روى الطبَرانِيُّ والبزّارُ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ قالَ: “مَن كانَ يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليصِلْ رَحِمَهُ”. وروى البُخارِيُّ مِن حَديثِ أبى هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ: “مَنْ أحَبَّ أنْ يُبسَطَ لَهُ في رِزقِهِ وأن يُنسَأَ في أثَرِهِ فليصِلْ رَحِمَه”.
فقطيعَةُ الرَّحِمِ مِن أسبابِ تَعجيلِ العَذابِ في الدُّنيا قبلَ الآخِرَةِ، فقدْ روى أحمَدُ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ قالَ: “ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ بِأنْ يُعجَّلَ لِصاحِبِهِ العقوبةُ في الدُّنيا مَع ما يَنتظِرُهُ في الآخِرَةِ مِن البَغْيِ وقطيعَةِ الرحم” والبَغيُ مَعناهُ الاعتداءُ على النّاسِ.
وقطيعَة الرَّحِمِ مِنَ الكبائِرِ بالإِجماعِ وهي مِن معاصي البَدَنِ وهي تحصُلُ بإيحاشِ قلوبِ الأرحامِ وتنفيرِها، إمّا بتركِ الإِحسانِ بالمالِ في حالِ الحاجَةِ النّازِلَةِ بهِم أو تركِ الزِّيارَةِ بلا عُذرٍ، والعُذرُ كأنْ يَفقِدَ ما كانَ يَصِلهُم بهِ مِنَ المالِ، أو يَجِدَهُ لَكِنَّهُ يَحتاجُهُ لِما هُو أولى بِصَرفِهِ فيهِ مِنهُم. والمُرادُ بالرَّحِمِ الأقارِبُ كالجدّاتِ والخَالاتِ والعَمّاتِ وأولادِهِن والأجدادِ والأخوالِ والأعمامِ وأولادِهِم. قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ: “ليسَ الوَاصِلُ بالمكاِفئ ولكنَّ الواصِلَ مَن وَصلَ رَحِمَهُ إذا قطَعَت” رواهُ البُخاريُّ والتِرمِذيُّ وقالَ حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ. ففي هذا الحَديثِ إيذانٌ بِأنَّ صِلةَ الرَّجُلِ رَحِمَهُ التي لا تصِلُهُ أفضَلُ مِن صِلَتِهِ رَحِمَهُ التي تصِلُهُ لأنَّ ذلِكَ مِن حُسنِ الخُلقِ الذي حَضَّ الشرعُ عَليهِ حضًّا بالِغًا. وقطيعَةُ الرَّحِمِ تكونُ بَأن يؤذيَهُم أو لا يَزورَهُم فتستوحِشَ قلوبُهُم مِنهُ، أو هُم فقراءُ مُحتاجونَ وهُو مَعَهُ مالٌ زائِدٌ عَن حاجَتِهِ ويَستطيعُ مُساعدتَهُم ومَعَ ذلِكَ يَترُكُهُم.
واعلمْ أنَّ رَحِمَكَ إنْ كانَ بِحيثُ تستطيعُ أنْ تزورَهُ فلا بُدَّ أنْ تزورَهُ ولا يَكفي أنْ ترسِلَ السَّلامَ إليهِ مِن غيرِ أنْ تزورَهُ، إنّما لِوقتٍ مِنَ الزَّمَنِ يَكفي إرسالُ السَّلامِ لهُ، أمَّا أنْ يَظلَّ هُو وإيَّاهُ في بَلدٍ واحِدٍ ثمَّ لا يَزورُهُ في السَّنَةِ ولا في السَّنَتينِ ولا في الثلاثِ سَنواتٍ مَع إمكانِهِ أنْ يَزورَهُ فهذا قطيعَةُ الرَّحِمِ. أمّا إن كانَ ذلِكَ الرَّحِمُ لا يُحِبُّ دُخولَ هذا القريبِ بيتَهُ ولا يَرضى وكانَ هذا القريبُ يَعلمُ أنَّهُ لا يَرضى ليسَ عَليهِ أنْ يَدخُلَ لأنَّهُ لا يَرضى، سَقطَ عَنهُ، لكِن بَقِيَ أنْ يُرسِلَ إليهِ السَّلامَ أو يُرسِلَ إليهِ مَكتوبًا. وأمّا إنْ كانَ رَحِمُهُ هَذا يُحِبُّ دُخولَهُ بيتَهُ وقُعودَهُ عِندَهُ فلا يَكفي إرسالُ السَّلامِ للمُدَّةِ الطّويلةِ، أمّا للمُدَّةِ القصيرَةِ فيَكفي، أمّا في بعض البلاد إذا زارَ القريبُ قريبَهُ في أحَدِ العِيدَينِ لا يُعتبَرُ ذلِكَ قطيعةً، عندهم إذا زارَ القريبُ قريبَهُ مَرَّةً في السَّنةِ وزارَهُ في الأفراحِ والأحزانِ لا يَعتبرونَ ذلِكَ قطيعةً.
