من العبر المستفادة من الهجرة الشريفة المباركة، أنه بعد أن أجمع مشركو مكة أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا من انتشار دعوته في البلاد، اتّفقوا على أن يختاروا من كلّ قبيلة رجلاً جلدًا قوياً ليضربوه ضربة رجل واحد حتّى يتفرق دمه في القبائل ويعجز أقرباء الرسول من بني عبد مناف عن محاربة الكلّ، فأرسل الله تبارك وتعالى جبريل إلى رسول الله فأخبره بمكر القوم الكافرين، وطلب جبريل من النبي أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب ليبيت في فراشه ويَتَسَجَّى بِبُرْدٍ له أخضر، ففعل عليّ ذلك، ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ومعه حفنة تراب جعل يَذُرُّها على رؤوسهم وقد أخذ الله بأبصارهم عن نبيّه فلم يره أحد منهم، فلمّا أصبحوا إذا هم بعليّ بن أبي طالب، فعرفوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فاتهم فركبوا في كل ناحية يطلبونه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار مع صاحبه أبي بكر الصّديق حتّى وصلا إلى غار ثور، فدخلاه وجاءت العنكبوت ونسجت على باب الغار، وجاءت حمامة فباضت ورقدت هناك، وجاء الطلب من رجال قريش فلمّا وصلوا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال عليه الصلاة والسلام: “يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما” أي عالم بهما وحافظ لهما لا أنّه سبحانه حالّ معهما في الغار، تعالى الله عن الكيف والمكان وسائر صفات المخلوقين.
وهكذا حفظ الله رسوله عليه الصلاة والسلام وصاحبه من طلب كفّار قريش لهما حتّى وصلا إلى المدينة المنوّرة حيث استقبلهما المؤمنون بالفرح والبشر وسمّى الرّسول يثرب المدينة المنوّرة وآخى بين أهلها أي الأنصار والمهاجرين فصار المسلمون على قلب رجل واحد كمثل البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، فكانت الهجرة إيذانًا بأنّ صَولة الباطل مهما عظمت فهي إلى زوالٍ، وأنّ قوة الضلال إلى الفشل والبَوارِ، وأنَّ الحق لا بدّ من يوم تعلو فيه رايته وترتفع كلمته تصديق ذلك في قول الله عز وجل: “إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ” {غافر،51}.