سؤال: هل يجوز الاستغاثة بالنبيّ بعد وفاته كما جاز الاستغاثة به قبل وفاته صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: نعم بلا شك، النبيّ بل سائر الأنبياء كلهم جميعاً يُستغاث بهم بإذن الله ويَتوسل بهم المسلم إلى الله وهم خير خلقه تعالى، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، وهم أحياء في قبورهم يصلّون كما ثبت في حديث البيهقي في جزء حياة الأنبياء، وكما ثبتت الاستغاثة بهم يوم القيامة في حديث البخاري في سيدَينا آدم وموسى وفي نبيّنا محمد صلوات الله وسلامه عليهم. وبذلك جاء كتاب الله تعالى أنه يُستغاث بالأنبياء في الدنيا وقد جاء في سورة القصص الآية 15 عن سيدنا موسى: “فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ”، فهذا لفظ صريح وواضح في أن الأنبياء يُستغاث بهم في حال حياتهم، وهذه الآية تردّ ما يستدل به الوهابية من حديث واه ضعيف أن النبي قال “إنه لا يُستغاث بي”، فإن كان يجوز بنصّ كتاب الله أن يُستغاث بسيدنا موسى فبالأولى أن يجوز الاستغاثة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من موسى بلا شك عليهما الصلاة والسلام.
ولم يقل أحد فرق بين حضور الأنبياء وغَيبتهم، ولا بين حياتهم في هذه الدنيا وحياتهم البرزخية بعد وفاتهم. هذا تفصيل غير موجود في كلام السلف الصالح ولا في كلام المجتهدين أهل العلم.
ثم من الأدلة الواضحة على جواز الاستغاثة بالنبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، قول سيدنا أبي بكر وهو في البخاري أنه رضي الله عنه دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا فَتَيَمَّمَ (أي قصد) النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسَجًّى (أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم) فَكَشَف أبو بكر عَنْ وَجه النبي ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: بِأَبِي أَنتَ يَا نَبِي اللَّهِ (الحديث). فأبو بكر ينادي النبي بعد موته مستغيثاً به يقول “يا نبي الله”، فالذين حرموا وقالوا لا يجوز نداء النبي بعد موته وجعلوا مجرد النداء أو الاستغاثة بالنبي عبادة للنبي، هؤلاء يكفّرون أبا بكر والصحابة ورواة الحديث وأمة محمد كلها لأنها تلقت هذا الحديث بالقبول لم يعترض عليه أحد ألبتة، ولا يوجد لديهم على ذلك أدنى دليل شرعاً ولا من حيث اللغة التي ليس فيها أن مجرّد الاستغاثة بنبيّ أو وليّ أو ملَك كريم عبادة لذلك النبي أو الولي أو الملك الكريم (وملك هنا بفتح الميم مفرد ملائكة).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة أن أباها أبا بكر دخل على النبيّ بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفيّاه. وفي ذلك كله دليل من فعل خير الناس بعد الأنبياء، على جواز الاستغاثة بالنبي وندائه بقول “يا رسول الله”، وهو كذلك دليل على التبرك برسول الله بعد وفاته كما كان الأمر في حال حياته، لم يعترض أحد من علماء الإسلام على ذلك ألبتة بدليل حديث البخاري في كتاب فضائل الصحابة عن أمّ المؤمنين عائشة ولفظه هناك: فجاء أبو بكرٍ فكشف عن رسول الله فقـبّـله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيّاً وميتـاً.. دلّ ذلك على أن نداء النبي والاستغاثة به والتبرك به صلى الله عليه وسلم ليس شركاً، بل هو مستحسن بلا شك.
أما استدلال بعض الوهابية بحديث مزعوم يعترفون بأنه ضعيف الإسناد، وفي رواته ابن لهيعة وعلل حديثية أخرى، فلم يستدل به أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم في منع الاستغاثة بالنبيّ وهو مرويّ عن أبي بكر فلا يصحّ لمخالفته ما في القرآن عن سيدنا موسى وما في البخاري عن أبي بكر نفسه.
وهو حديث مضطرب حكم عليه بذلك ابن كثير في تفسيره في سورة الأنبياء قال فيه حديث غريب جداً، وابن كثير من الذين فُتن بحبهم أتباع ابن تيمية مع أنه يخالفهم في عدد من مسائلهم الشاذة، وفي هذا الحديث اضطراب فلا يصلح للاحتجاج به في مسألة في العقيدة، لأنه روي عند أحمد بلفظ: “إنه لا يقام لي وإنما يقام لله عز وجل” كما في ابن كثير، وفي الروايتين ابن لهيعة وهو واهٍ ضعيف لا يعتدّ به.
وإضافة إلى ما ذكرنا من أن هذه الرواية مردودة بالقرآن وما ثبت في البخاري وغيره من استغاثة أبي بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيردّ تلك الرواية كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وفيه سمّى النبي المطر غيثاً مغيثاّ، ففي سنن أبي داود: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى خَلَفٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم بَوَاكِى فَقَالَ النبيّ: “اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ”.
ومن كتاب المجروحين يذكر ابن لهيعة لابن حبان قال: النوع السابع (أي من المجروحين): قال أبو حاتم: ومنهم من كان يجيب عن كل شيء يُسأل، سواء كان ذلك من حديثه أو من غير حديثه، فلا يبالي أن يتلقن ما لقن فإذا قيل له هذا من حديثك حدث به من غير أن يحفظ. فهذا وأحزابه لا يحتج بهم لأنهم يكذبون من حيث لا يعلمون. أخبرنا محمد بن سعيد القزاز حدثنا أحمد بن منصور حدثنا نعم بن حماد قال: سمعت يحيى بن حسان يقول: جاء قوم ومعهم جزء فقالوا: سمعناه من ابن لهيعة، فنظرت فيه، فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ابن لهيعة، فقمت فجلست إلى ابن لهيعة فقلت: أي شيء ذا الكتاب الذي حدثت به؟، ليس ها هنا في الكتاب حديث من حديثك ولا سمعتها أنت قط، قال (ابن لهيعة): ما أصنع بهم يجيئون بكتاب فيقولون هذا من حديثك فأحدثهم به.اهـ.
ومن كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني قال فيه النسائي ليس بثقة، وقال أبو زرعة لا يضبط. ومن كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي: وكان يحيى بن سعيد القطان لا يراه شيئاً، قاله علي بن المديني، ثم قال علي: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وقيل له: تحمل عن عبد الله بن يزيد القصير عن ابن لهيعة؟ فقال: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيراً. اهـ.
فدلّ كل ذلك على أن ما كان من حديث ابن لهيعة وأمثاله فهو لا يصلح للاحتجاج به ولا سيما في مثل ما تفعله الوهابية من تكفير المسلم لمجرّد الاستغاثة بالنبي وهذا مشهور معروف من فعل أبي بكر وغيره كبلال بن الحارث المزني رضي الله عنهما ثابت عنهما كما قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه، فثبت أن تلك الرواية عن أبي بكر نفسه لا تصحّ إذ لو نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغاثة به في حياته لما استغاث أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وهذا دليل مفحم للمعاند والعياذ بالله تعالى، وفق الله كاتبها وعافاه وفرّج كربه كله آمين،