الله خالق كل شيء
خالق الأسباب والمسبَّبات
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وءال كلٍّ والصّالحين وسلام الله عليهم أجمعين وبعد فإن أعظم العلوم وأنفعها ما يعود إلى معرفة الله ورسولِه، ما يُعرفُ به الله ورسولُه وما يُعرفُ به سائرُ أصول العقيدة لذلك سمى أبو حنيفة رضي الله عنه علم التّوحيد الفِقْه الأكبر، له في علم التوحيد خمسُ رسائل إحداها الفقه الأكبر ثم معه كتاب العالِم والمتعلّم ثم كتابُ الوصيّة ثم كتاب الفقه الأبسط ثم رسالةٌ أخرى تُسمَّى رسالةَ عثمانَ البَتّي، هذه الرسائلُ الخمس هي من تآليف أبي حنيفة وتسميته لكتابه هذا الذي هو في العقيدة أي في معرفة اللهِ ورسوله وما يتبع ذلك من أصول العقيدة الفِقْهَ الأكبَر دليلٌ ظاهر على أن علمَ العقيدة أشرف من علم الأحكام المسَمَّى بالفقه ثم من أهمِ مسائلِ علمِ العقيدة مسألة خلقِ أفعالِ العباد لأنّ الناسَ فيها على طرفين ووسطٍ فالطّرفان هالكان والناجي هو الوسط وبيانُ ذلك أن أهلَ الحقّ وهم الصحابةُ ومن تبعهُم بإحسان لم يحد عمّا كانوا يعتقدونه إلى غيره أنَّ الله تباركَ وتعالى هو خالقُ كلِ شىء، هو خالقُ أعمال العباد حركاتهم وسكناتهم كما أنّه خالق أجسادهم لا فرق عند أهل الحقّ بين أجسادنا وبين أعمالنا من حيث إنّ كلاً خلقٌ لله تعالى أجسادُنا خلق الله فكذلك أعمالنا أي حركاتُنا وسكناتُنا خلْقٌ لله تعالى لا نخلُق شيئاً من ذلك فأجسادنا ليست مكتسبَةً لنا لا تدخل تحت كسبِ العباد لكنّ أعمالَنا أي حركاتِنا وسكناتِنا داخلةٌ تحت أكسَابنا أي لنَا فيها كَسْب أمّا من حيثُ الخَلْق أي الاحداث من العدم إلى الوجود فهي لله تباركَ وتعالى ليس لنا من ذلك شىء لسْنا مؤثّرين بإيجادها اشتراكا مع الله ولا مستقلّين بإيجادها وتكوينها، حركاتنا وسكناتنا لسنا خالقين لها استقلالاً ولسنا خالقين لها مشاركةً مع الله، بل الله تعالى هو المنفرد بإيجاد حركاتنا وسكناتِنا هذا معتقد أصحاب رسول الله لم يكن بينهم اختلاف في ذلك ثم تبعهم على ذلك جمهور المنتسبين إلى الإسلام ولم يَشِذَّ عن ذلك أي عن هذا المعتقد الذي هو اعتقاد الصحابة إلا طائفتان تنتسبان إلى الإسلام أي تدّعيان ادّعاءً وهم في الحقيقة ليسوا من أهل الإسلام لا حظّ لهم في الإسلام، وأحد هاتين الفِرقتين يقال لها القدريّة ويقال لها المعتزلة والأخرى يُقال لها الجهمية ويقالُ لها الجبريّة. هاتان الفرقتان المعتزلة والجبرية هما الطرفان المخالفان لأهل الحق الذين هم الوسط فليحذر العاقل من الميل إلى إحدى هاتين الفرقتين اللتين هما طرفان وهما في الحقيقة ليس لهما نصيب في الإسلام وإن انتسبا إليه انتساباً وزعمتا أنهما على الهدى. كلٌّ من الفرقتين تزعم انها على الهدى وأنها هي الطائفة المسلمة ومن سواها ليسوا على شىء.
ثم أهل الحق الذين هم الوسط لهم أدلة قرءانية ولهم براهين عقلية، فمن ادلتهم القرءانية قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [سورة فاطر ءاية 3].
الله تبارك وتعالى أطلقَ هذه الآية إطلاقاً لم يقيّدها بالأجسام ولا بالأعمال فأفهمتنا أنه تبارك وتعالى هو خالق الأجسام الصغيرة والكبيرة من العرش إلى الذّرّة، وأنّه هو خالق الحركَات والسَّكنات والنّوايا والإدراكاتِ والعلوم كلُّ ذلك الله خالقُه لا خالق سواه. هكذا تعطي هذه الآية {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [سورة فاطر ءاية 3].
