من إرث الرحمة من علم الفقيه الحافظ الشيخ عبد الله الهرري، قال ﺭﺣﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ:
رُوّينا بالإسناد المتصل الصحيح في كتاب المستدرَك للحاكِم أنّ رسولَ الله قال: “مَن رَأى عَورَةً فَسَتَرَهَا كان كمَن أحيا مَوءُودَةً مِن قَبرهَا” هذا الحديثُ الصحيح يُخبِرُنَا بأن من رأى عورةً أي لمسلم فستَرها أي لم يبثّها بين الناس بل أخفاها، فلَه أجرٌ شبيهٌ بأجر من أحيا موءودة أي أنقَذَ بنتاً مولودَةً دُفِنَت وهي حيَّةٌ كما كان جاهليةُ العرب يفعلون، “من قبرها” أي أنقذَها أخرجها من قبرها.
هذا الإنسان الذي رأى على مسلم عورة فسترها ولم يبثَّها وينشرْها فله أجرٌ شبيه بأجر الذي أحيا الموءودة، أي الطفلة التي دُفنت، طُمت بالتراب وهي حية فأنقذها قبل أن تموت. هذا له أجرٌ عظيم، وهذا الأمر كان في جاهلية العرب أي قبل أن يُبعث رسول الله بمدّة، كان هذا الشىء معروفاً عند العرب، لكنّ عمر بن الخطاب ما فعل هذا، هذا كذب مفترى عليه أنه كان قبلَ أن يُسلم وأدَ بنتاً له. إنما بعض الناس فعلوا حتّى بعضُ أصحاب رسول الله كان فيهم رجلٌ معروفٌ بالكرم والحِلم، لكن حدثت له حادثة ففعل هذا. ثم بعد أن أسلم عمل حسناتٍ كثيرة حتّى تنغمرَ تلك المعصية التي فعلها قبل أن يُسلم من وَأدِ بناتٍ له، هذا الرّجل سبب إقدامِه على دفن بناتٍ له ثمانية، ثمانيةُ بنات وُلِدنَ له دفنَهُنّ وهنّ حَيّاتٌ، وسببُهُ أنه كانت أغارت قبيلةٌ عليهم، قبيلة من العرب أغارت على قبيلة هذا الشخص الصّحابي الجليل، بعدما أسلم صار على حالة ومرتبة عالية، سبَبُه أنّ هذه القبيلة أغارت على قبيلته فسبَت له بنتًا. هذه القبيلة أخذت بنتًا له أسيرَةً ثم حصَل صُلح بين القبيلتين، فهذه البنت كان واحدٌ من تلك القبيلة التي أسرتها مال إليها تعلّقَ بها وهي تعلّقت به هي أعجبَها وهو أعجبته. فخُيرت قِيلَ لها ترجعِينَ إلى أبيك أم تبقَين هنا مع هذا الرّجل؟، قالت أنا أختار هذا الرّجل. اختارت على أبيها هذا الرّجل مع أنّ أباها وجيهٌ في قومه وكريم وسَخيّ وحليم معروف بالذِّكر الحسن عند الناس. هنا غضب قال كيف تُفضّل عليّ هذا الشخص فحَلف أنّه إن جاءته بناتٌ بعد هذا يدفِنُهنّ وهُنَّ حيّات. فَدَفن بعد ذلك ثمانِ بناتٍ وهنَّ حيّاتٌ، كلّما وُلدت له واحدة يدفِنُها إلى أن كمل عدد ثمانٍ. ثم بعد أن أسلم ندِمَ على ما فعل ندامة شدِيدةً فقال لرسول الله: يا رسول الله ماذا أفعل أنا وأَدتُ ثَمَانِ بنات في الجاهلية أي قبل أن أُسلم دفنت ثمانِ بنات فماذا أفعل قال له: “أعتِق رِقابًا” أي أنَاسًا مملوكين حَرّرهم، قال (ذاك) أنا صاحبُ إبل، معناه عندي إبلٌ كثير أما الرّقيق ما عندي رقيق، عندي إبل كثير، فتصدّق بنحو مائة إبل حتى يُغطي ما سبق له من وأدِ بناته الثمان.
