سؤال: ما هو دليل جواز الدعاء جماعة بعد الصلاة، وماذا قال العلماء في ذلك؟
الجواب وبالله التوفيق: إن التوجه بالدعاء الی الله عز وجل من الشهرة بمكان بين المسلمين سلفهم وخلفهم بحيث لا يحتاج إلى نصب كثير من الأدلة عليه، ويكفي قول الله تعالى: “وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ” (غافر، 60).
وأما استحباب الدعاء بعد الفريضة خصوصاً، فقد روى الترمذي في جامعه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ (أي أقرب إلى الإجابة) قَالَ “جَوْفُ اللَّيْلِ الآخِرُ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ” قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وفي الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم قال: “لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلا حَفَّتْهُمُ الْمَلائكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ” رواه مسلم.
فيفهم من ذلك أنه لا بأس في ما تعارف عليه الناس قديمهم وحديثهم من الجلوس للذكر جماعة والدعاء في المساجد وغيرها، وهو لفظ عام يدخل فيه كذلك الذكر بعد الصلوات الفرائض ودعاء الإمام ويقول الناس آمين.
وهذا واضح من عموم حديث حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “لا يَجْتَمِعُ مَلأ فَيَدْعُو بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ الْبَعْضُ إِلا أَجَابَهُمُ اللَّهُ”، رواه الحاكم.
وهذا عام بعد الصلاة المفروضة وفي غيرها ليس فيه تخصيص.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ لأصْحَابِه:ِ “اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيك،َ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا، وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا” رواه الترمذي وحسنه. وهذا لا يبعد ان يكون حاصلا بعد الصلوات المكتوبات لعدم الاستثناء في كلام ابن عمر رضي الله عنه. وهل يظن ظان أن الصحابة لم يكونوا يقولون آمين إذا سمعوا دعاءه صلى الله عليه وسلم؟!.
وقد ذكر النووي هذه المسألة في المجموع شرح المهذب قال: (فَرْعٌ) قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لِلإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَقِبَ كُلِّ الصَّلَوَاتِ بِلا خِلاف (يعني أنه إجماع)ٍ. وَأَمَّا مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ تَخْصِيصِ دُعَاءِ الإمَامِ بِصَلاتَيْ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَلا أَصْلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْحَاوِي فَقَالَ: إنْ كَانَتْ صَلاةً لا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ وَالْعَصْرِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَدَعَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيُخْتَارُ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي مَنْزِلِهِ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ التَّخْصِيصِ لا أَصْلَ لَهُ، بَلْ الصَّوَابُ اسْتِحْبَابُهُ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ (أي الإمام) فَيَدْعُوَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ”.
وخصص لها عدد من العلماء رسائل منهم ابن لب فرج بن قاسم (متوفی سنة 782 للهجرة) كما في “نيل الابتهاج”، وأشار إليه الشيخ عبد الصمد كنون في شرح العمل الفاسي، واسم الرسالة: “لسان الأذكار والدعوات مما شرع في أدبار الصلوات”.
وكل هؤلاء مالكية ومنهم الونشريسي الذي نقل أجوبة لعدد من العلماء في هذه المسألة وبالكيفية الجاري بها العمل في المساجد في المغرب، ومن هذه الأجوبة جواب الفقيه المالكي الشهير ابن عرفة (ت 803 للهجرة) قال رحمه الله في آخره يرد علی المانعين: “والله حسيب أقوام ظهر بعضهم ولا يعلم له شيخ، ولا لديهم مبادئ العلم الذي يفهم به كلام العرب والكتاب والسنة، يفتون في دين الله بغير نصوص السنة”، فلينظر الی تقديم ابن عرفة “نصوص السنة”.
ومما ترجع إليه هذه الأجوبة لتخريج هذا العرف من دعاء الامام بعد الفريضة وتأمين المأمومين، أن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى من الدعاء والذكر على أصلهما المشروع، وتحفيظ هذه الأدعية والأذكار وبعض السور لعموم الناس ولا سيما الأمي منهم من المأمومين ممن يحتاج الی تعليم العلماء حاجة ماسة.
وأما ما روي عن الإمام مالك رحمه الله في ذلك فقد ذكر النفراوي من علماء المالكية عن الفقيه ابْن نَاجِي (ت 837 للهجرة وهو تلميذ ابن عرفة) قال: قُلْت وَقَدْ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَنَا بِإِفْرِيقِيَّة (تونس)َ، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِيته يُصَرِّحُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ وَرَدَ الْحَثُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} لأنهُ عِبَادَةٌ فَلِذَا صَارَ تَابِعًا فِعْلَه،ُ بَلْ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِذَلِكَ التَّوَاضُعِ وَالرِّقَّةِ فَلا يُهْمَلُ أَمْرُهُ بَلْ يُفْعَلُ، وَمَا كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ (دليل علی البدعة الحسنة) بَلْ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ وَالاجْتِمَاعُ فِيهِ يُورِثُ الاجْتِهَادَ فِيهِ وَالنَّشَاط”.
وفي كتاب المعيار المعرب في فتاوى المالكية للونشريسي ما نصه: “فتحصل بعد ذلك كله من المجموع أن عمل الأئمة لم يزل منذ الأزمنة المتقدمة مستمرا في مساجد الجماعات وهي مساجد جوامع، وفي مساجد القبائل وفي مساجد الأرباض والروابط، على الجهر بالدعاء بعد الفراغ من الصلوات على الهيئة المتعارفة الآن من تشريك الحاضرين وتأمين السامعين وبسط الأيدي ومدها عند السؤال والتضرع والابتهال من غير منازع، وتبين مما تقرر أن منكر الآن لذلك كله والمخالف في عمله هو من الانحراف عن الجادة بالمنزلة التي لا يغيب غلطها عن الناظر فيها ببديهة عقله، فالدعاء كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم “مخ العبادة” (الترمذي) والإتيان بكل اعتبارها هو عبادة أولى من المتاركة، وهو حق الحق سبحانه فإن فيه إظهار فاقة العبودية والاضطرار والفقر إلى الله عز وجل والتذلل له والخضوع لعزته”.
فدلّ ذلك على أن العمل عند السادة المالكية على ذلك فضلا عن غيرهم كما تقدم عن النووي، ولا عبرة بقول يخالف القرآن والحديث الشريف و”نصوص السنة” كما قال ابن عرفة وهو من فقهاء المالكية البارزين وقد تقدم.