تنبيه في عصمة الأنبياء
اتفق المسلمون على أن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل الرسالة وبعدها، وقالت طائفة من الخوارج [1]: يجوز من الأنبياء الكفر تقية، وفساد هذا القول مما لا يخفى، وكذلك الكبائر فهم معصومون منها قبل النبوة وبعدها.
والكبائر من حيث العدد قريبة من الأربعين، ذكر منها تاج الدين السبكي في جمع الجوامع خمسًا وثلاثين. وأما الصغائر فما كان من صغائر الخسة والدناءة فهم معصومون منها قبل النبوة وبعدها، ثم يبقى الكلام على الصغائر التي هي غير صغائر الخسة، فالأشعري أبو الحسن قال بجواز ذلك على الأنبياء، وقال بعضٌ في حق ءادم عليه السلام قولاً لا معنى له: “إنه مأمور باطنًا منهيٌ ظاهرًا”، والصواب أن معصيته حقيقةٌ لكنها من الصغائر التي ليس فيها خسة ودناءة، وقال بعض العلماء: إن ما حصل من ءادم يجب إثبات اسم المعصية عليه من أحل موافقة النص، أي قوله تعالى: {وعَصَى ءادمُ ربَّهُ فَغَوَى} [سورة طه]، قالوا ونفي اسم المعصية عنه كفر لأنه تكذيب للنص، قال ذلك بعض الحنفية وبعض المالكية.
قال بعض المتكلمين من الحنفية: إنه عند عامتهم يجوز منهم الذنب قبل الوحي نادرًا، ثم يتغير حالهم إلى الصلاح والسداد بحيث يعتمد على قولهم ثم يبعثون، لأنه قبل الوحي لا يجب على الخلق قبول قولهم فلا تُشترط العصمة بخلاف ما بعد الوحي، واحتج هؤلاء بقصة ءادم وقالوا: إن معصية ءادم كانت قبل الوحي بالنبوة لأن الله تبارك وتعالى قال في حقه: {ثُمَّ اجتَباهُ ربُّهُ فتابَ عليهِ وهَدَى} [سورة طه]، وذلك بعد ذكر المعصية فيدل على تأخر الاجتباء عنها، وبأن التوفيق بين دليل عصمة الأنبياء وبين دليل وقوع الذنب منهم واجب، ولا يمكن ذلك إلا بتأخر النبوة عن المعصية، وبأن ءادم لو كان نبيًا وقتَ الواقعة فإما أن يكون رسولاً من الملائكة ولا وجه له، أو إلى البشر ولا وجه له أيضًا، لأنه ما كان معه من البشر إلا حواء، وخطاب الشرع يأتيها من غير واسطة ءادم لقوله تعالى: {ولا تَقْرَبا هذهِ الشجرةَ} [سورة الأعراف] ولقوله: {ونَاداهُما ربُّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَن تِلكُما الشجرة} [سورة الأعراف] أو كان رسولاً من غير مُرسَلٍ إليه ولا وجه له أيضًا.
تتمة: القول بجواز الصغائر من الأنبياء أي غير صغائر الخسة هو القول المنصور، نص على ذلك كثير، منهم: صاحب القاموس في كتابه بصائر ذوي التمييز، وابن الحاجب المالكي، بل صرّح بعضهم بأنه مذهب الأكثرين. وأما ما احتج به المخالفون مستدلين بقولهم بأنه لو كان يجوز منهم ذنب لكنا مأمورين باتباعهم في ذلك، ولا يأمر الله بالاتباع في معصية. فالجواب عنه أنهم ينهون فورًا فيتوبون منها قبل أن يقتدي بهم أحد، فزال المحظور بذلك. وتعلق بذلك بعض متأخري الأشاعرة فبالغوا في ذلك حتى قالوا: لا يجوز أن يقع منهم المكروه أيضًا، وليس هذا إلا غُلوًا، والغلو منهي عنه.
