ليعلم أن مما أكرمَ اللهُ به نبيَّهُ في المعراجِ أن أزالَ عن قلبِهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ الحجابَ المعنويَّ، فرأى اللهَ بفؤادِهِ، أي جَعَلَ اللهُ لَهُ قوةَ الرؤيةِ في قلبِهِ لا بعينِهِ لأنَّ اللهَ لا يُرى بالعينِ الفانيةِ في الدُّنيا، فَقَدْ قَالَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: “واعلمُوا أنكم لن تَرَوْا ربَّكمْ حتَّى تمُوتُوا”.
وإنما يُرى اللهُ في الآخرةِ بالعينِ الباقيةِ، يراهُ المؤمنونَ الذينَ ءَامنوا باللهِ ورُسُلِهِ، لا يشبِهُ شيئًا من الأشياء، بلا مكانٍ ولا جهةٍ ولا مقابلةٍ ولا ثبوتِ مسافةٍ ولا اتصالِ شُعَاعٍ بين الرائي وبينَهُ عزَّ وجلَّ.
يرى المؤمنونَ اللهَ عزَّ وجلَّ لا كما يُرى المخلوق، فقد روى البخاريُّ وغيْرُهُ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، قالَ: “أما إنكم ترونَ رَبَّكُمْ يومَ القيامةِ كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تضامُّونَ في رؤيتِهِ”، معناه لا تشكُّون أن الذي تَرَوْنَ هو اللهُ كما لا تشكونَ في قمرِ ليلةِ البدرِ، ولا يعني أن بينَ اللهِ تعالى وبينَ القمرِ مشابهةٌ. قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ [سورة القيامة].
أما الكفارُ فلا يرونَ اللهَ في الدنيا ولا في الآخرةِ وهم مخلدونَ في نارِ جهنمَ، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنِّهُمْ عَن رَبِِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [سورة المطففين/15].
والدليلُ على أن الرسولَ رأى ربَّهُ بفؤادِهِ مرتينِ في المعراجِ ما أخرجه مسلمٌ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنه في قولِهِ تعالى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [سورة النجم/11] ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سورة النجم/13] قال: رءَاهُ بفؤادِهِ مرتينِ.
وبهذِهِ المناسَبةِ تجدرُ الإشارةُ إلى أنهُ لم يحصلْ للنبيِّ أن رأى ربَّهُ وكلمَهُ في آنٍ واحدٍ بل كانت الرؤيةُ في حالٍ وسماعُ كلامِهِ بلا كيف ولا صوت ولا حرف في حالٍ، قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا﴾ [سورة الشورى/51].
وكان صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ قَد رَأى جِبريلَ عليه السلامُ في المرةِ الأولى في مكةَ على هيئتِهِ الأصليةِ، فَغُشيَ عليهِ، أمَّا في هذِهِ الليلةِ المباركةِ فقدْ رءَاهُ للمرةِ الثانيةِ على هيئتِهِ الأصليةِ فلمْ يُغْشَ عليهِ إذْ إنَّهُ ازدادَ تَمَكُّنًا وقُوّةً. فقد روى مسلمٌ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عَنْهَا في قَولِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)﴾ [سورة النجم/]، قالت: إنما ذاكَ جبريلُ (جبريل هو من دنا وتدلى) كانَ يأتيهِ، وإنهُ أتاهُ في هذهِ المرةِ في صورتِهِ التي هي هيأتُهُ الأصليةُ فَسَدَّ أُفُقَ السماءِ. وليسَ معنى هاتينِ الآيتينِ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9)﴾ [سورة النجم] أنَّ الله دنا منَ الرسولِ حتى قربَ منهُ بالمسافةِ قَدْرَ ذراعينِ أو أقلَّ، والذي يعتقدُ هذا يضِلُّ ويَكفر.
أما المعنى الصحيحُ فهو أنَّ جبريلَ دنا منْ سيدِنا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ (فَتَدَلَّى) أي جبريلُ في دنوِهِ مِنْ سيدِنا محمدٍ (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ) أي ذراعين(أَوْ أَدْنَى) أي بلْ أقربَ. وهناكَ ظَهَرَ جبريل للنبي بهيأتِهِ الأصليةِ وله سِتُّمائةِ جناحٍ، وكلُّ جناحٍ يَسُدُّ ما بين الأرضِ والسماءِ.
وروى مسلمٌ عن الشَعْبِيِّ عَن مَسْرُوق قال: كنتُ مُتَّكِئًا عندَ عائشةَ فقالتْ: يا أبا عائشةَ ثلاثٌ مَنْ تكلمَ بواحدةٍ مِنهنَّ فقد أَعْظَمَ على اللهِ الفِريَةَ، قلتُ: مَا هُنَّ؟ قالت: مَنْ زَعَمَ أَنَّ محمدًا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، رأى ربَّهُ فقدْ أعظمَ على اللهِ الفِرْيَةَ، قال: وكنتُ متكئًا فجلستُ فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ أَنْظِرِيني ولا تَعْجَليني، ألم يَقُلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ رَءاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، فقالت: أنا أوّلُ هذهِ الأمةِ سألَ عَنْ ذلكَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم فقالَ: “إنَّمَا هو جبريلُ لَمْ أَرَهُ على صورتِهِ التي خُلِقَ عليها غيرَ هاتينِ المرتينِ، رأيتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السماءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بينَ السماءِ والأرضِ”، فقالت: أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ يَقولُ: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [سورة الأنعام] أوَ لَمْ تَسمعْ أَنَّ اللهَ يقولُ: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنِّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [سورة الشورى/51]، قالت: ومَنْ زَعَمَ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شيئًا من كتابِ اللهِ فقدْ أعظَمَ على اللهِ الفِرْيَةَ، واللهُ يقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ [سورة المائدة/67]، قالت: وَمَنْ زَعمَ أنَّهُ يُخْبِرُ بما يكونُ في غَدٍ فقدْ أعظمَ على اللهِ الفِرْيَةَ. واللهُ يقولُ: ﴿قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [سورة النمل/65] أي لا يعلمُ الغيبَ كلَّه إلَّا اللهُ، وهذا فيه رَدٌّ على القائلينَ أنَّ الرسولَ يعلَمُ كل ما يعلَمه اللهُ، وهؤلاءِ ساووا الرسولَ باللهِ عزَّ وجلَّ، واللهُ تعالى لا يُساويهِ أحدٌ من خَلْقِهِ في صِفةٍ من صِفاتِه فهو وحده العالِمُ بكلِّ شىءٍ والقادرُ على كلِّ شىءٍ لا يشاركُهُ في ذلك ولا في سائر صفاته أحدٌ من خَلقِه كائنًا من كان.