٌ على العرش هذَا عِندَهُم مَؤَوِّلٌ كَافرٌ وهم أهلُ السُّنّةِ، أهلُ السُّنّةِ يقُولونَ اللهُ استَوى على عَرشِه لا كاستِواءِ المخلُوقِينَ الجُلوسِ والاستِقرَارِ هؤلاءِ سَمَّوا أهلَ السُّنّةِ كُفّارًا ومعَ ذلكَ هُم يؤوّلُونَ الآياتِ التي ظَواهِرُها أنّ اللهَ في الأرضِ ولا يجُوز اعتِقَادُ ذلكَ. هَذه الآيةُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ظَاهرُها أنّ اللهَ معَ البَشَر يتَجَوَّلُ حَيثُما يتَجَوَّلُوا ولا يَجُوز أن يكونَ هَذا مَعناهَا هؤلاء المشَبّهَةُ يأوّلُونَ هذه الآياتِ لا يقُولُونَ اللهٌ يتَجَوَّلُ مَعَنا حَيثُما تجَوّلْنَا فَهُم في هذا أَوَّلُوا هُم متَأَوّلُونَ ومِن عمَايَتِهم يُطْلِقُونَ هَذه العِبَارَةِ المأَوِّلُ مُعَطِّلٌ، التّأويلُ الذي هوَ حَقٌّ جَعَلُوهُ كُفرًا.