نفيسة في علم التوحيد:
قالَ أهلُ الحقّ (أهل السنة والجماعة): العالَـمُ جوهرٌ أو عَرَضٌ، فالجوهرُ ما له حَجمٌ وهو قِسمانِ: قسمٌ مُتَناهٍ في القِلَّةِ بحيثُ لا ينقسِمُ، وقسمٌ ينقسِمُ ويسمَّى جسمًا. فالأولُ (الذي لا ينقسم) يسمَّى الجوهرَ الفردَ (وهو) الجُزءَ الذي لا يَتَجَزأُ. وأما العَرَضُ فهو ما يقومُ بالجوهرِ (وكلّ جوهرين جسم ثم يكبر، وأكبر الأجسام العرش) أي ما كانَ صفةً له (أي أن العَـرَض ما كان صفة للجوهر) كحركةِ الجسمِ وسكونِهِ وتَحَيُّزِهِ في حَيّزٍ (والحيّز هو المكان والجهة). فأما الله تباركَ وتعالى فهو غيرُ ذلِك كلّهِ (ليس جوهراً ولا جسماً ولا هو صفة لهما). يستحيلُ أن يكونَ (اللهُ تعالى) جوهرًا فردًا، أو جَوهرًا متألّفًا بحيثُ صارَ جسمًا. وهذا معنى قولِ بعضِهِم (من أهل العلم) إنَّ الله منـزَّهٌ عن الكَمّيةِ والكَيفيةِ. ولا شيءَ سوى الله تعالى كذلك. وأما قولُ أصحابِ الهَيُولى إنها (أي الهيولى المزعومة) ما لا كميةَ له ولا كيفيةَ فهو باطِلٌ (وهم الفلاسفة الضالون).
وقولُ أهلِ الحقّ إنَّ الله منـزَّهٌ عن الحدّ هذا معناه لأنَّ الله لو كان جوهرًا فَردًا لكانَ الجوهرُ الفردُ مِثلاً له (وهذا ضلال). ولو كانَ زائِدًا على ذلك إلى حَدّ أكبرِ الأجرامِ وهو العرشُ أو أَزيَدَ إلى قَدر يتناهَى أو إلى قَدرٍ يُفتَرَضُ أنه لا يَتَنَاهَى، لَلَزِمَ كونُه (سبحانه) مؤلفًا أي مركَّبًا، والمؤلَّفُ يحتاجُ إلى المؤلّفِ، والمحتاجُ إلى غيرِهِ حادِثٌ (مخلوق) لا بُدَّ (والله منزه عن الحاجة والتأليف، فهو منزه عن الجسمية والكيفية والمكان).
وهذا قولُ عليّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهُ: “مَن زَعَمَ أن إلهنَا محدودٌ فقد جَهِلَ الخالقَ المعبودَ” رواه أبو نُعَيم، وقولُ عليّ بن الحسينِ بنِ عليّ بن أبي طالبٍ رضيَ الله عنهُم (أي القائل هو) زينُ العابدينَ: “إنَّ الله ليسَ بمحدودٍ” رواه بالإسنادِ المتَّصلِ الإمامُ الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزَّبيدِيُّ في إتحافِ السادةِ المتقينَ، وقولُ أحمدَ بن محمدِ بنِ سلامةَ الطحاويّ: “تعالى ـ أي الله ـ عن الحدودِ”، ولذلك استحالَ على الله أن يكونَ متَّصلا بالعالَمِ أو حالًّا فيه أو مبايِـنًا له بالمَسافةِ (أما أن يكون تعالى مبايناً للعالم بمعنى أنه لا يشبهه فهذا حق). وهذا هو الحقُّ الذي لا يَصِحُّ غيرُهُ، وذلك لأنَّ المخلوقاتِ إما أن تكونَ متَّصِلَةً ببعضِها أو منفصلةً بعضُها عن بعضٍ، وكِلا الوجهينِ مستحيلٌ وصفُ الله بهِ، وذلك لأنه يَلزمُ منه إثباتُ المِثلِ لله، والله تبارك وتعالى نفَى عن نفسِهِ المثلَ على الإطلاقِ. (قال الله تعالى: “ليس كمثله شيء”).
فإن قالَ الحَشَوِيّةُ المجسّمةُ المثبتونَ لله الحدَّ (أي الحجم والكمية والعياذ بالله): هذا نَفيٌ لوجودِ الله، يقالُ لهم: أنتم بنيتُم اعتقادَكُم على ما يَصِلُ إليه الوهمُ، ولا عبرةَ بالوهمِ إنما العبرةُ بالدليلِ الشرعيّ والعقلِ، وهذا الذي قرّرناه هو ما يقتضيهِ النقلُ والعقلُ. فإن قلتُم (أيها المشبهة) لا نؤمنُ بما لا يَصِلُ إليه وهمُنا، فقد أنكرتُم مخلوقًا لا يَصِلُ إليه وهمُكم مما أثبته القرآنُ كقولِهِ تعالى: ﴿وجعل الظلمات والنور﴾، فالنورُ والظلامُ مخلوقانِ حادِثان بشهادةِ القرآنِ، فهل يَفهَمُ تصوُّركم وقتًا لم يكن فيه نورٌ ولا ظلامٌ وقد ثَبَتَ ذلكَ بهذِهِ الآيةِ ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ أي أنَّ الله خلقَ الظلماتِ والنورَ بعد أن لم يكونا، أوجَدَهُما بعدَ أن كانا معدومَينِ، وهذا لا تَصِلُ إليه أوهامُنا ولا أوهامُكم، ولا يتطَرَّقُ إليه تصوُّرُنا ولا تصوُّرُكم.
مَن يستطيعُ أن يَتصوَّرَ وقتًا لم يَكُن فيه نورٌ ولا ظلامٌ؟ ومع ذلك يجبُ أن نؤمِنَ أنه كانَ وقتٌ – أي مخلوقٌ – لم يكن فيه نورٌ ولا ظلامٌ، لأنه بعدَ خلقِ الماءِ والعرشِ، خَلَقَ الله النورَ والظلامَ. فأولُ ما خَلَقَ الله الماءَ ثم العرشَ. فإذًا، النورُ والظلامُ ما كانا إلا بعدَ وجودِ الماءِ والعرشِ.
وليُعلم أنَّ ما جازَ عليه الدخولُ والخروجُ فهو مخلوقٌ لله الواحدِ الذي ليسَ كمثلِهِ شَيءٌ.