ما معنى قول الله تعالى: “لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيَا مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ” (الأنفال، 42).
الجواب: عن بيّنة أي عن بيان وحجة، وهو واللَّه أعلمُ أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أتى الكفار بآيات حسّية كانشقاق القمر فسمّوه ساحراً، وأخبرهم بالأنباء الماضية التي كانت في كتبهم، فكذّبوه وقالوا: “إِن هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ”. ليس كلّ من سمع القرآن آمن بما فيه وصدّقه على الوجه الصحيح الذي أراده الله تعالى. بعضهم سمع ولم يؤمن بما في القرآن على المعنى الصحيح، هؤلاء كذلك من حيث المعنى كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم. القرآن فيه حجج عقلية.
من الحجج العقلية التي في كتاب الله أن الله تعالى نزّه نفسه تنزيهًا كُليًّا فقال في سورة الشورى: “ليس كمثله شيء”. هذه حجة قوية يقبلها العقل السليم. الله تعالى نفى عن نفسه في هذهِ الآية المكان والشكل والمقدار والمساحة وكُلّ ما هو من صفات الخَلق. هذا ما يفهمه العقل السليم من هذه الآية. نحن أهل السنة ننـزّهُ الله تعالى هذا التنـزيه الكلّي الذي أّثبتَهُ الله في كتابه. وأما الحكمة من وجود الآيات المتشابهة والآيات المحكمة في القرآن فهي ابتلاءُ العباد، أي اختبارهم. بعض الآيات دلالَتُها على المرادِ غيرُ واضحةٍ، وقد ذمَّ اللهُ تعالى الذينَ يَتَّبِعونَ ما تَشَابَهَ مِنَ القرآنِ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ أيِ الزَّيغِ أيِ ابتِغاءَ إيقاعِ الناس في الباطلِ كالمشبهة والمعتزلة والمجسمة والعياذُ باللهِ، لذلكَ قال الإمامُ الكبيرُ الشيخ أحمدُ الرفاعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ: صونوا عقائِدَكُم مِنَ التَّمَسُّكِ بِظاهِرِ ما تَشابَهَ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ، فإنَّ ذلكَ مِن أُصولِ الكُفر.
العبادُ قسمان: قسمٌ يتبعونَ المُحكَمَ ويجعلونهُ حاكمًا على المتشابه فلا يقعونَ في المحظور ولا يقعون في تشبيهِ الله بخلقهِ لأنهم فهموا المُحكَمَ كما يجب. قوله تعالى “ليس كمثلهِ شىء” هذا فهمهُ أهل السنة كما يجبُ. أمّا الآخرون الذين أرادَ اللهُ بهمُ الشّرَّ فهم يفهمونهُ على غيرِ وجههِ، هؤلاء يهلكون، أما أولئك فيسعَدون. الله تبارك وتعالى بيَّنَ لنا أن القرآن بعضُ النّاسِ يضلّون به، قال اللهُ تعالى: “يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهدِي بِهِ كَثِيرًا”. القرآنُ ليس هُدًى لكلّ إنسانٍ كائنًا من كان في أيّ عصر كان. قال اللهُ تعالى: “وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن ربِّكَ طُغيَانًا وَكُفرًا” (المائدة، 64). اللهُ تعالى يقولُ إن أولئك المشركين الذين تقرأُ عليهم القرآن الذي ننزلهُ عليكَ بعضهم يزيدهم ضلالاً.
ليس يهتدي بالقرآن كُلّ فردٍ من أفراد العالم. الله تعالى أنزلهُ ابتلاءً لعباده أي ليؤمن به بعضهم فيفوز بالنعيم المقيم الذي لا انقطاعَ لهُ في الحياة الدائمة الهنية، ويسلَم من كلّ نكدٍ في القبر وفي آخرتهِ بفعلِ معرفة الله كما يجب والعملِ بالقرآن، مُحكَمهِ ومتشابههِ. أهل السنة هؤلاء يجعلون المحكمَ قاضيًّا على غيره مهيمناً على غيرهِ، لهذهِ الحكمة جعل اللهُ قسماً من القرآن محكمًا وقسمًا منه متشابهًا لابتلاء العباد، حتى يَسعَدَ من عرف الله كما يجب فيكون له النعيم المقيم والسعادة الأبدية ويَهلِك الآخرون،