كذلك قولُه تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} [سورة الزمر ءاية 62] لأنّ كلمةَ شىء تشمَل الأجرام أي الأجسام والحركات والسكنات والإدراكات والعلوم فإدراكات البشر وغيرِهم من الخلق وعلومُهم مخلوقة لله ليست مخلوقةً للعباد وإن كان ظاهراً يُنْسَب إلى العبد يقال فلان حصَّل علوماً والمعنى عند أهلِ الحق في ذلك أنّه اكتسب نيْلَ هذه العلوم فنالها بخلق الله لا بخلق العبد نفسه كذلك الأسباب العاديّة عند أهل الحقّ لا تخلق شيئاً والأسباب العادية هي هذه الأمور التي جعل الله تبارك وتعالى فيها السَّببيَّة بشىءٍ من الأشياء الماء جعله الله تعالى سبباً للرِّيِّ والخبزُ جعلَه الله سببًا للشِّبع والنارُ جعلها الله تعالى سببًا للإحراق والدواء جعله الله تعالى سببًا للشّفاء ولم يجعلِ الله تعالى هذه الأسبابَ خالقةً للمُسَبَبَّات التي تحدث بعد مباشرتها، الرِّيُّ الذي يحصل بعد شُرب الماء ليس الماءُ يخلُقه كذلك الشِبَع الذي يحصل إثرَ تناول الخبز ليس الخبزُ يخلقُه والشّفاء الذي يحصل إثر تناول الدواء ليسَ الدَّواء يخْلُقُه، فهذا الذي يكون موافقاً للقرءان لأنّ الله تبارك وتعالى لمّا قال: {الله خالق كلِّ شىء} أفهَمنا أنَّ كلَّ هذه الأسباب لا تخلق شيئاً بل الله هو الذي يخلق هذه المسَبَّبات عند تناولها، ونصَبَ الله تبارك وتعالى لعباده دليلاً يَدُلُّ على أن هذه الأسباب لا تخلُق مُسبَّباتها، يوجد حيوانٌ يقال له سَمَنْدَل هذا الحيوانُ يتلذَّذ بالنّار ولا تحرقُه ولا تؤثّر فيه وهو مثلُ غيرِهِ من الحيوانات مركبٌ من لحم ودم، حتّى إنّ الفِراء والمناديل المُتَّخذةَ من جلده إذا اتّسَخَت تُطْرَح في النار وحتّى إنّه يُغمَسُ في الزّيت ويُشْعَل ناراً ثم لما ينتهي الزّيت تنطفئ النارُ وتبقَى هذه المناديل وقد ذهب عنها الوسَخ ولم تحترق هذا جعله الله تعالى دليلاً لنا على ان النارَ لا تخلق الإحراق بل الله تعالى هو الذي يخلقُ الإحراق إثرَ ملامسَة النار، أي أن النّار لا تخلق الإحراق بطبيعتها وانّها لا تؤثّر بطبعها في الإحراق أي بدون إرادة الله وخلق الله تعالى لهذا الإحراق، فالله تعالى هو الذي يخلق الإحراق، ليست النار تخلق الإحراق.
