روى البخاري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: “وَالّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطيَبُ عِندَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفرَحُهُمَا إِذَا أَفطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِىَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَومِهِ”.
هذا الحديث فيه بشرى للصائمين أن عملهم فيه قربة عظيمة إلى الله ولا سيما منهم من يقاسي مشقات العمل الحلال للقيام بالنفقات الواجبة على الأهل والعيال، أو من كان نهارهم طويلاً كما هو حاصل في بعض البلاد الشمالية، هؤلاء وأمثالهم أجرهم كبير عند ربّهم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده) أقسم على ذلك تأكيداً، وقوله: (لخلوف) بضم الخاء واللام وسكون الواو بعدها فاء. والمراد به تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام.
وقوله: (أطيب عند الله من ريح المسك) وفي ذلك أقوال للعلماء مع اتفاقهم على أنه سبحانه وتعالى منزّه عن استطابة الروائح، إذ صفة الشمّ وسائر الحواسّ الخمس من صفات المخلوق، فالله وصف نفسه فقال: “ولم يكن له كفواً أحد” أي لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شىء.
وقال المازري وهو من أئمة المالكية إن ذلك مجاز والمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي أن أثر ذلك من الصيام يقرّب إلى الله القرب المعنوي أكثر من تقريب المسك إليكم، وقيل المراد أن ذلك فى حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك.
وقيل المراد أن الله تعالى يجزيه فى الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك حكاه القاضي عياض.
وقال الداودى وجماعة إن المعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المستحبّ لمن حضر الجمعة ومجالس الذكر، ورجح النووي هذا الأخير. وحاصل ذلك حمل معنى الطيب على القبول والرضا وليس أن الله موصوف بالشم والعياذ بالله باتفاق العلماء حكاه ابن حجر في شرح البخاري.
وقال البغوى: معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله، وبنحو ذلك قال القدورى من الحنفية والداودي وابن العربي من المالكية وأبو بكر بن السمعاني وغيره من الشافعية، جزموا كلهم بأنه عبارة عن الرضا والقبول.
وما نقله ابن حجر العسقلاني من اتفاق العلماء على تنزيه الله عن استطابة الروائح فهو من تنزيه الله تعالى عن حاسة الشم وسائر الحواسّ لأن ذلك من صفات المخلوقين، وهذا إجماع أهل العلم كما قال الإمام الطحاوي في عقيدته ونصه: “ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر”، ولا شك أن الشمّ من صفات المخلوق، وأما من وصف الله بالشم واللمس والقيام والقعود والحركة والسكون والجلوس على العرش والثقل والخفّة فهؤلاء حكمهم في الشريعة أنهم مشبهة لله بخلقه حكم عدد من العلماء بكفرهم وضلالهم، وهو ما ذكره الإمام الكبير أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي المتوفى سنة 429 للهجرة الشريفة في كتاب الفرق بين الفرق حيث قال بعد ذكر المشبّهة وعدد من الفرق الضالة: “فإنا (أي أهل السنة) نكفّرهم ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا (أي بعد وفاتهم) ولا الصلاة خلفهم (في الصلوات المفروضات)” أي لأن صلاتهم فاسدة لافتقارهم إلى شرط أساس هو الإيمان بالله تعالى لأن من شبّه الله بخلقه فهو لا يعرف الله تعالى، وقد قال الغزالي: “لا تصح ّ العبادة إلا بعد معرفة المعبود”. ومن وصف الله بالشمّ واللمس مثلاً مما لا يجوز على الله تعالى فهذا ما عرف اللائق بالله تعالى من التنزيه المأخوذ من قوله تعالى: “ليس كمثله شىء”.