سؤال: نرجو بيان فساد الاستدلال بحديث الجارية على انحصار الله في السماء والعياذ بالله.
الجواب: الاعتقاد الصحيح هو أن الله منزّه عن المكان. تنزيه الله تعالى عن المكان شيء يقبله العقل ويقبله الشرع. العقل السليم يحكم بأن الله خالق المكان لأن الله خالق كلّ شيء، وبأن الله لا يحتاج إلى المكان لأن الله لا يحتاج إلى شيء، فلذلك علماء أهل السنة كأبي حنيفة والشافعي والأشعري والماتريدي والطحاوي والبيهقي والقاضي عياض والغزالي والرازي وابن حجر شارح البخاري والزبيدي شارح الإحياء وابن عساكر وغيرهم ممن لا يحصيهم إلا الله، كلّ هؤلاء وغيرهم قالوا إن الله موجود بلا جهة ولا مكان.
أما من الشرع فدليل ذلك قول الله تعالى في سورة الشورى: “ليس كمثله شىء”، دلّت آية التنزيه العظمى على أن الله منزه عن المكان لأن المكان والحجم والكيفية والشكل من صفات المخلوق وليست من صفات الخالق سبحانه.
ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “كان الله ولم يكن شيء غيرُه” رواه البخاري وغيره، وهذا معناه أن الله كان موجوداً قبل المكان بلا مكان، هكذا قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وعلى هذا إجماع المسلمين كما قال الإمام الطحاوي في عقيدته: “ولا تحويه الجهاتُ الستُّ كسائر المبتدَعات” أي المخلوقات.
وقال الإمام علي رضي الله عنه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما كان” هذه الكلمة النفيسة نقلها الإمام الأصولي عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 للهجرة، وكان من مشاهير أهل العلم ذكرها في كتاب الفرق بين الفرق.
أما استدلال بعض الناس بحديث مسلم وفيه لفظ “أين الله” فالجواب أن هذا ليس في مرتبة الأحاديث التي يصحّ الاستدلال بها في العقيدة للاضطراب في ألفاظه ما بين قالت الجارية “في السماء” وفي رواية أشارت إلى السماء وهناك روايات أخرى تمنع هذه الرواية من أن تكون في مرتبة ما يُستدل به في العقيدة، وإلى ذلك أشار علماء كبار أمثال البيهقي في السنن الكبرى وابن حجر العسقلاني في تلخيص الحبير، وهما من كبار حفاظ الحديث.
ثم على فرض التسليم بصحتها فقد ذكر القرطبي في شرحه على مسلم ما نصه: “تنبيه: ثم اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة، مُحدّثهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونظّارهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى كقوله: ”ءأمنتم من في السماء” ليست على ظاهرها وأنها متأوَّلة عند جميعهم”. ثم يردّ القرطبي على المشبهة مبيناً مذهب أهل السنة قائلاً إن “من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى أحقّ بإزالة ذلك الظاهر وإجلال الله تعالى عنه، وقد حصل من هذا الأصل المحقق أن قول الجارية ليس على ظاهره باتفاق المسلمين، وإن من حمله على ظاهره فهو ضالّ من الضالين” يعني أنه كافر من جملة الكافرين، والقرطبي توفي سنة 656 هـ.
وقريب من كلام القرطبي في ذلك قال الحافظ النووي في شرح مسلم. وقال السيوطي في تنوير الحوالك ما نصه: “قال الباجي: لعلها تريد وصفه بالعلو، وبذلك يوصف من كان شأنه العلو، يقال مكان فلان في السماء، يعني علو حاله ورفعته وشرفه”. فهذه الروايات وما أشبهها لا يجوز حملها على ظواهرها لأن الله منزه عن الانحصار في السماء أو في جهة العرش سبحانه وهو خالق ذلك كله.
ثم من المعلوم أن السماء مسكن الملائكة فكيف يعتقد المؤمن أن الله ينحصر في السماء!!. الله منزه عن الانحصار في مكان واحد وكذلك عن الانتشار في كل الأمكنة، الله موجود بلا مكان.
فإن قال المشبّه إن كلمة في السماء معناه على السماء (يريد أن الله بذاته فوق العرش)، فقد أخرج اللفظ عن ظاهره لأنه هو كذلك لا يُجوّز ظاهره من الانحصار في السماء على الله. وتنزيه الله عن هذا الظاهر هو ما يقول به أهل السنة كذلك، ولكنهم يضيفون تنزيه الله عن الانحصار في غير السماء كجهة العرش، للدليل العقلي الذي لا يُجيز انحصار الله سبحانه في السماء.
ثم من قال بظاهر الحديث ورفض تأويله ماذا يفعل بقول الله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرضِ إِلَهٌ”، فهذه الآية من سورة الزخرف دليل قويّ لأهل السنة في تنزيه الله عن التحيز في السماء كما أنه سبحانه منزّه عن التحيز في الأرض، وهو سبحانه معبود المؤمنين به من أهل السماء وهم الملائكة، ومن أهل الأرض ممّن سواهم من مؤمني الإنس والجنّ.
ونختم بما قال الإمام الطحاوي رحمه الله: “ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر” والمكان والجلوس والكيفية من صفات البشر وليست من صفات ربّ البشر.