في الردّ على أتباع ابن تيمية
روى الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَال: “لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِندَهُ فَوقَ الْعَرشِ: إِنَّ رَحمَتِي غَلَبَت غَضَبِي” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. والكتابُ هو اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَبَيَانُ أُمُورِهِمْ وَذِكْرُ آجَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَالأَقْضِيَةُ النَّافِذَةُ فِيهِمْ، وَمَآلُ عَوَاقِبِ أُمُورِهِم، عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ خَلْقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقٌ لا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَمَسَّهُ كِتَابُ مَخلُوقٌ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ قَد رُوِيَ أَنَّ الْعَرْشَ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَاسُّوا الْعَرْشَ إِذَا حَمَلُوهُ وَإِنْ كَانَ حَامِلُ الْعَرْشِ وَحَامِلُ حَمَلَتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (أي بقدرته تعالى بلا مماسة لتـنزّه الله عن الجارحة والكيف والمكان). وقال البيهقي كذلك: وَلَيسَ مَعنَى قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ هُوَ أَنَّهُ مُمَاسٌّ لَهُ أَوْ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ أَوْ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ، لَكِنَّهُ (تعالى) بَائِنٌ مِن جَمِيعِ خَلْقِهِ (بمعنى عدم المشابهة وليس التحيّز لما تقدم قريباً من كلام البيهقي في نفي الحيّز عن الله)، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ جَاءَ بِهِ التَّوْقِيفُ فَقُلْنَا بِهِ وَنَفَينَا عَنْهُ التَّكيِيفَ (مطلقاً كما قال الإمام مالك وهو من رواية البيهقي كذلك: “والكيفُ غير معقول” أي مستحيل عقلاً في حق الله)، إِذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى، الآية 11).اهـ.
فهذا الكلام يفسر ما أضيف إلى الله من الفوقية فهي فوقية قهر وغلبة لا فوقية جهة وحيّز ومكان والعياذ بالله تعالى.
وفي الأسماء والصفات للبيهقي كذلك وفيه دليل على أن العلماء استعملوا لفظ “القديم” في أسماء الله تعالى بمعنى الأزلي الذي لا ابتداء له، قال رحمه الله: وَالقَدِيمُ سُبحَانَهُ عَالٍ عَلَى عَرشِهِ، لا قَاعِدٌ وَلا قَائِمٌ وَلا مُمَاسٌّ وَلا مُبَايَنٌ عَنِ الْعَرْشِ، (يريد البيهقي بذلك تنزيه الله عن الجلوس و) الاعتِزَالِ والتَّبَاعُدِ لأَنَّ المُمَاسَّة وَالْمُبَايَنَة الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا، وَالْقِيَام وَالْقُعُود مِن أَوصَافِ الأَجسَامِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِد وَلَمْ يُولَد وَلَم يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَلا يَجُوزُ عَلَيهِ (تعالى) مَا يَجُوزُ عَلَى الأَجسَامِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَحَكَى الأُسْتَاذُ أَبُو بَكرِ بنُ فورَك هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَن بَعْضِ أَصْحَابِنَا (الأشاعرة أهل السنة) أَنَّهُ قَالَ: استَوَى بِمَعنَى عَلا، ثُمَّ قَالَ: وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَونِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ..، وَأَنَّهُ (تعالى) لَيْسَ مِمَّا يَحوِيهِ طَبَقٌ أَوْ يُحِيطُ بِهِ قُطْرٌ.
وفي الأسماء والصفات كذلك: إنّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلى عَرْشِهِ وَإنَّهُ فَوقَ الأَشْيَاءَ بَائِنٌ مِنْهَا (أي لا يشبهها) بِمَعنَى أَنَّهَا لا تَحُلُّهُ وَلا يَحُلُّهَا، وَلا يَمَسُّهَا وَلا يُشبِهُهَا، وَلَيْسَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالْعُزْلَةِ تَعَالَى اللَّهُ رَبُّنَا عَنِ الْحُلُولِ وَالْمُمَاسَّةِ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَفِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ كَثِيرًا مِن مُتَأَخِّرِي أَصحَابِنَا (الأشاعرة أهل السنة) ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الاسْتِوَاءَ هُوَ الْقَهرُ وَالْغَلَبَةُ (قال تعالى: “وهو القاهر فوق عباده” فالفوقية فوقية قهر لا مكان)، وَمَعنَاهُ أَنَّ الرَّحمَنَ غَلَبَ الْعَرشَ وَقَهَرَهُ (لا بمعنى المغالبة لغيره لأن الله غالب على أمره) وَفَائِدَتُهُ الإِخبَارُ عَن قَهرِهِ (تعالى) مَمْلُوكَاتِهِ وَأَنَّهَا لَمْ تَقهَرهُ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكرِ لأَنَّهُ أَعظَمُ الْمَمْلُوكَاتِ فَنَبَّهَ بِالأَعلَى عَلَى الأَدنَى، قَالَ: وَالاسْتِوَاءُ بِمَعْنَى الْقَهرِ وَالْغَلَبَةِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ. انتهى كلام البيهقي وهو واضح الدلالة في تنزيه الله عن الكيفية والمكان والكيف والعزلة في الحيّز، وعلى ذلك يُحمل ما ورد في ذلك ومثله من كلام السلف، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.