*قال الإمام الهرريّ رضي الله عنه*:
الصِّيَامُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَهُ علَى البَالِغِينَ والبَالِغَاتِ العَاقِلِينَ أَي مِن ذَوِي العُقُولِ، وَقَد جَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ مَبْدَأً وَمُخْتَتَمًا.
أَمَّا مَبْدَأُهُ فَهُوَ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَمَنْ لَم يَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ عَدَدَ شَعْبَانَ بِحَسَبِ الهِلَالِ اكْتَمَلَ ثَلاثِينَ يَوْمًا يَبْدَأُ، لأَنَّ الشَّهْرَ القَمَرِيَّ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ، الرَّسُولُ قَالَ: *”شَهْرٌ هَكَذَا وَشَهْرٌ هَكَذَا وَشَهْرٌ هَكَذَا”* ، فِي الثَّالِثَةِ خَنَسَ إِبْهَامَهُ، مَعْنَاهُ شَهْرٌ يَنْقُصُ يَوْمًا، إنْ نَقَصَ الشَّهْرُ يَنْقُصُ يَوْمًا وَاحِدًا يَكُوْنُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَي أَنَّ الشَّهْرِ القَمَرِيَّ الذِي تَدُورُ عَلَيْهِ أُمُورُ العِبَادَاتِ أُمُورُ الحَجِّ وَأُمُورُ الصِّيَامِ وأُمُورُ الوَقْفَةِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ هُوَ الشَّهْرُ العَرَبِيُّ القَمَرِيُّ الذِي هُوَ مِنَ الهِلَالِ إِلَى الهِلَالِ، هذَا يُقَالُ لَهُ شَهْرٌ قَمَرِيٌّ.
فَمَن رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيهِ أَنْ يَصُومَ وَلَو كَانَ هُوَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ إِنْسَانًا جَاهِلاً مُسْلِمًا فَاسِقًا. أَمَّا إِذَا رَأَى إِنْسَانٌ مُسْلِمٌ عَدْلٌ أَيْ دَيِّنٌ تَقِيٌّ يَشْهَدُ عِنْدَ القَاضِي الشَّرْعِيِّ يَقُولُ: أَشْهَدُ باللهِ أَنِّي رَأَيْتُ هِلَالَ رَمَضَانَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، فَيُثْبِتُ القَاضِي الصِّيَامَ، يَحْكُمُ بِثُبُوتِ الصِّيَامِ، فَكُلُّ النَّاسِ الذِينَ بَلَغَهُم إِثْبَاتُ القَاضِي صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِم أَنْ يَصُومُوا كَأَنَّهُم رَأَوْا بِأَعْيُنِهِم.
ثُمَّ فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ هذَا الحُكْمُ يَنْتَشِرُ إِلَى أَيِّ بَلَدٍ وَصَلَ إِلَيْهِ خَبَرُ الِإثْبَاتِ، يَنْتَشِرُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، كُلُّ النَّاسِ الذِينَ سَمِعُوا لَو كَانُوا فِي أَقْصَى الشَّرْقِ أَو فِي أَقْصَى الغَرْبِ لَا يَخْتَصُّ بالبَلَدِ الذِي شُوْهِدَ فِيهِ الهِلَالُ بَل يَعُمُّ، فَمَن بَلَغَهُ الإِثْبَاتُ مِن هؤُلَاءِ صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِم أَنْ يَصُومُوا، هذَا فِي بَعْضِ المَذَاهِبِ. أَمَّا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِذَا رُئِيَ الهِلَالُ فِي بَلَدٍ يَعُمُّ حُكْمُهُ البِلَادَ القَرِيبَةَ مِن هَذَا البَلَدِ.
نَحْنُ الآنَ بِمَا أَنَّنَا فِي (لُبْنَانَ) بَلَدٍ فِي الغَالِبِ لا يُرَى فِيهِ هِلَالُ رَمَضَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ (لكن ترائي الأهلة أي مراقبتها عند أوّل شهر عربيّ فرضُ كفاية على أهل كلّ ناحية) نَأْخُذُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ مَتَى مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أُثْبِتَ فِي بَلَدِ كَذَا هِلَالُ رَمَضَانَ عِنْدَ القَاضِي الشَّرْعِيِّ نَصُومُ، نَأْخُذُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَذْهَبِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فالأَمْرُ بالنِّسْبَةِ للصِّيَامِ مَنُوْطٌ بِرُؤْيَةِ الهِلَالِ أَو بِاسْتِكْمَالِ عَدَدِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ يَوْمًا، وَعَدَدُ شَعْبَانَ اسْتِكْمَالُهُ أَيْضًا ثَلاثِينَ يَوْمًا يَكُونُ مُتَوَقِّفًا علَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَعْبَانَ وَلَيْسَ علَى التَّوْقِيتِ الفَلَكِيِّ، التَّوْقِيتُ الفَلَكِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ فِي المَذَاهِبِ بَل وَغَيْرِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الفَلَكِيِّينَ وَقَوْلِ الرُّزْنَامَاتِ، الذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا وَيَبْدَأُ بِصِيَامِ رَمَضَانَ حَرَامٌ.
الرُّزْنَامَاتُ لَا تُعْتَمَدُ (لمعرفة بداية رمضان وغيره من الأشهر العربية) لأَنَّها خِلَافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ، الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: *”صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ”* هَكَذَا قَالَ الرَّسُولُ.
الرَّسُولُ هُوَ صَاحِبُ الشَّرْعِ لَيْسَ الرُّزْنَامَةَ وَفُلَانًا وَفُلانًا أَو فُلَانًا هُم أَصْحَابُ الشَّرْعِ ! وَلَا سِيَّمَا أَكْثَرُهُم فُسَّاقٌ هَؤُلاءِ الذِينَ يُخْرِجُونَ رُزْنَامَاتٍ.
اسْتِكْمَالُ هِلَالِ شَعْبَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً علَى رُؤْيَةِ هِلَالِ شَعْبَانَ لَيْسَ علَى حِسَابِ الفَلَكِيِّينَ، لَا يَجُوزُ الاعْتِمَادُ علَى قَوْلِ الفَلَكِيِّينَ لإِثْبَاتِ الصِّيَامِ والإِفْطَارِ أَيْ إِنْهَاءِ عَدَدِ صِيَامِ رَمَضَانَ، لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِم، لَا يُعْتَمَدُ عَلَى كَلَامِهِم وَلَا يُبْدَأُ الصَّوْمُ بِنَاءً علَى كَلامِهِم، فَنَحْنُ نَتَتَبَّعُ خَبَرَ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ بِبَلَدِ كَذَا أَثْبَتَ القَاضِي الشَّرْعِيُّ صِيَامَ رَمَضَانَ نَبْدَأُ اهـ.