كتاب التبيان في الرد على من ذم علم الكلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، المنزه عن الجسم والحد، والزمان والمكان سبحانه لا يُمسُّ ولا يحس ولا يُجسُّ، ولا يقاس صفات ذاته بالناس، ولا شريك له في الملك ولا نظير، ولا مشير له في الحكم ولا وزير، مهما تصورت ببالك فالله لا يشبه ذلك.
ونشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى بعثه الله بالنور الساطع والضياء اللامع فبلَّغ عن الله عز وجل الرسالة، وأوضح فيما دعا إليه الدلالة فكان في اتّباع سنته لزوم الهدى، وفى قبول ما أتى به وجود السنا فصلى الله عليه وعلى ءاله وصحبه النجباء.
أما بعد، فإن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من عباده فبعثه إلى خلقه بالحق بشيراً ومن النار لمن زاغ عن سبيله نذيراً، ليدعو الخلق من عباده إلى عبادته، قال الله تعالى في كتابه المبين:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} ) سورة الذاريات
أي خلقهم ليأمرهم بعبادته، وكان أول مـا دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبادة الله تعالى وتوحيده وأن لا يشرك به شىء، فلذلك كان علم التوحيد أجلّ العلوم وأولاها تحصيلاً، وكان اهتمام علماء السلف والخلف- أي الذين جاؤوا بعد السلف- بهذا العلم كبيراً.، وكلا الفريقين من السلف والخلف كانت بحوزتهم الأدلة العقلية للرد عنى المبتدعة المخالفين لأهل الحق، واشتهر عن الخلف إبراز الدلائل النيرة والحجج الباهرة لإثبات وجوده تعالى وحدوث كل ما سواه والذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور وخاضوا في البحث عن الجوهر والأعراض وأحكامها، وسبب ذلك انتشار المبتدعة المنتسبين إلى الإسلام والفلاسفة والملاحدة من غير المسلمين،فنشر هؤلاء المخالفون ءاراءهم الفاسدة التي لم تكن موجودة في عهد الصحابة ومن جاء بعدهم بزمان وألقوها على مسامع المسلمين، فقام أهل الحق الذين عُرفوا باسم علماء الكلام في رد تلك الشبه باستحداث اصطلاحات وطرق جديدة لمقارعة المخالفين إما لكون المخالفين لا يأخذون بالقرءان كالفلاسفة والملاحدة، وإما لكونهم من أهل الأهواء الذين اعتنقوا البدعة وصاروا ينافحون عنها بما زعموه أدلة عقلية، واستمر أهل الحق في نصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المحدثة على خلاف السنة المأثورة حتى ظهر في النصف الثاني من القرن السابع الهجري رجل زعم أنه على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه مع مخالفته له في الأصول والفروع، وقد تمكن هذا الرجل وهو ابن تيمية من اجتلاب ثقة بعض شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان طلق اللسان، فإذا هو يجري على خطة مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة، ولم يعلم أن مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل النظر والفقه في الدين ممن لا يعد هذا الحشوي- أي ابن تيميه- من صغار تلامذتهم إلى مستوى من قوة الحجج بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها لا يقع إلا على أم رأسه، وكان له أتباع ينعقون ولا يعون، وخلفهم أتباع وهكذا إلى أن وصل النعيق إلى رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب النجدي إمام الوهابية. الذي كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ،
واشتهر أمره بعد 1170 هـ بنجد وقراها، وقد ظهر بدعوة ممزوجة بأفكار منه زعم أنها من الكتاب والسنة ، وأخذ ببعض بدع ابن تيمية فأحياها وابتدع من عند نفسه بدعا أخرى، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما شاهدوا أفعاله وسمعوا من أقواله التي خالف في الشرع، حتى قال فيه ابن عابدين الحنفي في ردّ المحتار ما نصّه (1): “مطلب في أتباع ابن عبد الوهاب الخوارج في زماننا: قوله: “ويكفرون أصحاب نبينا (صلّى الله عليه وسلّم)” علمت أن هذا غير شرط في مسمى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي رضي الله تعالى عنه، والا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع محمد بن عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنّة قتل علمائهم حتى كسر الله شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكرالمسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف”. ا.هـ.،
وقال الشيخ أحمد الصاوي المالكي ما نصه (1): ”وقيل هذه الآية- يعني قوله تعالى ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{6} ) سورة فاطر- نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد الآن في نظائرهم وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم الوهابية يحسبون أنهم على شئ ألا- إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم” انتهى كلام الصاوي.
