الحجّ عبادة عظيمة وهو لقاءٌ سنويٌّ يجتَمِع فيهِ مئاتُ الآلافِ مِنَ المسلمِين على كلمةِ التوحيد، كلمة لا إلهَ إلا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، وهناكَ يدعونَ ربَّهم عز وجل ويتعارفُونَ ويأْتَلِفُونَ ويُصْبِحُونَ بنعمةِ اللهِ إخوانًا.
هناكَ في الأرضِ المقدسةِ تتجلى معاني الأُخُوةِ والمساواةِ بينَ المسلمِينَ في أَجلى صُوَرِها، فالحُجَّاجُ جميعُهم قد خَلَعُوا الملابِسَ والأَزياءَ المزخرفةَ ولَبِسُوا لباسَ الإِحرامِ قائلِينَ: “لبيكَ اللهمَّ لبَّيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبّيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلكَ لا شريكَ لكَ”.
وهم مُتَجَرِّدُونَ مِنْ مَباهِج الحياةِ الدنيا الفانيةِ، صغيرُهم وكبيرُهم، غنيُّهُم وفقيرُهم كلُّهم عندَ اللهِ سواءٌ لا يتفاضلونَ إلا بالتقوى كما أخبرنا الحبيبُ الأَعظمُ سيدُنا محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: “لا فَضْلَ لعربيٍّ على أَعجميٍّ ولا لأَعجمِيٍّ على عربيٍّ إلا بالتقوى” لا فَضْلَ لأَسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسودَ إلا بالتقوى.
ثم الحجُّ تمرينٌ عمليٌّ للإنسانِ على الصبرِ وتحمُّلِ المشاقِ والمصاعَبِ لمواجهةِ مشاكلِ الحياةِ لنيلِ الدرجاتِ العُلى والفوزِ بجنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ، فهو إذًا بابٌ واسعٌ للخيراتِ والثوابِ وتنافُسٌ على فعلِ الطاعاتِ التي هي زادٌ للآخرةِ يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّاد التَّقْوَى} [سورة البقرة، ءاية 197]، هذه الآيةُ نزلَتْ في شأْنِ أُناسٍ مِنْ أهلِ اليَمَنِ كانوا يذهبونَ للحَجِّ بغيرِ زادٍ فاللهُ تباركَ وتعالى أنزَلَ هذهِ الآيةَ لإرشادِهِم إلى ما هُوَ مَصْلَحَتُهُم وبَيَّنَ لهم أنَّ خيرَ الزادِ هو التَّقوى. المعنى أنَّ التَّزودَ لسفرِ الحجِّ عملٌ حسنٌ لأنهُ يُعِينُ على الوصولِ إلى الحجِّ لكنْ الأهَمُ مِنْ ذلكَ هو تقوى اللهِ، التقوى هي كلمةٌ شاملةٌ معناها أداءُ ما افترضَ اللهُ على عبادِهِ واجتنابُ ما حرَّمَهُ على عبادِه.ِ التقوى من حيثُ التَّعبيرُ باللفظِ كلمةٌ خفيفةٌ لكنَّ معناها واسِعٌ.
فالحاجُّ عندما يرى شدةَ ازدحامِ الناسِ على جبلِ عرفةَ ويسمعُ ارتفاعَ أصواتِهم بالدعاِء للهِ الملكِ الديانِ، متذللينَ خاشعينَ يرجُونَ رحمتَهُ ويخافُونَ عذابَهُ، يَدْعُونَ اللهَ خالقَهُم ومالكَهُمْ وهُمْ على لُغَاتٍ شَتَّى وألوانٍ وأحوالٍ مختلفةٍ، كلُّ هذا يذكِّرُهُ بيومِ القيامةِ ومواقفِها المَهيبةِ الهائلةِ حيثُ يقفُ الجميعُ متذللينَ مفتقرينَ لخالقِهم مالكِ الملكِ الواحدِ القهارِ.
في هذا الموقفِ يتذكرُ الحاجُّ أيضًا اجتماعَ الأُممِ مَعَ أبنائِهم ويتذكرُ كيفَ يفرُّ المرءُ في ذلكَ اليومِ مِنْ أَخيهِ وأُمِّهِ وأَبيهِ وصاحبتِه وبنِيهِ لكلِّ امرئٍ يومئذٍ شأنٌ يُغْنِيهِ يقولُ تعالى: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} ويقولُ تعالى: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) }.
فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم يَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم، وَأَطِيعُوهُ تُفلِحُوا وَتَسعَدُوا في دُنيَاكُم وَءاخِرَتِكُم، {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يجعَلْ لَهُ مخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يحتَسِبُ}، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)}.
اللهُمَّ إنَّا دَعَوناكَ فاستَجِبْ لنا دعاءَنا، فاغفِرِ اللهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ. ربَّنا ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ. اللهم اجعلنا هُداةً مهتدينَ غيرَ ضالينَ ولا مُضلينَ. اللهُمَّ استُرْ عوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا ما أهمَّنا وقِنا شرَّ ما نتخوفُ، ءامين ءامين