نفائس في تنزيهُ الله عن المكان والجهة،
قَالَ اللهُ تعالى “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ” فَاللهُ تعالى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، ففي هَذِهِ الآيَةِ نَفْيُ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ فلا يَحْتَاجُ اللهُ إلى مَكَانٍ يَحُلُّ فيهِ وَلا إلى جِهَةٍ يَتَحَيَّزُ فيها بَلِ الأَمْرُ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ “كَانَ اللهُ ولا مَكَانٌ وَهُوَ الآنَ على ما عَلَيْهِ كَانَ” رَوَاهُ الإمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.
وَفي هَذِهِ الآيَةِ دَليلٌ لأَهْلِ السُّنَّةِ على مُخَالَفَةِ اللهِ لِلْحَوَادِثِ، وَمَعْنى مُخَالَفَةِ اللهِ للحَوَادِثِ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَالدَّليلُ العَقْلِيُّ على أَنَّ اللهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُشْبِهُ شَيئًا لَجَازَ عَلَيْهِ ما يَجُوزُ على الْخَلْقِ مِنَ التَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ، وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لاحتَاجَ إلى مَنْ يُغَيِّرُهُ وَالْمُحْتَاجُ إِلى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا فَثَبَتَ أَنَّ اللهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا.
وَمَمَّا يَدُلُّ على ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: “فلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَال” أَي لا تَجْعَلُوا للهِ شَبِيهًا وَمِثْلاً فَإِنَّ اللهَ لا مِثْلَ لَهُ، فَلا يُشْبِهُ ذَاتُهُ –أَيْ حَقيقتُهُ- الذَّوَاتِ ولا صِفَاتُهُ الصِّفاتِ أَيْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَقَالَ تعالى: “هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا” مَعْنَاهُ اللهُ لا مِثْلَ لَهُ.
فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللهَ يَسْكُنُ في مَكَانٍ أَوْ في جَميعِ الأَمْكِنَةِ أَوْ إِنَّهُ يَجْلِسُ على الْعَرْشِ أَوْ مُتَحَيِّزٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءانَ والحَديثَ وإِجْمَاعَ الأُمَّةِ الإسْلامِيَّةِ وخَالَفَ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ.
وَالشَّرْعُ هُوَ الأَصْلُ وَالْعَقْلُ الصَّحيحُ شَاهِدٌ لَهُ، وَلا يَأتي الشَّرْعُ إِلا بِمُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ أَيْ بِمَا هُوَ جَائِزٌ عَقْلاً.
قَالَ الْحَافِظُ الْفَقيهُ أَحْمَدُ بنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ (ت 458 هـ.) في كِتَابِهِ الأسْمَاءُ والصِّفاتُ ما نَصُّهُ: “اسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحَابِنَا بِنَفي الْمَكَانِ عَنِ اللهِ تعالى بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىءٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىءٌ ولا دُونَهُ شَىءٌ لَمْ يَكُنْ في مَكَانٍ”اهـ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليهِ السَّلامُ عنِ اللهِ تعالى “الظَّاهِر” الَّذي كُلُّ شَىْءٍ يَدُلُّ على وُجُودِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ “البَاطِنُ” الَّذي احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فلا تُدْرِكُهُ.
وَقَالَ في كِتَابِهِ الاعْتِقادُ مَا نَصُّهُ: “قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ يَدُلُّ على أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ، لا العَرْشُ ولا الْمَاءُ ولا غَيْرهما وَكُلُّ ذَلِكَ أَغْيَارٌ” اهـ.
فَإِنْ قيلَ مَا الْحِكْمَةُ مِنْ خَلْقِ الْعَرْش؟ِ فَالْجَوابُ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ كَمَا قَالَ الإمامُ عَلِيّ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ في كَتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ. فَإِنْ قِيلَ كُلُّ شَىْءٌ مِنَ الْخَلْقِ دَلِيلٌ عَلى قُدْرَةِ الله فَلِمَ خُصَّ العَرْشُ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ أَكْبَرُ جِسْمٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ وَالله تعالى قَاهِرُهُ وَقَاهِرُ مَا دُونَهُ، أَلا تَرَى أَنَّ اللهَ قَالَ “وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعِظِيم” خَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ في الآيَةِ مَعَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ.
قَالَ الصَّحَابِيُّ الجليلُ عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ (ت 40هـ): “كَانَ اللهُ وَلا مَكَان وَهُوَ الآنَ على مَا عَلَيْهِ كَان” اهـ أي مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ. رَوَاهُ أبو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيّ في الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ.
قَالَ الإمَامُ التَّابِعيُّ الْجليلُ أَفْضَلُ قُرَشِيٍّ في زَمانِهِ عَلِيُّ بنُ الْحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ زَيْنُ الْعَابِدينَ رضي الله عنهم (ت ٩٥ هـ.)، في الصَّحيفَةِ السَّجَادِيَّةِ مَا نَصُّه “أَنْتَ اللهُ الَّذي لا يَحوِيكَ مَكَانٌ” رَوَى ذلِكَ عَنْهُ الإمامُ الْحافِظُ الفقيهُ اللُّغَويُّ مَحَمَّدُ مُرْتَضى الزَّبيدِيُّ بالإسْنَادِ الْمُتَّصِلِ مِنْهُ إِلَيْهِ بِطَريقِ أَهْلِ الْبَيْتِ.
قَالَ الإمامُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (ت 148 هـ) “مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ مِنْ شَىْءٍ أَو في شَىْءٍ أَو على شَىْءٍ فَقَدْ أَشْرَكَ، إِذْ لَوْ كَانَ على شَىْءٍ لَكَانَ مَحْمُولا وَلَوْ كَانَ في شَىْءٍ لَكَانَ مَحْصُورًا وَلَوْ كَانَ مِنْ شَىْءٍ لَكَانَ مُحْدَثًا -أَي مَخْلُوقًا-” اهـ.
فَيُعْلَمُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تعالى الَّذي خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ لا يَحْتَاجُ إلى شَىْءٍ وَلا يُشْبِهُ شَيْئًا. الله لا يَحْتاجُ إلى جِهَةٍ وَلا إلى مَكَانٍ. الله كَوَّنَ الأَكْوَانَ وَخَلَقَ الزَّمَانَ فَهُوَ مَوْجُودٌ أَزَلاً وَأَبَدًا بِلا جِهَةٍ وَلا مَكان. كن ناشرا للخير، ارجو الدعاء.
قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: الله تعالى موجود بلا كيف ولا مكان.