وكذلك قصة إبراهيم الخليل عليه السلام دليل على ان النارَ لا تخلق الإحراق لو كانت النار تخلق الإحراق وأنّها بطبيعتها تؤثّر في ذلك لا بمشيئة الله وإرادته لاحترق إبراهيمُ وما خرج سالماً، وإلى وقتنا هذا يوجَد أناسٌ مؤمنون أتقياء أولياء لله تعالى يدخلون النار الموْقَدة فلا تحرقهم ولا ثيابهم يمكثون فيها ما شاء الله، حكى لنا أحدُ شيوخِنا وهو الشيخ محمد سراج رحمه الله تعالى قال كنتُ بالسُّودان في ناحية تُسَمَّى حَلْفا فحصل اجتماع حضره أناسٌ وحضَرَه شخصٌ ينتسب للطريقة القادريّة وشخصٌ ءاخر ينتسب للطريقة التجّانية الشخص المنتسب للطريقة التجانية مُدَّعٍ فارغٌ تبجّح بطريقتِه لأنه تجانيُّ فصار يدعو الناس في هذا المجلس إليها ليدخلوا في هذه الطريقة فاغتاظ هذا الرّجل القادريّ وهو من أولياء الله، غَضِبَ لله تباركَ وتعالى لأنه يعلم أن هذه الطريقة التجانية مخالفةٌ لشريعة الله وفيها دعَاوَى ما أنزلَ الله بها من سلطان من جملتها أنهّم يقولون الواحد بمجرّد ما يأخُذُ طريقتَنا صار افضلَ من القطب من غيرنا، هنا خالفوا كتابَ الله، الله تعالى قال: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات ءاية 13] هذه الطريقة جعلَتِ الفضلَ بالانتساب إليها ليس بالتقوى، فهذا القادري الذي هو من أولياء الله غضب لله تعالى لأنه وجد هذا يدعو لطريقته الفاسدة فقال لأهل الضيعة يا جماعة امتحنونا ومعروف في تلك البلاد أن الامتحان قد يكون بإيقاد نارٍ عظيمةٍ ثم دخولِ الشخص المُمتَحن فيها فأوقدوا ناراً عظيمة، القادريّ الذي هو من الصادقين من أولياء الله من أهل الكرامات جاءته إشارة أنّ هذه النار لا تؤثّر فيه فدخل فيها فنادى وهو في وسطها هذا التجانيَّ الدّجال قال له تعال ادخل فلم يجرؤ، خرج من هذه القرية وهو مَخْزِيّ، فعرفَ الناسُ أن هذه الطريقة ليست على شىء وأن المنتسبينَ لها كاذبون ليسوا من أولياء الله فهذا الصوفي القادري لم يحترق، وغيرُ ذلك حصل لخلائِقَ لا يُحْصَون انّهم دخلوا النارَ فلم يحترقوا فهذا دليل نصَبَهُ الله تعالى ليزدادَ المؤمِن إيقاناً بأن الله تعالى هو خالق كل شىء هو خالق الاحتراق إثر مماسّة النار ليست النارُ تخلُق الاحتراق، كذلك السَّمُّ الذي هو من شأنه أنّه يقتُل مُتَنَاوِلَهُ في الحال ليس هو خالقَ الموت إثر تناوُلِه بل الله تعالى هو يخلقه فإن لم يشأ الله تعالى في الأزل أن يموت شخصٌ بتناوله للسَّمّ القاتل لا يقتُلُه هذا السَّم لأن الله لم يشأ والسّم لا يؤثّر بطبْعِه الموتَ لمتَناوِله، هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان بالحِيْرَة وهناك كان كفَّارٌ من كُفّار العجَم فهيَّأوا له سَمًا قاتلاً لسَاعتِه فقال لهم هاتوا فتناولَه وسمَّى الله تعالى فلم يؤثّر فيه شيْئًا بل سالَ العرق على وجهه، على جبهته فلمّا شاهدُوا ذلك أي أنه لم يُمت من هذا السَّمّ هابوه فانقادوا له، هذه دلائل عِيانيّة نصبَها الله تعالى لعباده حتى يزداد المؤمنون إيقاناً بأنه لا خالق إلا الله أي أن الأسبابَ العادية الماءَ والخبزَ والنارَ والدواءَ وغيرَ ذلك من الأسباب العاديّة لا تخلُق مُسبَّباتها وانه لا ضارَّ ولا نافع على الحقيقة إلاّ الله، أي أن شيئاً من الأشياء من الأسباب العاديّة لا يظْهَر منها مسبّباتها إلا أن يكونَ الله شاءَ في الأزل أن يحصُلَ المسبَّب إثر هذا السَّبَب لأنّ السّببَ لا يخلُق ذلكَ المسَبَّبَ إنّما الله هو خالق ذلك المسبّبِ زيادةً في الإيقان بأن الله تعالى هو خالق كلّ شىء وأنَّ الأسباب العاديَّة لا تخلُق إنما الله تعالى يخلق إثر استعمال ذلك المُسَبَّب، فالله تبارك وتعالى قال: {الله خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ} [سورة الزمر ءاية 62] وكلمة شىء ليست خاصة بالأجسام، الكلام يقال له شىء والبَطْشُ أيضاً باليد شىء وتناولُه يقال له شىء واللمح بالبصر يقال له شىء. حتى الأعمال القلبية لها شىء، كلُّ ما دخل في الوجود يقال له شىء، وكلّ موجود أيضاً يقال له شىء. الموجود الأزلي يقال له شىء وهو الله، الله تعالى يُقال له شىء لكن لا بمعنى الحادث الذي دخل في الوجود، بل بمعنى الموجود.اهـ