ومن شؤم الطائفة الوهابية أنها تذم علم الكلام الممدوح وأهله، وما ذاك إلا لأن الحجج العقلية والبراهين القطعية تهدم على الوهابية عقيدتهم التي هي عقيدة التشبيه والتجسيم كقولهم في حق الله- بالجهة والجلوس والحركة والكيفية وغير ذلك من انحرافهم، وتمسكوا بشبه لا تنهض دليلاً لما ذهبوا إليه كقولهم إن الصحابة لم يشتغلوا به وإن بعض العلماء ذم المشتغلين بهذا العلم وما إلى ذلك من الشبه التي سيُجاب عنها في هذا الكتاب إن شاء الله.
ولما كثر الخوض في هذا الموضوع والتبس الأمر على بعض الناس، ولما كان الكلام منه ممدوح ومنه مذموم أردنا تبيان الحق وجلاء الأمر ليكون المؤمن على بينه من أمره.
(أنظر كتابه” رد المحتار على الدر المختار”(4/262) كتاب البغاة )
مقدمة كتاب التبيان في الرد على من ذم علم الكلام
بسم الله الرحمن الرحيم
أهميةعلم التوحيد وأنه أفضل العلوم
علم التوحيد هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به وما لا يجوز عليه وما يجب له من أن ُيعرف في حقه سبحانه وتعالى. قال الإمام الجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية: التوحيد إفراد القديم من المُحدث ” (1).
وقال الشيخ أبو علي الرُّوذباري (2) تلميذ الجنيد: ” التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11}” سورة الشورى “اهـ
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري(3): “أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل “اهـ
واعلم أن شرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة، وقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم. نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: ” أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له ” (4) فكان هذا العلم أهمّ العلوم تحصيلاً وأحقّها تبجيلاً وتعظيماً قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ {19}: سورة محمد، قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع.
وروى البخاري في صحيحه (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله”.
وصح عن جُندُب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزاوِرَة (6)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرءان ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانا، رواه ابن ماجه (7).
فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في “الفقه الأبسط لما (8): “الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها” اهـ.
وقال أيضاً (9): أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر” اهـ. وفي (فتاوى قاضيخان “(10) على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ما يدلى على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه:
” تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك، قال الله تعالى: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ {55} ) سورة الذاريات، وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّوا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق،وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع، وعلى العالم إذا علم من قاض أو من ءاخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوامّ حقّاً ويعسر إزالته! اهـ.
قال الحافظ ابن عساكر (11): “أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات وذاك يصلي وقلبه حاضر ففرق بين عالم وعالم، هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها وهذا يقاوم كل عدو للإسلام ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين وهو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف إذا أشكل خراج بقعة رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع والقراء من الخواص والفقهاء حفظة الشرع وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل و يجوز في حق الصانع وهم الأقلون اليوم.
رمى الدهر بالفتيان حتى كأنهم بأكناف أطراف السماء نجوم
وقد كنا نعدهم قليلا فقد صاروا أقل من القليل
قلت: عناية الناس بعلم الأصول إذ ليس فيه وقف ورفق يأكلونه فميلهم إلى ما يقربهم من الدنيا ويوليهم الأوقاف والقضاء والطريق أيضاً مشكل فهو علم عزيز والطريق إلى الأعزة عزيز وقد يرى بعض الجواهر أثبت له درة من العز فلا توجد إلا عند الخواص فهو وإن كان حجراً غير مبتذل فما الظن بجوهر المعرفة.
أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي وأبو الحسن علي ابن أحمد الغساني قالا: ثنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه الزهري قال: ثنا الحسن بن الحسين الشافعي الهمذاني قال: أنشدني أبو عبد الله بن مجاهد المتكلم لبعضهم:
أيها المقتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الكلام تطلب الفقه كي تصحح حكماً ثم اغفلت منزل الأحكام ” اهـ
فظهر من ذلك أن صرف الهمّة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي رحمه الله تعالى، وذلك لأنه من يشبّه الله تعالى بشئ ما لم تصح عبادته لأنه يعبد شيئاً تخيّله وتوهمه في مخيلته وأوهامه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6} ) ( سورة التحريم)” قال سيدنا علي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية. “علّموا أنفسكم وأهليكم الخير” رواه الحاكم في ”المستدرك “(12)، يعني أن حفظ النفس والأهل من النار التي عظَّم الله أمرها يكون بتعلم الأمورالدينية أي معرفة ما فرض الله فعله أو اجتنابه أي الواجبات والمحرمات وذلك كي لا يقع في عبادة فاسدةٍ، وبتعلم ما يجوز اعتقاده وما لا يجوز وذلك كي لا يقع في التشبيه والتمثيل والكفر والضلال.