والله تبارك وتعالى ذكر في القرآن الكريم تقبيحَ هذا الأمر، تقبيحَ وأدِ البنات قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا الموءودةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [سورة التكوير ءاية 8]، هذا فعلٌ شنيع من أشنَع الجرائم. الرّسول شبّهَ هذا الذي يرى عورَة لمسلِم أي ما يُعاب عليه ويُستَحَى منه أن يَطَّلع عليه الناس إن رءاها فسَترها، بأجر هذا الإنسان الذي رأى موءودَةً فأنقذها قبل أن تموت قبل أن تختنق بالتُّراب بهذا الطَّم، أنقذها. وفي ذلك أجرٌ عظيم. كذلك هذا فيه أجر عظيم الذي يرى عورةً على مسلم فيستُرها.
ثمّ هناك قِصّةٌ تُشبه هذه حصلت في خلافَة عمر جاء رجلٌ إلى عمرَ ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه قال له: “يا أمير المؤمنين إنّي كنت وأدتُ بنتًا لي في الجاهليّة ثم أخرجتها قبلَ أن تموت. قال كنت وأدتُ بنتًا لي في الجاهلية أي قبل أن أُسلِمَ، دفنتُها ثم أخرجتُها قبل أن تموت، أخذَتهُ الشّفقَة فأخرجها قبل أن تموت ثمّ أدرَكْنَا الإسلام فأسلَمت ونحن أسلَمنا ثمّ ارتكبت حدّاً من حدود الله، معناه زنت قبل أن تتزوج، وهي شابّةٌ زنت، فأخذَت شفرةً لتذبح نفسَها أي من عُظم ما وقَعت فيه من الفَضيحة، أخذَت شَفرةً لتنتَحر فأدرَكنَاها وقد قطعَت بعض أوداجها، عروق العنق من الجانبين يُقالُ لها أوداج، فداوينَاها، القَدرُ الذي هي قطعته عالَجناه بالدّواء، ثم تابت توبَة حسَنَةً، ثمَّ خُطِبَت إلينا من قوم فأخبرت ببعض ما جرى لها، أخبرتُهم ببعض ما جرى لها (على زعمه لئلاّ يغُشَّهُم)، قال لهم بنتي هذه كان سبق لها كذا وكذا حتّى يُقدِمُوا على إتمام خِطبتها أو يَفسَخُوا، أو يتركوها، على زعمه أنه ينصح الذي يخطبها لأن بنته سبق لها كذا مما هو عار وعَيب، فقال عمر: (مستنكراً) “أنت تبُثُّ ما سَتَرَهُ الله تعالى؟، لئِن اخبرتَ بذلك أحداً لأجعلنّك نَكَالاً يتحدّثُ به أهلُ الأمصَار”، معناه لئن عُدت بعد هذا إلى إفشاء هذه العورة التي سبقت لابنتك، إن تحدثت بها بعد هذا لأجعلنّك نكالاً أي عِبرةً للناس بعقوبةٍ أُنَزِّلُهَا بك يتحدّثُ بها أهلُ الأمصار أي أهل المدن، فلان ابن فلان فعل كذا فأُجريَ عليه من العقوبة كذا، أجرى عليه أمير المؤمنين كذا.
هذه الحادثة يُؤخَذُ منها حُكمان شَرعيّان، يؤخَذُ منها أنّ الإنسان بعد أن يتوب لا يجوز ذكره بالعار والعيب الذي سبق له. المسلم إذا سبق له عار مهما كان ذلك العار ومهما كانت تلك العورة لا يجوز أن تُفشَى بعد أن يتوبَ ذلك المسلم أو المسلمة. حتى في مثل هذه الحالة، مثلاً بعد أن تاب ذلك الشخص المسلم أراد إنسان مصاهرته لا يجوز أن نكشِف ذلك العيبَ الذي سبق.
ويؤخذ من هذه القصة ان هذه البنت لو لم تكن تابت كان حقًّا على أبيها إذا خُطِبت إليه أن يتكلَّم فيها مع أنه أبوها، وإن سكت هو وغيرُه ممّن علم بالحادثة يكونون غاشّين، الأب يكون غاشًّا ومن علم بذلك ممّن سواه من أهلِها أو غيرِ أهلِها يكونون غاشّين. لو لم تكن البنتُ تابت لكان غَشًّا، فلو كانت البنت بَقيت على حالها لم تتب ثم خُطِبت ثم هو أخبر بشأنها، بما جرى لها، عُمَرُ لا يوبّخُه، لولا أنها تابت ما وبّخَهُ، إنما وبخهُ لأنّها تابت، انتهى