يقولُ البيهقي في كتاب القدَر في الاستدلال لهذه المسألة إنّ كلَّ ما يَفعَلُه العبدُ مِن خَيرٍ أو شَرّ فبِخَلْق الله وتَقديرِه ذكر أنّ عائشةَ رضيَ الله عنها ذكرَ لها بعضُ النّاس خَرْجَتَها أي خرُوجَها إلى البَصْرَة فقالَت كانَت بقَدَر،هيَ نَدِمَت على ما فعَلَت وهو نزُولها في المعَسكَر الذي كانَ مُقاتلا لأميرِ المؤمنين عليّ بنِ أبي طالب،تنَدَّمَت تَندُّما شَديدًا حتى إنها كانَت بعدَ ذلكَ تَبكِي حتى تَبُلّ خِمارَها أي الغِطاء الذي تَضَعُه على رأسِها وتُنزّله إلى عنُقِها،
كانت مِن شِدّة بكائها لما تَذكر تلكَ الخَرْجَة التي خرَجَتْها إلى البَصْرة ومُكثَها في المعسكَر الذي هو معسكَر المقاتلِين لعَلِيّ تبُلّ خمارَها بالدّمُوع،
وقالت عن هذا الذي حصَلَ منها كانَ بقَدَر،أي أنّ الله تعالى قَدّر ذلكَ وخَلقَه،ما قالَت هذا كانَ مما خلَقتُ مِن أعمالي كما تقولُ القدَريّةُ المعتزلة،بل قالت بقَدَر أي أنّ اللهَ قَدّرَ ذلكَ،
هو الإنسانُ إذا احتَجّ بالقَدَر بَعدَما تابَ مِن مَعصِيَتِه لا يُعترَضُ علَيه،أمّا قبلَ أن يتوبَ وهو مقِيمٌ على معصيتهِ ليسَ لهُ أن يُدافعَ عن نَفسِه ويقولَ اللهُ قَدّر عليّ،
ليَتُب ثم ليَقُل كانَ ذلكَ بقَدَر أمّا أنْ يحتَجَّ بالقدَر وهو بَعدُ مقِيمٌ على معصيتِه فذلكَ أمرٌ مذموم وإنْ كانَ في اعتقادِه أنّ ذلكَ بقَدَر،لأنّ معتقَد المسلم أنَّ كلَّ ما يفعَلُه مِن خَيرٍ أو شرّ بقدَر اللهِ أي بتقديرِه،لكن لا يحتَجّ بالقدَر للدّفاع عن نفسه وهو بَعدُ لم يتُب لأنه يكونُ معنى ذلك كأنّهُ يقولُ ما عليَّ مَلام لأنّهُ مُقَدَّر،هوَ مُقدَّرٌ مِن قِبَل الله تعالى لكن العبد ليسَ لهُ أن يرتكبَ المعصِية ثم يحتَجّ بالقدَر وهو بَعدُ مُقِيمٌ على معصيتِه،أمّا بعدَ التّوبة فإذا قالَ ذلكَ ليسَ بقَبِيح منه،عائشةُ رضي الله عنها بعدَما تابَت مِن تلكَ الخَرْجَة التي خَرَجَتْها مِن مكّةَ إلى العراق إلى البَصْرة قالت ذلك،وأمّا خروجُها إلى مكّة لما قتِلَ عثمان، إثْرَ قَتْلِ عثمان خرجَت مِنَ المدينة إلى مَكّة بنِيّة الحَجّ ثم في مكّة بعضُ الناس الذينَ أرَادُوا أن يُظهِروا تحَمُّسَهُم بدَم عثمانَ قالوا لها تَذهَبِين معَنا لعَلّ الأمرَ ينصَلِحُ بكِ،طاوَعتْهُم فتَوجّهَت نحوَ البَصْرة ثم حصَل لها في الطّريق أمْرٌ ذَكّرها حديثَ رسولِ الله الذي كانَ قالَه لنسَائه وفيهم عائشة،
قال “أيَّتُكُنّ صَاحبَةُ الجمَلِ الأدْبَب تَنبَحُ علَيها كِلابُ الحَوأَب”رواه أحمد.
فلما وصَلَت في سَيرِها إلى العراق إلى مكانٍ فيهِ ماءٌ سمِعَت نُبَاح الكِلاب فسألَت ما اسم هذا المكان قيلَ لها الحَوأب فذكَرَت حديثَ رسولِ الله انزعَجَت ما ارتاحَ خَاطرُها فأَلحُّوا علَيها قالوا لها تذهَبِينَ معَنا لعَلَّ اللهَ يُصلِحُ بكَ أمرَ المسلمين،ألحّوا عليها وكانَ مُقَدَّرا مِن قِبَلِ الله،
ذهَبت معهم وهيَ غيرُ مُرتاحَة لذلكَ فلَمّا وصَلُوا إلى المعسكَر الذي فيه معَسكر المقاتلينَ لعَليّ مكَثَت في هذا المعسكَر بدَل أن تَذهَب إلى عليّ وتُذاكِرَه، هذا كانَ ذنبها ومعصيتها ،هذا مُرادُها بقولها كانَت بقَدَر.
وفي حديثِ رسولِ الله تتمَّة أنّهُ عليه الصلاة والسلام قال “انظُري يا عائشةُ أنْ لا تَكُوني أنتِ” لكن القَدَر لا يَردُّه شَىء،
ما قَدّر الله أن يكونَ لا بُدّ أن يكون،
فمَع ذكرها للحَديث وانزعاجِ نَفسِها مِن ذلكَ مضَت إلى أن وصلَت إلى ذلكَ المكان،إلى المعسكَر ومكَثَت فيه،ما ذهبَت إلى معسكَر عليّ رضي الله عنه.
الجمَل الأدْبَب معناه الكثير الشَّعَر ،وكانَ الجمَل الذي قُدّم لعائشة حينَ توَجُّهِها مِن مكَّةَ إلى البَصْرة بهذه الصّفة،كانَ كثيرَ الشَّعَر في عنُقِه ومَا حملَه،يقالُ للجَمل إذا كانَ كثيرَ شعَرِ العنُق أدَبُّ،الأدْبَب مِن أجلِ السَّجع،مِن أجلِ الازْدِواج أي اتّفاقِ الكَلِمَتَين المتقَابِلَتَين،مِن أَجْلِ الازدِواج مع كلمةِ الحَوأب،
هيَ عائشةُ رضيَ الله عنها ما دافَعَت عن نَفسِها ما قالَت أنا باجتِهادِي فعَلْتُ هذا أنَا ليْ أَجْر،ما قالَت كما يقولُ بعضُ الناس ،
بعضُ النّاس يقولونَ كلُّ مَن كانَ مِن أصحابِ رسولِ الله ففِعلُه لا يُنتَقَد كائنًا ما كانَ، هذا غلَط، عائشةُ قالت كانَت بقَدَر،فقط ما زادَت على ذلك،ما قالَت أنا كنتُ على اجتِهادي أنا لي ثواب على اجتِهادي.