فلأهمية هذا الأمر العظيم كان لنا الاعتناء الشديد بهذا العلم، وقد لاقينا من جرَّاء ذلك معارضة من الذين لا ينزلون الأمور بمراتبها لا سيما من مشبهة هذا العصر وهم الوهابية الذين ينشرون عقيدة المجسمة التي أخذوها من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ويحاربون عقيدة أهل السنة متسترين بستار السلفية والسلف براء منهم، فنحمد الله تعالى أن جعلنا ممن ينصرون عقيدة أهل الحق المؤيَّدة بالكتاب والسنة والأدلة العقلية، وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
(1) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(2) المصدر السابق (ص/ 5).
(3) فتح الباري (13/ 344).
(4) بوّب البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. ” أنا أعلمكم بالله “
(5) صحيح البخاري:كتاب الإيمان:باب من قال إن الإيمان هو العمل.
(6) حزاورة: جمع حَزَوَّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي.
(7) سنن ابن ماجه: المقدمة.
(8) إشارات المرام (ص/ 28- 29).
(9) المصدر السابق.
(10) فتاوى قاضيخان (مطبوعة بهامش الفتاوى الهندية): الباب الثاني فيما يكون كفراً من المسلم وما لا يكون (2/ 320).
(11) تبيين كذب المفتري (ص/ 356- 357).
(12) المستدرك (2/ 494).
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
فالأول: ويسمى فرضاً عينيّاً وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والجنة والنار، والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسؤال القبر ونحو ذلك.
والثاني: أى الواجب الكفائي معرفة العقائد الإيمانية بدلائلها النقلية الواردة في القرءان والحديث، والأدلة العقلية إلى الحد الكافي لرد الملحدين.
أي يجب أن يكون في المسلمين من يعرف الأدلة الكافية لإبطال تمويهات الملحدين ونحوهم من سائر أعداء الإسلام، والمحرفين للدّين من المنتسبين إليه وهم ليسوا منه كالقاديانية والبهائية وغيرهم.
فلو خلت بلدة من بلاد المسلمين ممن يقوم بالرد عليهم ودحض تشكيكاتهم وتمويهاتهم أثم أهل البلدة كلهم.
وكذلك يجب وجود من يقوم بالرد على المبتدعين الذين هم مسلمون عصاة ضلال فساق كالخوارج.
ويقال بعبارة أخرى: الواجب العيني من هذا العلم قسمان:
قسم لا يحصل أصل الإسلام الذي لا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار إلا به وهو معرفة الله ورسوله فلا يحصل النجاة من الخلود الأبدي في النار بدون ذلك. فمن عرف الله ورسوله بلا ارتياب ولم يستحضر ما سوى ذلك من أصول العقيدة ونطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله ولو مرة في العمر ولم يؤد الفرائض لكنه لا ينكرها فهو مسلم عاص، ويقال له أيضاً مؤمن مذنب.
وقسم يحصل به أصل الإسلام مع زيادة وهو معرفة جميع الضروريات في الاعتقاد وذلك معرفة ثلاث عشرة صفة لله تعالى وهي.
الوجودُ والقدم (أي الأزلية) والبقاءُ والمخالفةُ للحوادث والقيامُ بالنفس ( أي أنه لا يحتاج إلى غيره) والوَحدانية والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والعلم والحياة، ومعرفة أن للأنبياء صفة الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والعصمة وجواز الأعراض البشرية عليهم التي لا تؤدّي إلى الحط من مراتبهم. وبقية ما يتبع ذلك من الإيمان بالملائكة وكتب الله ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والبعث بعد الموت والثواب والعقاب والجنة والنار والميزان والصراط والحوض وسؤال القبر وغيره كأبدية الجنة والنار ونعيم الجنة وعذاب النار والحساب ونحو ذلك.
