على مدار أكثر من 128 سنة مضت، لم يتخلف كثير من أهالي مدينة طرابلس وغيرها من المدن القريبة من بلاد الشام، عن عادتهم المباركة في زيارة شعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم في آخر يوم جمعة من شهر رمضان المبارك، إذ يتوافد الشيوخ والكبار والصغار رجالاً ونساء إلى الجامع المنصوري الكبير في طرابلس الشام، للتبرك بشعرة النبي وتقبيل هذا الأثر الشريف في مرتين، الأولى عقب صلاة فجر يوم الجمعة والثانية عقب صلاة الجمعة مباشرة.
واقترنت هذه العادة عند المسلمين في لبنان بالمناسبات الدينية فتجدهم يملؤون المسجد الجامع في آخر جمعة من رمضان وفي المولد النبوي الشريف وغيرهما من المناسبات التي يتم فيها إخراج هذا الأثر الكريم وعرضه أمامهم ليقوموا بتقبيله والتبرك بذكر النبي صلى الله عليه وسلم على وقع الابتهالات والمدائح النبوية، والتضرع إلى الله بقراءة القرآن والدعاء.
ويصطحب الآباء والأمهات أبناءهم وبناتهم معهم لتلفحهم نسمات بركة شعرة النبيّ، وأيضاً ليتشبعوا بهذه العادة حتى تترسخ في أذهانهم وفي ثقافتهم وبذلك تقربهم من دينهم ومن عاداتهم الاسلامية العريقة، وتحفظ أصالة أهالي طرابلس وهويتهم التي تمثل العادات الرمضانية والتقاليد الاسلامية جزءاً لا يتجزأ منها.
رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس خالد تدمري أشار إلى أن زيارة الأثر النبوي الشريف في مدينة طرابلس “حدث ديني تنفرد به طرابلس عن سائر المدن اللبنانية وحتى بلاد الشام”، وقال “قرر السلطان عبدالحميد رحمه الله أن يرسل هذا الأثر المتمثل في شعرة واحدة من لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، محفوظة داخل أنبوب زجاجي، معلقة ومثبتة بالشمع الأحمر المغلف بالعسل والعنبر، مغلقة بهلال ذهبي، كتب عليه أنها شعرة من لحية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت محفوظة في جناح الأمانات المقدسة في قصر طوب كابي في إسطنبول”.
أما باسم قدور، أحد المواطنين الذين توافدوا لزيارة الأثر الشريف، فيقول إنه “من الجميل أن نتبرّك بهذه الشعرة النبوية الشريفة”، مؤكدا “أنه منذ الصغر ووالدي يأتي بنا إلى هنا لنتبرّك، ونسأل الله أن يرزقنا زيارة النبي صلى الله عليه وسلم”.
زيارة الأثر النبوي الشريف في مدينة طرابلس حدث ديني تنفرد به طرابلس عن سائر المدن اللبنانية وحتى بلاد الشام.
والأثر الشريف المتمثل في شعرة النبي محفوظ في الجهة الجنوبية الغربية من الرواق الغربي في خلوة آل الميقاتي في الجامع المنصوري الكبير بطرابلس، التي كانت قديما موضع مكتبة المسجد، وصارت تعرف الآن بغرفة الأثر، ويجلس فيها القراء والحفظة ويتلون القرآن الكريم بعد صلاة العصر طوال أيام شهر رمضان، ويختمونه في اليوم التاسع والعشرين بحضور مفتي المدينة وعلمائها ومشايخها.
وبحسب المؤرخ اللبناني عمر عبدالسلام تدمري، فإن السلطان العثماني عبدالحميد خان الثاني “أهدى أهل طرابلس شعرة من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، تقديراً لولائهم للدولة العليّة”، مشيراً إلى أن ”هذه الهدية وضعت في علبة من الذهب الخالص، وأرسلت مع أحد الباشوات في فرقاطة خاصة إلى طرابلس″. وكان ذلك تحديداً عام 1889 رومية بعد تجديد بناء جامع الحميدي، المعروف قديما بجامع التفاحي، في طرابلس.
وعندما وصلت الشعرة إلى ميناء طرابلس، خرج أهالي المدينة لاستقبالها، في ظل فرحة عارمة عمّت المدينة بأسرها، وعندما نزل حامل العلبة وفيها الأثر الشريف، تناولها منه مفتي المدينة ووضعها على رأسه وحملها إلى الجامع الكبير”.
وأشار تدمري إلى أن “الأثر الشريف كان مُهدى في الأصل ليوضع في جامع الحميدي، ولكن الشيخ علي رشيد الميقاتي أقنع رجالات البلد بأن يوضع في الجامع المنصوري الكبير لكونه أكبر مساجد طرابلس. وهكذا شهد الجامع الكبير احتفالا حضره آلاف المسلمين من أنحاء طرابلس ومدن قضائها وقراه، للتبرك برؤية الأثر الشريف وتقبيله، وظلت شوارع المدينة مزينة 7 أيام، والموالد الشريفة تُقرأ في المآذن والبيوت احتفالا بوصول شعرة النبي.
وتعد زيارة الجامع المنصوري الكبير بطرابلس للتبرك بشعرة النبي من أهم العادات التي اقترنت برمضان لدى أهل طرابلس بدرجة أولى، وهي من بين سمات شهر الصيام لديهم وأحد أبرز المزارات والمقاصد التي يحرصون على زيارتها في مناسبة سنوية وفرحة متجدّدة، وهذا من نفائس الاسلام.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مظاهر الاحتفاء برمضان لدى البنانيين مختلفة من منطقة إلى أخرى، إلا أن معظمها يكون في المساجد والزوايا والتكايا الصوفية، حيث تقام مجالس العلم والدعاء وتلاوة القرآن الكريم