ثم من كان من الأنبياء أبوه كافرًا كإبراهيم لا يُجرى عليه حكم الكفر بالتبعية كما يجري على غيرهم قبل البلوغ، أي أن ولد الكافر يُجرى عليه أحكام الكفر قبل البلوغ إلا الأنبياء، لأن من المتفق عليه أن المولود بين أبوين كافرين يجري عليه أحكام الكفر ما دام صبيًا، فلا يتمشى ذلك في حق الأنبياء لأنهم عارفون بالله تعالى حقيقة.
وقد اختلف العلماء في بيان عدد الأنبياء، فقال بعض بموجَب حديث ابن حبان [2] عن أبي ذر مرفوعًا: إنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا. وقال بعض: الصواب أن لا يعيّن للأنبياء عدد معلوم حذرًا من إدخال من ليس منهم أو إخراج من هو منهم، ويمكن الجواب لهؤلاء عن حديث ابن حبان لأن الحديث مختلف في صحة إسناده فلم يرد في ذلك حديث متفق على صحته.
فائدة: قال ابن فورك في عقائد الأشعري [3]: “وكذلك كان يقول: إنه يجوز أن يخص كل أمة برسول، وأن يعم الأمم كلهم برسول واحد. وكان يقول: إن الرسالة أشرف منزلة في باب الولاية، وإنه ليس بعد الرسالة منزلة فوقها في العبادة والطاعة والحظوة عند الله تعالى والكرامة، وعلى هذا الأصل كان يقول: إن الرسل في الآدميين أفضل من الملائكة المقربين. وكان يقول: إن الرسالة غير متعلقة بكسب للرسول ولا هي مختصة بسبب ترجع إليه، بل هي ابتداء فضل وكرامة من الله عز وجل يخص بها من يشاء من خلقه كما يقول تبارك وتعالى: {يُؤتي الحكمةَ مَن يشاءُ} [سورة البقرة]، قال عبد الله بن مسعود: هي النبوة والرسالة. وقال: إن الرسالة ليست بجزاء على عمل ولا بثواب لطاعة بل هي ابتداء عن اختصاص تطوّل من عنده، ولو فعل ذلك به في ابتداء بلوغه وكمال عقله من غير تقدم طاعة لصح. وكذلك كان يقول: إنها لا تورث، وإنه يجوز رسول من ولد كافر وكافر من ولد رسول، وإنه قد كان رسل كثيرون على ذلك وأولادهم أيضًا كذلك على مثل ما وصفنا. وكان يقول: إن الرسول يجب أن يكون أكمل من جملة المرسلين إليهم عقلاً وفضلاً وفطنة ومعرفة وصلاحًا وعفة وشجاعة وسخاوة وزهادة، وهكذا أخبر عز وجل في كتابه أنه اصطفى ءادم ونوحًا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين. وقال تعالى: {ولقدِ اختَرناهُم على عِلْمٍ على العالمينَ} [سورة الدخان]. وكان يقول: إن المعصية والزلّة تجوز عليهم قبل النبوة، فأما بعد إرسالهم فلم نجد عنه نصًا في جواز ذلك عليهم، وعلى هذا كان يتأول قوله: {وعَصى ءادمُ ربَّهُ فغوى} [سورة طه]، أي ذلك كان قبل النبوة والإرسال لأن الله تعالى جعله رسولاً إلى خلقه من أولاده بعد خروجه من الجنة. وكذلك كان يقول: إنه لا يجوز أن يكون رسول امرأة ولا أن يكون عبدًا ولا ناقص الحس، وكذلك كان يقول في الإمام، فأما المرأة فلنقصان عقلها، والعبد فلتعلقه بملك مولاه، وكمال الحواس لأجل الحاجة إليها في أداء الرسالة وما يتعلق بها”. ا.هـ.
الهوامش:
[1] هم الذين خرجوا على علي فدعاهم إلى الطاعة فأصروا على عصيانه فقاتلهم.
[2] أخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب البر والإحسان: ذكر الاستحباب للمرء أن يكون له من كل خير حظ رجاء التخلص في العقبى بشيء منها، راجع الإحسان [1/287-289].
[3] مقالات الأشعري [ص/175-176].