قال شمس الدين الرملي الشافعي في شرحه على كتاب الزُّبد (1) ممزوتجا بالمتن: ” (والعِلْمُ أسْنَى سائِرِ الأعمالِ ) أي العلم أرفع وأفضل من سائر الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى لأدلة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر كقوله تعالى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ {18} سورة ءال عمران، وقوله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء {28}) سورة فاطر، وخبر مسلم (2): “إذا مات ” الإنسان” (3) انقطع عمله إلا من ثلاثة ” إلا” (4) صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له “، وخبر ابن حبان (5) والحاكم (6) في صحيحهما: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع “، وخبر الترمذي (7) وغيره : ” فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ” ولأن أعمال الطاعة مفروضة ومندوبة، والمفروض أفضل من المندوب، والعلم منه لأنه إما فرض عين وإما فرض كفاية، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة.
والألف واللام في “العلم ” للاستغراق أو للجنس أو للعهد الذكري أو الذهني أي الشرعي الصادق بالتفسير والحديث والفقه (وهو دليل الخير والإفضَال) أي أن العلم دليل الخير أي الفوز بالسعادة الأخروية، والإفضال الإنعام، قال صلى الله عليه وسلم : “من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقا من طرق الجنة” (8).
ثم العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية وقد شرع (9) في ذكرهما مبتدئاً بالأول منهما فقال (فَفَرْضُهُ عِلْمُ صِفَاتِ الفَرْدِ) أي أن من فروض العين علم صفات الله تعالى (10) وما يجب له وما يمتنع عليه ككونه موجوداً واحداً قديماً ليس بجسم. ولا جوهر ولا عرض ولا مختصّ بجهة ولا مستقرّ على مكان، حيّاً قادراً عليماً مريداً سميعاً بصيراً باقياً متكلماً قديم الصفات خالقاً أفعال العباد منزَّهاً عن حلول الحوادث. ولا يعتبر فيها العلم بالدليل بل يكفي فيها الاعتقاد الجازم (مع عِلمِ ما يحتاجهُ المُؤَدّي) أي المكلف بفرائض الله تعالى (مِنْ فَرْضِ دينِ الله في الدوام) أي فرائض الله تعالى مما لا يتأتى فعلها إلا به (كالطُّهْرِ ) عن الحدَث بوضوء أو غسل أو تيمم، والخبث مغلظاً أو متوسطاً أو مخففاً ( والصلاةِ والصيامِ ) فإن من لا يعلم أركان العبادة وشروطها لا يمكنه أداؤها.، وإنما يتعين تعلم الأحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها البلوى، وخرج بقوله: (في الدوام) ما لا يجب في العمر إلا مرة وهو الحج والعمرة وما لا يجب في العام إلا مرة وهو الزكاة فلا يتعين علم ما يحتاج إليه في أدائها إلا على من وجبت عليه، فمن له مال زكوي يلزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، وإن كان ثم ساع يكفيه الأمر، فقد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. وكالفرض فيما ذكره النفل إذا أراد فعله إذا تعاطي العبادة الفاسدة حرام (والبَيْعِ لِلمُحْتَاجِ لِلتَّبايُع ) فيتعين على متعاطي البيع والشراء تعلم أحكامهما، حتى يتعين على الصيرفي أن يعلم عدم جواز بيع الذهَب بالذَّهب والفضة بالفضة إلا مع الحلول والمماثلة والقبض قبل التفرق ولا بيع أحدهما بالآخر إلا مع الحلول والقبض قبل التفرق (وظَاهِرِ الأحْكَامِ في الصنَائِعِ ) فيتعين تعلم ظاهر الأحكام الغالبة فيها على من يعانيها دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة حتى يتعين على الخباز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبز البر بالبر ولا بدقيقه، ويتعين علم ما يحتاج إليه في المناكحات ونحوها (وعلم داءٍ للقلوبِ مُفْسدِ ) لها ليحترز عنه وهو علم أمراضها التي تخرجها عن الصحة فيعلم حدها وسببها وعلاجها (كالعُجْبِ ) وهو استعظام الآدمي نفسه على غيره والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم ( والكِبْرِ ) وهو أن يتعدى الشخص طوره وقدره وهو خُلُقٌ في النفس وأفعال تصدر من الجوارح ( وَدَاءِ الحَسَدِ ) وهو كراهتك نعمة الله على غيرك ومحبتك زوالها عنه وعمل بمقتضاه، ثم ذكر القسم الثاني وهو فرض الكفاية وبه شرع في أصول الفقه فقال (وما سِوى هذا مِنَ الأحْكَامِ ، فَرْضُ كِفَايَةٍ على الأنام ) أي ما سوى فرض العين من علوم أحكام الله كالتوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلا منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب يمكنه العلم به بحيث ينسب إلى التقصير، ولا إثم على من لم يتمكن لعدم وجوبه عليه ” اهـ.
