علمُ الدّين من المهد إلى اللحد، والمتكبر لا خير فيه.
سؤال: ما هو التصوف وهل هناك فرق بين الحقيقة والشريعة؟
الجواب: الحقيقة والشريعة شىء واحد. الحقيقة باطن الشريعة. هما شىء واحدٌ ليسا متضادّين. لا يصل الى الحقيقة إلا من تمسك بالشريعة. الكرامات والكشوفات والخيرات الباطنية والبركات النورانية وراحة الروح وطمأنينة النفس بالتقوى لا يصل إلى ذلك إلا من عمل بالشريعة على التمام. من دون العمل بالشريعة مستحيل أن يصل إلى ذلك.
الجنيد سيد الطائفة الصوفية رضي الله عنه المتوفى سنة مائتين واثنتين وتسعين قال: “ما أخذنا التصوف بالقال والقيل ولكن أخذناه بالسهر والجوع وترك المألوفات والمستحسنات” قال هذا لأن التصوف صفاء المعاملة (وليس حديثاً شريفاً ما يتداوله بعضهم يقولون “الدين المعاملة”)، وهو ما قاله حارثة رضي الله عنه: “عزفت نفسي عن الدنيا أسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي بارزاً وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها وكأني بأهل النار يتعاوون فيها”.
فمعنى كلام الجنيد رضي الله عنه أن التصوفَ ليس بالقال والقيل، أي ليس بقول قال أبو يزيد كذا قال الحلاج كذا، قال فلان كذا.
قال الجنيد: ولكن أخذناه بالسهر والجوع، معناه نصوم كثيرًا من النوافل زيادة على الفرائض ونقوم الليل بالطاعات مع العلم ليس عن جهل، بعضهم يقوم نصف الليل وبعضهم ثلثه أو أقل أو أكثر على حسب نشاط الشخص.
قال: ولكن أخذناه بالسهر والجوع وترك المألوفات والمستحسنات، أي ترك هوى النفس، ليس فقط الحرام تركوا بل المكروهات وكثيراً من المباحات بلا تحريم، ولا نقول الولي لا يعصي. ليس معنى هذا ان الولي لا يعصي أو لا يخطئ بالمرة.
وأما قوله: “التصوف صفاء المعاملة” أي أن يعامل العبد ربه معاملةً صافيةً، هذا هو التصوف. أما هؤلاء الذين عندهم التصوف هو فقط الأناشيد وحمل المسبحة وعقد حلقات الذِّكر وقال فلان كذا وقال فلان كذا، فهؤلاء كسالى يدّعون التصوف ولا يعملون بطريقة أولئك كالجنيد. هذا الجنيد رضي الله عنه كان عالمًا متبحرًا حتى قال: “ما جعل الله سبيلاً لخلقه إلى علم إلا أعطاني حظًا من ذلك” يعني كل فنون العلم من الحديث والفقه والنحو واللغة والبلاغة والحساب وعلم الميقات والفرائض وغير ذلك، الله أعطاني من كل ذلك حظًا. ما كان جاهلاً كهؤلاء الكذابين الذين لو سئلوا عن أحكام الوضوء ما عرفوا. لكن لا يُشترط أن يكون الشخص كالجنيد أخذ من كل علم حظًا وافرًا، يكفي أن يتعلم الشخص علم الدين الضروري وهو ما يصحح به صلاتَه وصيامَه وما يحل أكله وما يحرم وأحكام البيع كذلك، لأن القرآن ما نزل بالعبادات فقط، فيه عن البيع وأحكام الشراء وعدة النساء والجنايات أي حكم القاتل عمدًا وحكم القاتل خطأً. من تعلم القدر الضروري الذي لا بد منه لتصحيح صلاته وصيامه وعقيدته ومعرفة المال الحلال ومعرفة المال الحرام مع تعلمه أحكام الصلاة والطهارة وما يتبع ذلك، فهذا إذا جدّ في العمل الصالح صار صوفيًا، هذا يستحق أن يعطيَه الله الحقيقة، أما هؤلاء الذين ما تعلموا علم الدين الضروري إنما حظهم أنهم يعرفون استعمال المسبحة والأناشيد وألفاظ الذكر فهيهات هيهات أن يكونوا صوفية، مستحيل أن يكونوا صوفية. وأساس هذا كله التوحيد أي معرفة الله كما يجب على طريقة أهل السنة، كما قال الرفاعي وغيره إن الله موجود بلا كيف ولا مكان.
رجل يقال له حارثة بن مالك رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم لقيه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: “كيف أصبحت يا حارثة؟” فقال: أصبحت مؤمنًا حقًا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: “انظر ما تقول فإن لكل مقال حقيقةً، فما حقيقة مقالك؟” قال: عزفت نفسي عن الدنيا، يعني قطعت نفسي عن التعلق بالدنيا، أسهرت ليلي وأظمأت نهاري، أي أقوم الليل وأصوم النهار، وكأني بعرش ربي بارزاً، أي كأني أشاهد العرش عِيانًا من شدة اليقين الذي صار عندي، وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها، أي كأني أرى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني بأهل النار يتعاوون فيها، أي كأني أرى أهل النار يتعاوون فيها أي يصرُخون من شدة الألم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: “أصبحتَ مؤمنًا حقًا، الزم (أي اثبت على ذلك) عبدٌ نوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبه”.
هؤلاء هم الصوفية، هؤلاء الله تعالى يمنحهم الكرامات ويخرق لهم العادات.
أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه كان من أهل اليمن ولد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يره، وفي زمانه قبل وفاة الرسول ادّعى شخص دجال النبوة فصار أبو مسلم يكذب هذا الدجال ويقول للناس هذا كذاب فعرف به هذا الدجال واسمه الأسوَد العَنْسِي، بلغه الخبر، فأمر جماعته أن يأتوه بأبي مسلم فتكلم معه فكذّبه أبو مسلم في دعواه أنه رسول الله، فقال الدجال لجماعته أشعِلوا نارًا فأشعَلوا نارًا فرموه فيها فما أحرقته، ثم في اليوم الثاني فعلوا مثل ذلك فلم تحرقه النار ثم في اليوم الثالث فعلوا مثل ذلك فلم تُحرقه النار، فقال له جماعته الذين آمنوا به أخرِجْ هذا الرجل من أرضك حتى لا يُفسد عليك الناس، فنفاه. هذا أبو مسلم بلغ خبره سيدنا عمر، ثم بعد مدة سيدنا عمر عرفه لما رآه بالكشف، الله ألهمه، وذلك أنه لما حضر أبو مسلم إلى المدينة قال له عمر: أنت أبو مسلم الخوْلاني؟، قال نعم، فقام سيدنا عمر فقبله بين عينيه، وقال الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مثل خليل الرحمن إبراهيم، يعني ان له كرامة عظيمة عند الله من حيث إن النار لم تحرقه كما لم تحرق سيدنا إبراهيم.
هذا الرجل أبو مسلم في بعض الأيام نام وهو يذكر فصارت السبحة تدور على يده وتذكر الله، تسبّح الله، وهو نائم. هذا لولا أنه متمسك بالشريعة ما حصل له ذلك. هؤلاء هم الذين جمعوا بين الحقيقة والشريعة، أما هؤلاء الجهال الذين هدموا الشريعة وهم يدَّعون أنهم من أهل التصوف والحقيقة فهم من أكفر خلق الله، كالذين يستحلون المحرمات باسم التصوف، ومنهم من قال أنا الله، هؤلاء وأمثالهم زنادقة والعياذ بالله.
فائدة: علم الدين حياة الإسلام، وأشرف العلم العلم بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.