هذا في حالِ لم يَكُنْ للشَخصِ عُذرٌ، أمّا إنْ كانَ لهُ عُذرٌ كَأنْ كانَ في بَلدٍ بَعيدةٍ ولا يَسهُلُ عَليهِ أنْ يَذهَبَ لِزِيارَةِ أقرِبائِهِ، لو غابَ مَثلاً خَمسَ سِنينَ وهُو يُرسِلُ لهُم سلامًا مِن وَقتٍ إلى وَقتٍ ما عَليهِ شيءٌ. ومِنَ الأعذارِ في عَدَمِ زِيارَةِ الرَّحِمِ أنْ يَكونَ سَمِعَ مِن قريبِهِ هذا رِدَّةً أي كفراً كَسَبِّ اللهِ أو الأنبياءِ أو الملائِكَةِ أو الاستهزاءِ بِالقرآنِ وما أشبَهَ ذَلِكَ، فإِنَّ هذا لا صِلةَ لهُ. وكذا يَجوزُ لهُ قَطعُهُ إنْ كانَ فاسِقًا يَشرَبُ الخَمرَ أو يَترُكُ الصَّلاةَ أو يَزني وما أشبَهَ ذلِكَ، ولكِن هذا لا يَقطَعُهُ إلاّ بَعدَ إعلامِهِ بالسَّبَبِ لِيَزجُرَهُ عَن مِثلِ هذِهِ الأفعالِ. ورَوى البُخارِيُّ مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: “مَن أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقه وأن يُنسَأ له في أثَره فليصِلْ رَحِمَهُ”، وقولُهُ: “وأنْ يُنسَأ لَهُ في أثَرِهِ” مَعناهُ أنْ يُطَّولَ عُمُرُهُ مِن حيثُ المعنى لأن الذي يوفَّقُ للخَيراتِ في مَعنى كأنَّهُ زيدَ في عُمُرِهِ. رَوى البَيهَقِيُّ في كِتابِ القضاءِ والقدَرِ مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّم: “مَن سَرَّهُ أن يَمُدَّ اللهُ في عُمُرِهِ ويُوسِعَ لهُ رِزقَهُ ويَدفَعَ عَنهُ ميتةَ السُّوءِ فليتّقِ اللهَ وليَصِلْ رَحِمَهُ”. وأخرج القضاعيُّ في مُسندِهِ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ قال: “صِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ” يَعني كانَ في عِلم اللهِ تعالى أنَّهُ لولا هذِهِ الصِّلةُ كانَ عُمُرُهُ كذا، ولكِنَّهُ تعالى عَلِمَ بِعلمِهِ الأزَلِيِّ أنَّهُ يَصِلُ رَحِمَهُ فيَكونُ عُمُرُهُ أزيَدَ مِن ذلِكَ بِمشيئَةِ اللهِ، فيَكونُ الْمَعلومُ المَحكومُ أنَّهُ يَصِلُ رَحِمَهُ ويَعيشُ إلى هذِهِ المُدَّةِ.