وقد ألف الحافظ البيهقي الشافعي رحمه الله تعالى كتاباً في بيان ما يجب على المكلفين اعتقاده والاعتراف به سماه “الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد”.
وكذلك السادة الصوفية الصادقون يقدّمون معرفة علم التوحيد على غيره من العلوم أي أول ما يوجبون على المكلف هو الإيمان بالله وهو أصل الواجبات أي الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفية ولا كميَّة ولا مكان، والإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما جاء به هو الحق المبين.
روى أبو القاسم القشيري في رسالته (11) بإسناده إلى أبي محمد رُوَيْم بن أحمد البغدادي أنه سئل عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو؟ فقال: “المعرفة لقوله جل ذِكْره (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}) سورة الذاريات) قال ابن عباس: إلا ليعرفون ” اهـ.
ثم قال القشيري (12): “وقال الجُنَيْد: إن أوّل ما يحتاج إليه العبد معرفة صفة الخالق من المخلوق وصفة القديم مِن المحدَث ” اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري (13): “قوله عزَّ وجلَّ: ( رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا{114}) سورة طه، واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شئ إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص ” اهـ.
فالحاصل أنه يجب على الأبَوَيْن نحوَ أولادهما تعليم الصبي والصبية ما يجب عليهما بعد البلوغ أي مِن أمور الدين الضرورية التي يشترك في معرفتها الخاصُّ والعامُّ، وهو ما كان من أصول العقيدة مِن وجود الله بلا كَيْف ولا مكان، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، قِدَمِه وبقائه، وعدم احتياجه. إلى أحد من خلقه، ومخالفته للحوادث في الذات والصفات أي أنه لا يشبه الضَّوءَ ولا الظلامَ ولا الإنسان ولا النبات ولا الجمادات من الكواكب وغيرِها، وأن لله قدرةّ وإرادةّ، وأن إرادته لا تتغير ولا تتبدل، وسمعاً أي يسمع المسموعات كلها بلا أذن، وبَصراً أي يرى من غير أن يكون له حدقة، وعلماً، وحياة أزلية أبدية ليست بروح ولا دم ولا قلب، وكلاماً ليس بحرف ولا صوت ولا لغة. وأن محمداً عبد الله ورسوله العربي الذي وُلِد بمكة وبُعثَ بها وهاجر إلى المدينة ودفن فيها، وأنه صادق في جميع ما أَخبر به وبلغه عن الله تعالى سواء كان مِن أخبار مَن قبله من الأمم والأنبياء وبدءِ الخلق، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أَخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة كالإيمان بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين منكرٍ ونكيرٍ والبعث والحشر والقيامة والحساب والثواب والعذاب والميزان والنار والصراط والحوض والشفاعة والجنة والرؤية لله تعالى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة، وأنه خاتم الأنبياء، وأن الله أرسل أنبياء أولهم ءادم وءاخرهم محمد كلهم موصوفون بالصدق والأمانة والذكاء والتبليغ فيستحيل عليهم الخيانة والرذالة والسفاهة والبلادة، وتجب لهم العصمة من الكفر المعاصي الصغيرة التي فيها خسَّة ودناءة، والعصمة من المعاصي الكبيرة أيضاً كالزنى والسرقة وشرب الخمر قبل النبوة وبعدها، وأنه أنزل كُتباً مع الأنبياء، وأن، لله ملائكة ليسوا ذكوراً ولا إناثاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمرون، وأن الله سيفني الجن والإنس ثم يُعادون إلى الحياة وأنهم يجازَوْن بعد ذلك على حسناتهم بالنعيم المقيم وعلى سيئاتهم بالعذاب الأليم، وأن الله أعدَّ للمؤمنين داراً يتنعمون فيها تُسمّى الجنة وللكافرين داراً تسمى جهنم.
فهذا وما أشبه ذلك يجب على العبد معرفته.
(1) غاية البيان (ص/ 18- 19- 20).
(2) في الأصل مذكور كلمة “الصحيحين ” والصواب كما ذكرناه فوق لأن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه وإنما أخرجه مسلم وغيره: ) أنظر صحيح مسلم: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(3) في الأصل: “ابن ءادم” وما أثبتناه هو لفظ مسلم.
