من إرث الرحمة من علم شيخنا الفقيه الحافظ الشيخ عبد الله الهرري قال رحمه الله:
أَخْرَجَ البُخَارِيُّ عَنْ أَبي موسى الأشعري أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قالَ: “ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فإِنَّكم لا تَدْعون أَصَمَّ ولا غَائبا، إنكم تدْعون سمِيْعا قَرِيبا” وفي مسلم: “والذي تدعونَهُ أقْرَبُ إلى أحدكم مِن عنق رَاحلة أحدكُم”.
هذا الحديثُ يُستفادُ منه فوائدُ منها أن الاجتماع على ذِكر الله كان في زمن الصّحابة، فقد كانوا في سفر فوصلوا إلى وادي خيبر فصاروا يُهللّونَ ويُكبّرون بصوت مرتفع فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شفقة عليهم: “اربَعُوا على أنفسكم” أي هَوّنوا على أَنفسكم ولا تُجهدوها برفع الصّوتِ كثيرًا، “فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا” أي الله تعالى يسمع بسمعه الأزليّ كلَّ المسموعات قويةً كانت أم ضعيفةً في أي مكانٍِ كانت (وهو سبحانه بلا مكان).
وأما قوله صلی الله عليه وسلم عن الله تعالی: “ولا غائبًا” فمعناه أنه لا يخفى عليه شيء. وقوله: “إنكم تدعون سميعًا قريبًا والذي تدعونَهُ أقربُ إلى أحدِكم من عنقِ رَاحلةِ أحدكم”، ليس معناه القربَ بالمسافةِ لأن ذلك مستحيلٌ على الله (كما قال ابو حنيفة)، فالعرش والفرش الذي هو أسفلُ العالم، بالنّسبة إلى ذات الله على حدّ سواء،ٍ ليس أحدُهما أقربَ من الآخر إلى الله بالمسافة، وإنما معناه أن الله أعلمُ بالعبد من نفسه وأن الله مطَّلعٌ على أحوالِ عباده لا يخفى عليه شيء.
ثم إنه يلزمُ على ما ذهبتم إليه (أي المشبهة) من حَملِ النصوص التي ظاهرها أن الله متحيزٌ في جهة فوق كونُ الله تعالى غائبًا لا قريبًا لأن بين العرشِ وبين المؤمنين الذين يذكرونَ الله في الأرض مسافةً تقرُبُ من مسيرةِ خمسين ألف سنة، وفي خلال هذه المسافة أجرامٌ صلبةٌ وهي أجرامُ السمواتِ وجِرمُ الكرسي، فلا يصحُّ على مُوجَبِ معتقدكم قول رسولِ الله إنه قريبٌ بل يكون غائبًا. أما على قولِ أهل السنة فكونه قريبًا (من حيث المعنی لا الحس) لا إشكالَ فيه. فما أشدَّ فسادَ عقيدةٍ تؤدّي إلى هذا (اي تكذيب الحديث الشريف).
وَيقالُ للمعتَرِضِ: إذَا أخَذْتَ حَدِيثَ الجارية (المضطرب في رواية قال لها: اين الله. قالت في السماء) علَى ظَاهِره، وهَذا الحدِيثِ (أقرب الی احدكم من عنق راحلة احدكم) عَلى ظَاهِره، لَبَطَلَ زَعْمُكَ أنَّ الله في السماء. وإنْ أوَّلْتَ هذَاِ الحَدِيثِ ولَم تُؤوِّلْ حَدِيثَ الجارية فَهَذَا تَحكُّمٌ – أي قَوْلٌ بِلا دَلِيل، ويَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلَ الله في اليَهُودِ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [سورة البقرة/85]. وكَذَلِكَ مَاذا تقُولُ في قولِه تَعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [سورة البقرة/115] فَإنْ أَوَّلْتَه فَلِمَ لا تُوَوّلُ حَدِيثَ الجارية؟!
وقَد جَاءَ في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيةِ عنْ مُجاهِدٍ تِلميذِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: “قِبْلَةُ الله”، فَفَسَّرَ الوجه بِالْقِبْلَةِ أيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ في السَّفَرِ عَلى الرَّاحِلَة (الدابة مثل الجمل)ِ.
ومعنى فثمَّ وجه الله أي فهناكَ قبلة الله أي أن الله تعالى رخَّصَ لكم في صلاة النفل (غير الفريضة) في السَّفر أن تتوجَّهوا إلى الجهةِ التي تذهبون إليها، هذا لمن هو راكبٌ الدابة