الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد،
دَعوَى بَعضِ الجُهَّالِ أَنَّ اللهَ فَوقَ العَرشِ حَيثُ لا مَكَانَ هي دَعوى بِلا دَلِيلٍ لأَنَّ فَوقَ العَرشِ مَكَانًا بِدَلِيلِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ: “لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِندَهُ فَوقَ العَرشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي”.
وَيُشِيعُ مُجسِّمَةُ هَذَا العَصرِ أَنَّهُ لا مَكَانَ فَوقَ العَرشِ إِنَّمَا المكَانُ تَحتَ العَرشِ فَقَط، فَيَقُولُونَ تَموِيهًا عَلَى النَّاسِ اللهُ فَوقَ العَرشِ بِلا مَكَانٍ. وَأَحيَانًا يَقُولُونَ اللهُ فَوقَ العَرشِ حَيثُ لا مَكَان، وَمِنهُم مَن يَقُولُ فَوقَ العَرشِ مَكَانٌ عَدَمِيٌّ فَاللهُ فَوقَ العَرشِ حَيثُ المكَانُ العَدَمِيُّ عَلَى زَعمِهِم، وهَذَا قَولٌ لا دَلِيلَ عَلَيهِ.
وقَد جَاءَ في الحَدِيثِ أَنَّهُ يُوجَدُ كِتَابٌ فَوقَ العَرشِ مَكتُوبٌ فِيهِ: “إِنَّ رَحمَتي سَبَقَت غَضَبِي” أي الأَشيَاء التِي أُحِبُّهَا أَكثَرُ مِنَ الأَشيَاءِ التِي أَكرَهُهَا، أَي أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحمَةِ أَكثَرُ مِن مَظَاهِرِ الغَضَبِ وأسبقُ وجوداً، الملائِكَةُ مِن مَظَاهِرِ الرَّحمَةِ وَهُم أَكثَرُ عَدَدًا مِن قَطَرَاتِ الأَمطَارِ وَأَورَاقِ الأَشجَارِ وَالبَهَائِمِ وَالطُّيُورِ وَالوُحُوشِ وخُلقوا قبل الإنس والجن، وَالجنَّةُ مِن مَظَاهِرِ الرَّحمَةِ وَهِيَ أَكبَرُ مِن جَهنَّمَ بِآلافِ المرَّاتِ وخلقت قبل جهنم واللهُ يُحِبُّهَا لأَنَّهَا دَارُ أَحبَابِهِ.
فَلا يَمتَنِعُ شَرعًا وَلا عَقلاً أَنْ يَكُونَ فَوقَ العَرشِ مَكَانٌ، وَلَوْلا أَنَّ فَوقَ العَرشِ مَكَانًا لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ الكِتَابِ: “فَهُوَ مَرفُوعٌ فَوقَ العَرشِ”، وفي رواية عنده فوق العرش وَالمقصُودُ بِعِندَ هُنَا عِندَيةُ التَّشرِيفِ.
وَقَد أَثبَتَ اللُّغَوِيُّونَ أَنَّ عِندَ تَأتِي لِغَيرِ الحَيِّزِ وَالمكَانِ، تَأتِي بمعنى الزَّمَانِ وَتَأتي بمعنى الحُكمِ وَتَأتي بمعنى التَّشرِيفِ، فَكَلِمَةُ عِندَ في الحَدِيثِ لِتَشرِيفِ ذَلكَ المكَانِ الَّذِي فِيهِ الكِتَابُ.
وَقَد قَالَ الحَافِظُ المحدِّثُ وَليُّ الدِّينِ أَبُو زُرعَةَ أَحمدُ بنُ عبدِ اللهِ العِرَاقِيُّ: وَقَولُهُ (أَي النَّبِيّ) فَهُوَ عِندَهُ فَوقَ العَرشِ لا بُدَّ مِن تَأوِيلِ ظَاهِرِ لَفظَةِ عِندَهُ لأَنَّ مَعنَاهَا حَضرَةُ الشَّىءِ وَاللهُ تَعَالَى مُنَزِّهٌ عَنِ الاستِقرَارِ وَالتَّحَيُّزِ وَالجِهَةِ، فَالعِندَيَّةُ لَيسَتْ مِن حَضرَةِ المكَانِ بَل مِن حَضرَةِ الشَّرَفِ أَي وَضَعَ ذَلِكَ الكَتَابَ في مَحلٍّ مُعَظَّمٍ عِندَهُ،
كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {فِي مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ} [سورة القمر]، فِي مَقعَدِ صِدقٍ أي في مَكَانٍ مَرضِيٍّ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ قَادِرٍ، عِندِيَّةُ مَنزِلَةٍ وَكَرَامَةٍ لا مَسَافَةٍ وَمُماسَّةٍ.
وَكَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {عِندَ ذِي العَرشِ مَكِين} [سورة التكوير] مَعنَاهَا عِندَ خَالِقِ العَرشِ لَهُ مَكَانَةٌ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى حِكَايةً عَنْ قَولِ ءَاسيةَ:﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ(11)﴾ [سورة التحريم]، أَي فِي المكَانِ المشَرَّفِ.
هِيَ ءَاسِيَةُ بِنتُ مُزَاحِمٍ ءَامنَت بموسَى فَعَذَّبهَا فِرعُونُ بِالأَوتَادِ الأَربَعَةِ فقَالَت وَهِيَ تُعَذَّبُ رَبِّ ابنِ لي عِندَكَ بَيتًا في الجِنَّة فَكَأَنَّهَا أَرادَت الدَّرَجَةَ العَالِيَةَ لأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ المكَانِ فَعبَّرَت عَنهَا بِقَولِهَا عِندَكَ.
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.