(4) هذه زيادة أضفناها من صحيح مسلم ليست مذكورة في الأصل.
(5) أنظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/307).
(6) 1 لمستدرك (1/ 100- 101).
(7) سنن الترمذي: كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة .
(8) سنن أبي داود: كتاب العلم: باب الحث على طلب العلم.
(9) أي ابن رسلان صاحب متن الزُبد.
(10) وهي الصفات الثلاث عشرة التي مرّ ذكرها
(11) الرسالة القشيرية (ص/ 3).
(12) المصدر السابق (ص/ 4).
(13) فتح الباري (1/ 141).
بيان أن علم الكلام يتضمن الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والنقلية والرد على المبتدعة المنحرفين
ما يجب من علم التوحيد على كل مكلفٍ وما يجب على بعض المكلفين
اعلم أن العلم بالله تعالى وصفاته أجلّ العلوم وأعلاها وأوجبها وأولاها، ويسمّى علم الأصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة.
ويسمى هذا العلم أيضاً مع أدلته العقلية والنقلية من الكتاب والسنّة علم الكلام؛ والسبب في تسميته بهذا الاسم كثرة المخالفين فيه من المنتسبين الى الإسلام وطول الكلام فيه من أهل السنة لتقرير الحق ؛ وقيل لأن أشهر الخلافات فيه مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم – وهو الحق – أو حادث . فالحشوية قالت: كلامه صوت وحرف، حتى بالغ بعضهم فقال: ان هذا الصوت ازلي قديم ، وان اشكال الحروف التي في المصحف ازلية قديمة ، فخرجوا عن دائرة العقل ، وقالت طائفة اخرى : ان الله تعالى متكلم بمعنى انه خالق الكلام في غيره كالشجرة التي سمع عندها موسى كلام الله لا بمعنى انه قام بذات الله كلام هو صفة من صفاته وهم المعتزلة قبحهم الله ، وقال اهل السنة : ان الله متكلم بكلام ذاتي ازلي ابدي ليس حرفا ولا صوتا ولا يختلف باختلاف اللغات .
وموضوع علم الكلام هو النظر اي الاستدلال بخلق الله تعالى لاثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرج منها البراهين . وهو على قانون الاسلام لا على اصول الفلاسفة ،لان الفلاسفة لهم كلام في ذلك يعرف عندهم بالالهيات ؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتمادا على مجرد النظر بالعقل ، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس اصلا للدين ، واما الفلاسفة فجعلوه اصلا من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه.
قال الغزالي في ” الاحياء ” ما نصه ( 1 ) :” واما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها اهل السنة من السلف الصالح لا غير” . ا هــ
قال الحافظ ابن عساكر ( 2 ) : “اخبرنا الشيخ ابو القاسم عبد الرحمن بن الحسن بن احمد الجرجاني الصوفي المعروف بالشعر بنيسابور قال : سمعت ابا الحسن علي بن احمد المديني يقول : سمعت الإمام أبا محمد عبد الله بن يوسف الجويني يقول : رأيت ابراهيم الخليل عليه السلام في المنام فاهويت لان اقبل رجليه فمنعني من ذلك تكرما لي فاستدبرت فقبلت عقبيه ، فأولته الرفعة والبركة تبقى في عقبي ، ثم قلت : يا خليل الله ما تقول في علم الكلام ، فقال : يدفع به الشبه والاباطيل ” ا هــ
فعلماء الكلام من اهل السنة ذكروا الأدلة العقلية على اثبات وجود الله وإثبات حدوث العالم وهو كل ما سوى الله ، وما يجب لله من صفات الكمال التي تليق به ، وما يجب تنزيهه عنه من صفات المخلوقين كالجسمية والمكان ومشابهة الخلق وغير ذلك مما لا يجوز ان يوصف الله به .
فمثلا قالوا : من البراهين العقلية على حدوث العالم ان الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر ، فما لا يخلو من الحادث حادث فالاجسام حادثة .
