الردّ على المبتدعة المجسّمة في تكفيرهم لأبي حنيفة رضي الله عنه (الردّ رقم 39).
الدليل على أن الصحابة أوّلوا تأويلاً تفصيلياً بعض آيات القرآن الكريم ما رواه الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ”والسماء بنيناها بأيد” (الذاريات، 47) قال ابن عباس: بأيد أي بقوة (يريد وصف الله تعالى بالقدرة التامة)، وعن مجاهد كذلك قال في الآية: بقوة، وعن قتادة مثله، وعن سفيان وغيره كذلك قالوا بأيد أي بقوة. وهؤلاء كلهم من علماء السلف الصالح، فلا وجه لمن أنكر ذلك التفسير لأنه تفسير الصحابة والسلف وتأويلهم منعاً لإيهام الجارحة والكيفية لاستحالة ذلك في حق الله تعالى.
وأما ما يُروى عن أبي حنيفة من الإنكار فيقدّم عليه قول ابن عباس ترجمان القرآن، وعلى أي حال فهو محمول كما صرّح أبو حنيفة نفسه بأنه يريد به الرد على أهل الاعتزال الذين يؤولون اليد بالقدرة أو النعمة على وجه نفي صفات الله تعالى الأزلية، وهو قد صرّح بذلك رضي الله عنه. ولم يُرد أبو حنيفة الوجه الذي تعتقده الوهابية من التشبيه والكيفية بدليل قوله في أكثر من موضع من كتابه الفقه الأكبر وغيره بنفي الجهة والكيفية عن الله، حتى إن كثيراً من الوهابية ينكرون نسبة الفقه الأكبر إليه أصلاً، ومع ذلك من باب الخداع يستشهدون به وهم في الحقيقة يكذّبونه بل يكفّرونه ويبدّعونه.
ثم إن الوهابية المشبّهة معروف عنهم علناً تكفيرهم لأبي حنيفة، وهذا شيء منتشر ثابت عن مشايخ الوهابية في دروس الإنترنت واليوتيوب، يعتبرونه كافراً او أقله مبتدعاً، بل إن أحد مشايخهم واسمه صالح العقيلي له حلقات على اليوتيوب في أن أبا حنيفة كافر وأن من دافع عنه واعتبره مؤمناً فهو كافر مثل أبي حنيفة على زعم هذا الوهابي الضال.
ومعروف عن أبي حنيفة الرد على المشبهة ومن ذلك قوله رحمه الله: أتانا من المشرق رأيان خبيثان، جهم (بن صفوان) معطل (ينكر صفات الله) ومقاتل (بن سليمان) مشبّه (ضال مثل جهم وهو أي مقاتل يشبّه الله بالمخلوقات). يريد أن مقاتل بن سليمان كان مجسّماً خبيثاً سلفاً لمثل ابن تيمية وأتباعه، فلا يُقبل والأمر كذلك أن يكون الإمام في كلامه موافقاً للمشبهة المجسمة، ولكنه يريد إنكار الوجه الذي منه ينفي المعتزلة صفات الله تعالى.
وهو رحمه الله قال في الفقه الأكبر عن الله تعالى: وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف. وفي الفقه الأبسط قال: لا يُوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف. وهو (تعالى) يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه. وقال الإمام الطحاوي في عقيدته رحمه الله: والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، أي بلا تشبيه.
وهذا كله مردّه إلى أن أبا حنيفة يرى أن صفات الله تعالى كلها أزلية، فأبو حنيفة أثبت التنزيه المطلق بقوله بلا كيف، فلا التفات إلى الوهابي القائل بكيفية نحن لا نعرفها، فكلام الوهابي مناقض لكلام الإمام الذي نزّه الله عن الكيفية مطلقاً، فإن الرضا والغضب المعهودَين من البشر انفعال نفساني، وكذلك اليد عنده صفة أزلية بلا كيفية، وليس كما يقول المشبه بكيفية لا نعرفها، لأن أهل السنة قالوا إن الله منزه عن الكيفية مطلقاً لاستحالة صفات البشر على ربّ البشر وخالقهم هم وصفاتهم.
قال الإمام الطحاوي في ما يحكيه عن الإمام وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو إجماع: ”ومن وصف الله بصفة من صفات البشر فقد كفر”.