الغنية في اعتقاد أهل السنة،
قال علماء الأشعرية: العالَمُ جوهرٌ أو عَرَضٌ، والله خالق ذلك كله. قالوا: لا يخلو هذا العالم من أن يكون جوهراً وهو أساس الأجسام كثيفها كالحجر ولطيفها كالروح، أو عرَضاً وهو صفة الجسم كطوله وعرضه (بسكون الراء) ولونه ورائحته وطعمه في ما له رائحة وطعم، هذه يقال لها أعراض لأنها تأتي وتذهب، تتغير أحوالها. قال الفيومي: والعرَض كحُمرة الخجل وصُفرة الوَجَل أي الخوف.
والجوهرُ ما له حَجمٌ وهو قِسمانِ: – قسمٌ مُتَناهٍ في القِلَّةِ بحيثُ لا ينقسِمُ ويقال له الجوهر الفرد. وهذا الجزء صغير جداً بحيث لا يتجزأ، – وقسمٌ ينقسِمُ ويسمَّى جسمًا. وأما العَرَضُ فهو ما كانَ صفةً للأجسام كحركتها وسكونِهِا وتَحَيُّزِها في مكان وكيفيّـتها وحدودها ونهايتها وغايتها من حيث الأطراف.
وإذا علمنا ذلك وعلمنا تنزّه الله عن أن يكون جسماً أو صفة للجسم، أيقـنّا بلا شك أن الله تعالى منزَّهٌ عن الكَمّيةِ والكَيفيةِ والحجم، ولا شىءَ سوى الله تعالى كذلك.
وأما نظرية الفلاسفة في الهيولى فهي نظرية فاسدة باطلة يريدون منها نفي وجود الخالق بالاختيار، يقولون العالم مع الله في الأزل، وهذا كفر، يقولون الخالق أزلي وكذلك المخلوق أزلي وهذا تناقض. كيف يكون المخلوق أزلياً؟!! كلامهم هذا متناقض والعقل السليم لا يقبله. هذا مخلوق معناه هذا محدَث بعد أن لم يكن، (ومحدَث هنا بفتح الدال).
وقولُ أهلِ الحقّ إنَّ الله منزَّهٌ عن الحدّ والحجم والكمية هذا معناه، لأنَّ الله لو كان جوهرًا فَردًا لكانَ الجوهرُ الفردُ مِثلاً له وهذا مستحيل في العقل، ولو كانَ الله جسماً زائِدًا على ذلك إلى حَدّ أكبرِ الأجرامِ وهو العرشُ، أو أَزيَدَ إلى قَدر له نهاية أو إلى قَدرٍ يُفتَرَضُ أنه لا يَتَنَاهَى، لَلَزِمَ كونُه تعالى مؤلفًا مركَّبًا من أجزاء كثيرة، والشيء المؤلَّفُ (بفتح اللام) يحتاجُ إلى من ألّفه وركّبه، والمحتاجُ إلى غيرِهِ يكون مخلوقاً بلا شك، وهذا من نفائس الاسلام. وهذا معنى قول عليّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهُ: “مَن زَعَمَ أن الله تعالى محدودٌ فقد جَهِلَ الخالقَ المعبودَ” رواه الحافظ أبو نُعَيم. وهو ما رواه بالإسنادِ المتَّصلِ الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزَّبيدِيُّ في الاتحاف شرح الغزالي عن الامام زين العابدين عليّ بن الحسينِ بنِ الامام عليّ رضيَ الله عنهُم قال: “إنَّ الله ليسَ بمحدودٍ” أي منزّه عن الحدّ صغيره وكبيره. قال الامام مالك رضي الله عنه في تفسير الآية “الرحمن على العرش استوى”: ”والكيفُ غير معقول” رواه البيهقي، معناه من غير تمكّن ولا تحيّز ولا جلوس ولا استقرار. وقال بعض أهل السنة من لغويين وأئمة منهم السبكي وابن الحاجب إن استوى هنا معناه قهر العرش فهو القاهر لما دون العرش من باب أولى وهو الغالب على أمره سبحانه، وكلمة ”والكيف مجهول” لا إسناد لها ولا تصحّ عن مالك. وهذا كذلك قولُ الامام أبي جعفر الطحاوي وهو من السلف توفي سنة 321 هـ.: “تعالى - أي الله – عن الحدود” أي أن الله منزه عن الكيفية والمكان لأن ذلك لا يجوز عليه عقلاً، ولذلك استحالَ على الله أن يكونَ متَّصلا بالعالمِ أو حالاً فيه أو مبايِنًا له بالمَسافةِ، وهذا هو الحقُّ الذي لا يَصِحُّ غيرُهُ، وذلك لأنَّ المخلوقاتِ إما أن تكونَ متَّصِلَةً ببعضِها أو منفصلةً بعضُها عن بعضٍ، وكلا الوجهينِ مستحيلٌ وصفُ الله بهِ، وذلك لأنه يَلزمُ منه إثباتُ المِثلِ لله، والله تبارك وتعالى نفَى عن نفسِهِ المثلَ على الإطلاقِ، قال تعالى: “ليس كمثله شىء”.
