مسائل نفيسة مهمة جداً في التنزيه ونفي التشبيه، وفق الله كاتبها وناشرها وأحسن ختامنا، ءامين
ذكر الإمام الحليمي وهو من كبار الفقهاء من أئمة أهل الحديث، قال فيه الذهبي إنه “العلامة البارع رئيس أهل الحديث بما وراء النهر” توفي سنة 403 للهجرة، ما نصه: “وإذا قال الكافر لا إله إلا ساكن السماء لم يكن مؤمناً لأن سكان السماء هم الملائكة، وإن قال لا إله إلا الله ساكن السماء كان هذا زيادة كفر منه لأن السكن غير جائز على الله تعالى واحتظار الأمكنة ليس من صفاته” سبحانه ليس كمثله شىء.
وفي تفسير ابن جرير الطبري (٣١٠ هـ.) عند تأويل قوله تعالى “ثم استوى إلى السماء” قال: “علا عليها علوّ مُلك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال.اهـ. وعلى ذلك كل السلف في تنزيه الله عن الجسمية والمكان كما صرح الطبري نفسه في مقدمة كتابه في التاريخ.
وأما استدلال المجسّمة المشبهة بحديث الجارية وفيه لفظ “أين الله” قالت “في السماء” وما أشبه ذلك، فقد أوّل علماء أهل السنة ما ثبت منها بأن المراد منه علوّ القدر لا المكان والحيّز والجهة لاستحالة ذلك على الله، على أن رواية “أين الله” مضطربة لا يُحتجّ بها في العقيدة، من رواها في كتبه من المحدثين بهذا اللفظ لم يذكرها في كتاب الإيمان لما في إسنادها ومتنها من اضطراب كما أشار إلى ذلك الحافظان الكبيران البيهقي وابن حجر العسقلاني، والبخاري قبلهما أعرض عن ذكرها في صحيحه، وظاهرها تردّه الأحاديث المتواترة بأن الدخول في الإسلام لا يكون إلا بالشهادتين، وأنه لا يصح إجماعاً الدخول في الإسلام بقول “الله في السماء” وهو ما ذكره الحليمي وقد تقدم ولا معارض فكان إجماعاً. فيستحيل إذن أن يحكم الرسول لشخص ما بالإيمان والإسلام لمجرد قوله “الله في السماء” لأن الأمة لا تُجمع على باطل كما جاء في الحديث الشريف، وهو ما أفاده القرآن كما نص عليه الشافعي. والإجماع قائم على أنه لا يصح الدخول في الإسلام بقول “الله في السماء” لأن هذا اللفظ تقول به فئات من الكفار فلم يكن والحال كذلك علامة على الدخول في دين الإسلام.
فإذا قال قائل من المجسمة المشبهة يدّعي زوراً أنه من “أنصار السنة” أو من السلفية إن الله في السماء بذاته، يستدلّ بقول الله تعالى “ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض” (الملك، 16)، قلنا له المراد عند بعض العلماء علوّ القدر، وقال علماء كبار إن المراد بالآية جبريل عليه السلام وهو الملَك الموكل بالخسف كما قال الإمام فخر الدين الرازي (606 هـ.) في تفسيره، ومتى دخل الاحتمال بطل الاستدلال كما قال المفسر النحوي العلامة أبو حيان الأندلسي، فاستدلالهم تمويه فاسد لترويج الباطل، فالمكان صفة المخلوق لا صفة الخالق سبحانه.
ويدل كذلك على أن الآية ليست على ما يقولون من أن الله في السماء بذاته قوله تعالى: “وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله” (الزخرف، 84)، والله ليس في الأرض بذاته اتفاقاً منا ومنهم، فكما لا يجوز حمل هذه الآية على الظاهر من أن الله في الأرض وفي السماء في وقت واحد، كذلك لم يجز حمل تلك على الظاهر من أن الله في السماء بذاته، وهو باطل من القول ومنكر وزور لأن الله خالق السماء وكان قبلها موجوداً لا يحتاج إليها بدليل حديث البخاري “كان الله ولم يكن شيء غيره”.
فمن زعم أن الله خلق السماء ثم جعل نفسه فيها فهو غير عارف بربّه لأن الله تعالى لا يتغـيّر، بل هو الذي يغيّر المخلوقات سبحانه.
قال الله تعالى واصفاً نفسه في آية الكرسي: “له ما في السموات وما في الأرض” فالله مالك مَن في السماء وما في السماء، ولا يقال الله مالك نفسه. فوجب التحذير مما يعتقده المشبهة المجسمة والانقياد للحق الذي تقبله العقول السليمة وهو من نفائس الإسلام مما نصّ عليه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وهو من كبار أئمة السلف توفي سنة 150 للهجرة، قال في كتاب الوصية: “وهو (أي الله تعالى) حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا لَمَا قَدرَ على إيجاد العالم وتدبيره وحفظه كالمخلوقين، ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار (في جهة أو حيّز)، فقَبل خلق العرش أين كان الله”، يريد أن الله كان قبل المكان وقبل العرش بلا مكان ولا عرش، وأنه لا يحتاج إليهما ولا إلى سواهما.
وقال القاضي عياض وغيره إن الإجماع منعقد على عدم حمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها، وإنه يجب ردّها إلى الأصل وهو قول الله تعالى: “ليس كمثله شىء”.
وهذا مفهوم واضح من كلام الإمام مالك حين سئل عن الاستواء قال: “والكيفُ غير معقول” رواه البيهقي، ومعنى ذلك تنزيه الله عن الحجم والجسم والكيف والمكان والجلوس، سبحانه، وعلى ذلك إجماع أهل السنة والجماعة.
قال الإمام الطحاوي: ومن وصف الله بصفة من صفات البشر فقد كفر.