روى البخاري و مسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول مَن يدعوني فأستجيب له مَن يسألني فأُعطيه مَن يستغفرني فأغفر له”.
اعلموا رحمكم الله أن العلماء أجمعوا على أنّ هذا الحديث لا يُحمل على ظاهِرِه، فلا يجوز اعتقاد أن الله سُبحانه وتعالى ينزل بمعنى أنه ينتقل مِن مكان إلى مكان أسفل منه، هذا المعنى فاسد لِعِدَّة أسباب، منها أنّ في هذا المعنى تشبيها لله بِخَلقِهِ كالملائكة والجِنّ وغيرهم والله يستحيل أن يشبه شيئًا من خلقه، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى].
كما أنّ نزول الانتقال فيه تغيّر للصفة، والتغيّر مُستحيل على الله تعالى لأن التغيّر مِن صفات المخلوقات، روى الحافظ مرتضى الزبيدي عن الإمام الشافعيّ رضي الله عنه قال:
“لا يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صِفاته”.
فيستحيل على الله نزول الانتقال لأن هذا المعنى فيه وصف لله بالحركة والله مُنَزَّه عن الحركة بإجماع الأمة، قال الإمام أبو منصور البغداديّ (429 هـ):
“وأجمعوا – يعني أهل السنة – على نفي الحركة والسُّكون عنه”.
فهذا الحديث يُفَسِّر معناه حديث صحيح رواه النَّسَائي (السُّنن الكُبرى: كتاب الزّينة: الوقت الذي يُستحبّ فيه الاستغفار) فيه: “إنّ الله يُمهِل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمُرُ مُناديًا يُنادي: هل مِن داعٍ فَيُستجاب له وهل مِن مستغفر فَيُغفر له وهل مِن سائل فَيُعطى”.
فالنزول إنما يكون مِن مَلَك يُؤمَر بأن ينزل ويُبَلّغ بأن الله تعالى يقول:
“مَن يدعوني فأستجيب له مَن يسألني فأعطيه مَن يستغفرني فأغفر له”.
وقد بيّن كثير مِن علماء أهل السنة والجماعة أن هذا الحديث ليس بمعنى أنّ الله ينزل بانتقال وحركة بل النزول يكون مِن مَلَك بأمر الله كما جاء في الحديث الذي رواهُ النَّسائيّ، قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي ـ دفع شُبَه التّشبيه ـ (597 هـ) رحمه الله: “النزول الذي هو انتقال مِن مكان إلى مكان يفتقِر إلى ثلاثة أجسام: جسم عالٍ وهو مكان الساكِن، وجسم سافل، وجسم ينتقل مِن عُُلو إلى أسفل، وهذا لا يجوز على الله قطعًا”.
وروى الحافظ ابن حجر العسقلانيّ في فتح الباري شرح صحيح البخاري أن الحافظ ابن العربي المالكي (543 هـ) قال عن الحديث: “النزول راجع إلى أفعالِهِ لا إلى ذاتِه، بل ذلك عِبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بِأَمرِهِ ونهيِهِ”.
وقال الإمام الجويني في الإرشاد (478هـ) في شرح الحديث: “ولا وَجه لِحَمل النزول على التَحَوّل وتفريغ مكان وشَغْل غيره، فإنّ ذلك مِن صفات الأجسام ونُعُوت الأجرام”. ثم قال: “والوَجه حَمْل النزول وإن كان مضافًا إلى الله تعالى على نزول ملائكته المُقَرَّبين، وذلك سائِغ غير بعيد”.
وقال الحافظ السيوطي في كتابه تنوير الحَوالِك (911هـ) عند ذِكر الحديث:
“فالمُراد إذن نزول أمرِه أو مَلَك بِأَمرِه”.
وقال الحافظ النووي في شرح صحيح مُسلم (676هـ) في شرح الحديث:
“فيه مذهبان مشهوران للعلماء: أحدُهُما: وهو مذهب السَّلَف وبعض المُتَكَلِّمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأنّ ظاهرها المُتَعارَف في حَقِّنا غير مُراد ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صِفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائِر سِمات الخلق. والثاني: مذهب أكثر المُتَكَلِّمين وجماعات مِن السَّلَف وهو مَحكي هنا عن مالِك والأوزاعيّ على أنها تُتأول على ما يليق بها بحسب مواطِنِها، فعلى هذا تأوَّلوا هذا الحديث تأويلين، أحدهما: تأويل مالِك بن أنس وغيره معناهُ تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يُقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعُهُ بأمره، والثاني: أنه على الاستعارة ومعناهُ الإقبال على الدّاعين بالإجابة واللطف”.
فالذي يعتقد أنّ الله تعالى يجوز عليه الانتقال والحركة يكون كافرًا والعياذ بالله، فَيَجب عليه اعتقاد أنّ الله لا يُوصَف بالتغيّر والانتقال، وَيَجب عليه أنْ ينطق بالشهادتين فورًا للرجوع إلى الإسلام، قال الإمام أبو حيان الأندلسي (745هـ) في تفسير البحر المحيط: “(وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى) أيْ الصِّفة العُليا مِن تنزيهه تعالى عن الولد والصاحِبة وجميع ما تنسب الكَفَرَة إليه مِمّا لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة”.
ونَقَلَ القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي (422هـ) إجماع الأمة على كُفر مَن يعتقد أنّ الله يجوز عليه التغيّر والتَّنقُّل لأنّ ذلك يؤدّي إلى التجسيم والعياذ بالله، قال القاضي عبد الوهاب: “ولا يجوز أنْ يثبت له كيفيّة لأنّ الشَّرعَ لم يَرِد بذلك، ولا أخبر النبيّ عليه السلام فيه بشيء، ولا سألته الصحابة عنه ولأنّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحَيِّز والافتقار إلى الأماكِن، وذلك يَؤُول إلى التَّجسِيم وإلى قِدَم الأجسام (اي ازليتها)، وهذا كُفرٌ عِند كافَّة أهل الإسلام”. انتهى