فإن قالَ الحَشَوِيّةُ المجسّمةُ المثبتونَ لله الحدَّ: هذا نَفيٌ لوجودِ الله، يقالُ لهم أنتم بنيتُم اعتقادَكُم على ما يَصِلُ إليه وهمُكم ولا عبرةَ بالوهمِ إنما العبرةُ بالأدلة الشرعيّة والعقلِية، وهذا الذي قرّرناه هو ما يقتضيهِ النقلُ الصحيح والعقلُ السليم.
فإن قال المشبه لله بخلقه لا نؤمنُ بما ليس له مكان ولا حدّ لأنه لا يمكن تصوّره، نقول له: فقد أنكرتُم مخلوقًا لا يَصِلُ إليه وهمُكم وتصوّركم مما أثبته القرآنُ في قولِهِ تعالى: ﴿وجعل الظلمات والنور﴾، فالنورُ والظلامُ مخلوقانِ حادِثان بشهادةِ القرآنِ، فهل يَفهَمُ تصوُّركم وقتًا لم يكن فيه نورٌ ولا ظلامٌ وقد ثَبَتَ ذلكَ بنصّ القرآن. فالله هو خالق الظلماتِ والنور بعد أن لم يكونا، أوجَدَهُما بعدَ أن كانا معدومَينِ، وهذا الأمر لا تَصِلُ إليه أوهامُنا ولا أوهامُكم ولا يتطَرَّقُ إليه تصوُّرُنا ولا تصوُّرُكم. هل هناك من يستطيعُ أن يَتصوَّرَ وقتًا لم يَكُن فيه نورٌ ولا ظلامٌ؟! ومع ذلك يجبُ أن نؤمِنَ بأنه كانَ وقتٌ – أي مخلوقٌ – لم يكن فيه نورٌ ولا ظلامٌ، لأنه بعدَ خلقِ الماءِ والعرشِ خَلَقَ الله النورَ والظلامَ، فأولُ ما خَلَقَ الله الماءَ ثم العرشَ، فإذن النورُ والظلامُ ما كانا إلا بعدَ أن خلق الله الماء والعرش.
ثم ليُعلم أنَّ الله هو خالق العرش وقد وصف تعالى نفسه بأنه ربّ العرش فلا يجوز في حقه سبحانه الجلوس عليه. كذلك الله هو خالق المكان فلا يجوز عليه تعالى التحيّز فيه.
ثم إن ما جازَ عليه الدخولُ والخروجُ والحركة والسكون والقيام والقعود فهو مخلوقٌ لله الواحدِ الذي ليسَ كمثلِهِ شَىءٌ وهو السميع البصير. مهما تصوّرتَ ببالك فالله بخلاف ذلك. قال الطحاوي رحمه الله: “ومَن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر” معناه أن من وصف الله بصفة من صفات المخلوقات كالمكان والجلوس على العرش فهذا لا يعرف الاسلام ما هو، يتشهد بلسانه نابذاً الكفر ليرجع مسلمًا مؤمنًا بالله تعالى، وهذا من نفائس الاسلام، وكتبه الشيخ عبد الرحمن الرفاعي لطف الله به وعافاه وأحسن ختامه ورزقه وناشرها ومن