فإن الواجب علی المسلم اعتقاد التنزيه في الله وعدم تشبيهه بخلقه، والفوقية متی اضيفت الی الله فهي فوقية قهر والعلو علو الشرف لا علو الجهة والمكان، لأنه لا شرف في علو المكان ولكن الشرف في علو القدر ولذلك نقول: “الله اكبر” ليس علی معنی كبر الحجم وضخامته ولكن الله اكبر من كل شيء قدرا والامر كما قال الله تعالی في كتابه: “وهو القاهر فوق عباده”.
وقد وصف الله عز وجل نفسه بالمعية في العديد من الآيات، بعضها معية عامة لخلقه وهي هنا بمعنی العلم كقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] و{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7].
وبعضها معية خاصة بالصالحين كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة : 153]، و{إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40].
وكذلك وصف الله عز وجل نفسه بأنه قريب من عباده فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق : 16]، وقوله تعالی:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة : 186]
وشبه ذلك من النصوص.
فمعية الله العامة هي لجميع خلقه بالعلم، فالله عز وجل مع خلقه بعلمه وإحاطته بهم، لا بالمكان ولا بالجهة، يرى ويسمع كل شيء لا بآلة ولا حدقة، أما المعية الخاصة بالمؤمنين فمقتضاها النصر والتأييد والحفظ.
وهذا ما دلت عليه الآيات وآثار السلف الصالح رحمهم الله.
ثم حدثَ بعدَهم من قلَّ ورعُه وساء فهمه وقصدُه وضعُفت عظمة الله وهيبته في صدره فشبهوا الله بخلقه، فزعموا أن هذه النصوص تدل على أن الله بذاته في كل مكان أو أنه بذاته فوق العرش كما تقول المشبهة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهذا شيء ما خطر لمن كان قبلهم من الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، وهؤلاء ممن يتبع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقد حذر النبي أمته منهم في حديث عائشة الصحيح المتفق عليه.
وتعلق هؤلاء أيضا بما توهموه بفهمهم القاصر مع قصدهم الفاسد بآيات في كتاب الله مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُم}، فقال من قال من علماء السلف حينئذ: إنما أراد أنه معهم بعلمه، وقصدوا بذلك إبطال ما قاله أولئك من اعتقاد التشبيه والتجسيم، مما لم يكن أحد قبلهم قاله ولا فهمه من القرآن.
وقد رد السلف الصالح وعلماء أهل السنة على استدلالهم بهذه الآيات، وبينوا المعنى الصحيح لهذه الآيات، فهذه الآيات أولها وآخرها تدل على معناها، وتُبين أن المقصود هو علم الله عز وجل بكل شيء:
الآية الأولى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الارْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
الاية الثانية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
فالفوقية متی اضيفت الی الله فهي فوقية القهر كما ذكر القرآن وقد تقدم.
ومما ذكره العلامة الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء الغزالي قال: وهذا معنى قوله تعالى: “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” أي أعلم منه (اي من العبد) بنفسه. وقوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: “واسجد واقترب” دليل على أن المراد به قرب المنزلة ﻻ قرب المكان كما زعمت المجسمة أنه مماس لعرشه (وهو كفر) إذ لو كان كذلك (كما تزعم المجسمة) ﻻزداد (اي النبي) بالسجود منه (اي من الله تعالی) بعدا، (وهذا اي ما تزعمه المجسمة من القرب والبعد من الله بالمسافة والمكان كفر وضلال)، انتهی.
وهذا من الزبيدي رحمه الله حجة مفحمة للحشوية المشبهة المجسمة أتباع ابن تيمية ﻻ جواب لهم عليها، والزبيدي من علماء اللغة الكبار وهو محدث حافظ من علماء اهل السنة.
ولم يقل احد من السلف بالكيفية ولا بالتحيز فوق العرش بل نزهوا الله عن ذلك كما روی الترمذي عن اجماع السلف قالوا أمروها (بفتح فكسر فراء مضمومة مشددة) بلا كيف، اي منزه عن الكيفية مطلقا.
وهو الثابت عن مالك في روايتي البيهقي
ولا يوجد اي اسناد الی الامام مالك انه قال “والكيف مجهول” في تفسير آية الاستواء “الرحمن علی العرش استوی”.
قال الامام الماتريدي رضي الله عنه وهو من أئمة السلف الصالح: “فإنَّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء، كمن يعلو السطوح أو الجبال انه لا يستحق الرفعة على من دونه (اي بالمكان) عند استواء الجوهر، فلا يجوزُ صرف تأويل الآية إليه (اي الی المكان والجلوس) مع ما فيها من ذكر العظمة والجلال” اي لتنزه الله عن ذلك.
ثم ليعلم ان الصحيح المسند عن الامام مالك روايات: “بلا كيف” رواها الترمذي، ورواية “والكيف غير معقول” ورواية “وكيف عنه (اي عن الله) مرفوع” معناه ان الكيفية مستحيل في حقه تعالی.
وهذا ما تعلمه الصحابة رضي الله عنهم من النبي صلی الله عليه وسلم، فقد روی ابن حجر العسقلاني عن ام المؤمنين ام سلمة رضي الله عنها قالت في آية الاستواء “والكيف غير معقول”، اي لا يجوز على الله، ذكره الحافظ في شرحه على صحيح البخاري.
أم سلمة لم تقل ذلك بالرأي والهوى، بل هو مما تعلمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أم سلمة رضي الله عنها تعلمت أن الكيف مستحيل على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الخليفة الراشد الإمام عليّ رضي الله عنه: “من زعمَ أنّ إلهنا محدود فقد جهِل الخالق المعبود” رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الاولياء، ومعناه ان من اعتقد أو قال بأن الله تعالى قاعد أو جالس أو له كميّة صغيرة أو كبيرة فهو جاهل بالله أي كافر به.
وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: “من قال إنّ الله على شيء فقد أشرك” والمشبهة تقول اللهُ بذاته على العرش فهم كفار بذلك. وزعموا أن الله من صفات عظمته جلوسه على العرش وهو كفر كذلك لأنهم جعلوا الله متشرفاً بشيء من مخلوقاته والعياذ بالله.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “المجسّم كافر” ذكره الحافظ السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر، فالمجسمة الشافعيّ كفرهم جميعا بلا تفصيل وهو ولي تقي نقي مجتهد قرشي من اعلم السلف استاذ لأمثال الامام احمد بن حنبل رضي الله عنهما.
وأحمد كذلك كفر المجسمة مثل استاذه كما نقله الزركشي في تشنيف المسامع من كتب اصول الفقه.
وقال الإمام أبو حنيفة وهو قبل الشافعي ومالك في كتاب الوصية: “من قال بحدوث صفة من صفات الله أو شكّ أو توقف كفر”.
وقال ابو سليمان الخطابي وهو فقيه مجتهد: “إن الذي علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه ان ربنا ليس بذي صورة، لأن الصورة تقتضي الكيفية، والكيفية عن الله وعن صفاته منفية”.
فالكيف والمكان مستحيلان علی الله، وهذا ما قرره الإمام أبو حنيفة (توفي سنة 150 للهجرة) رضي الله عنه وهو من أئمة السلف قال في الفقه الأكبر: “والله تعالى يُرى في الآخرة. يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة”.
هذا كلام صريح من أحد أئمة التابعين من أوائل السلف رضي الله عنهم، ينزه في كلامه ربنا تعالى عن التشبيه والكيفية والكمية والمكان والمسافة. الكيفية لا تجوز على الله لأن الله خالق الكيفيات والأشكال كلها.