ولهم دليل ءاخر على اثبات حدوث العالم باثبات حدوث الاعيان والاعراض ،فقالوا : العالم بجميع اجزائه محدث اذ هو اعيان واعراض فالأعيان ما له قيام بذاته وهو إما مركب وهو الجسم او غير مركب كالجوهر – الفرد – وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، اي قسموا العالم الى اعيان واعراض ولا ثالث لهما ، لان الاعيان ما له قيام بذاته ، والقيام بذاته معناه التحيز بنفسه اي ليس تحيزه تابعا لتحيز شئ ءاخر كالشخص من الاشخاص من بني ءادم وكالفرد من أفراد الحجر الحجر والفرد من افراد الشجر الى غير ذلك ، هذه الاشياء اعيان لانها متحيزة تحيزا مستقلا اي غير تابع لتحيز شئ اخر ، والاعيان إما مركبة من جزئين فاكثر ، ويسمى المركب جسما ، او غير مركب كالجوهر ، والجوهر في اللغة الأصل وفي اصطلاحهم الجزء الذي لا يقبل الانقسام من التناهي في القلة ويقال له الجوهر الفرد ، وانما سمي الجوهر لانه اصل الاجسام ، والاجسام تحصل من جوهرين فاكثر فتصير قابلة للإنقسام ويعبر عنه بالجزء الذي لا يتجزأ.
والعرَض ما لا يقوم بذاته يعني ان العرض الذي هو احد قسمي الحادثات ما لا يقوم بذاته بل بغيره كبياض الجسم الابيض وسواد الجسم الاسود وحركة الجرم وسكونه ونحو ذلك ، فهذه الاعراض حادثة،والخالق لهذه الأعيان والأعراض هو الله تعالى .
وقالوا في الرد على المشبهة : لو كان الله يشبه شيئا من الاشياء لكان لا يخلو من ان يكون يشبهه من كل جهاته او يشبهه من بعض جهاته ، فان كان يشبهه من كل جهاته وجب ان يكون محدثا من كل جهاته ، وان كان يشبهه من بعض جهاته وجب ان يكون محدثا مثله من حيث اشبَهَهُ ، لان كل مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها به ، ويستحيل ان يكون المحدث قديما والقديم محدثا ، وقد قال الله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (11) } سورة الشورى ، وقال تعالى وتقدس {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الاخلاص) .
وفي هذا رد على الوهابية المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بالبشر فيقولون الله متكلم بحرف وصوت قديم النوع حادث الافراد , ويقولون بان الله يتحرك وغير ذلك من ضلالهم والعياذ بالله تعالى , لذلك نراهم يذمون هذا العلم الذي يقض مضجعهم ويبين فساد عقيدتهم ، ولقد احسن القائل :
عاب الكلام اناس لا عقول لهم ********* وما عليه اذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى في الافق طالعة **** ان لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
————
(1) إحياء علوم الدين : بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة (1/52).
(2) تبيين كذب المفتري (ص/355-356).
بيان نشأة علم الكلام
كان الحجاز وما حوله من فلسطين والشام وبلاد الروم والعراق وأرض الفرس والهند وبلاد إفريقية وما والاها حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك من عبادة الأوثان والأصنام والكواكب وغير ذلك، فقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم بالدعوة إلى الإسلام وأقام الحجة لدعوته بحيث لا يدع لمعاند عذراً، وأيقظ العقول بطريقة لا تعلو عن مدارك العامة ولا يستنكرها الخاصة فدانوا له تباعاً، وعلمهم طريق التنزيه وفقههم في أبواب العمل ودربهم على الفضيلة والسجايا الكريمة فانتشرت دعوته صلى الله عليه وسلّم إلى جميع الآفاق فدانت الأمم بنور هدايته في مشارق الأرض ومغاربها. وأمهات ما تلقت الأمة من النبي صلى الله عليه وسلّم هي العلم بالله وصفاته والعلم بالأحكام العملية من عبادات ومعاملات.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسألونه عن الحق لصحة الاعتقاد والمعرفة، ويسألونه عن الباطل والشر للتمكن من المجانبة حتى قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني “ رواه البخاري (1)، وإنما كان يفعله لتصح له مجانبته لأن من لم يعلم الشر يوشك أن يقع فيه كما قال الشاعر:
عرفتُ الشرَّ لا للشرّ لكن لتوقيه ومن لا يعَرف الشر من الناس يقع فيه
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر في زمن الإسلام فرق مختلفة تخالف ما عليه المتمسكون بالكتاب والسنة، فقال عليه الصلاة والسلام: “إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة, وهي الجماعة“(2) رواه ابو داود.
فظهرت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فرق عديدة منها المعتزلة ويسمّون القدرية لإنكارهم القدر، والجهمية ويسمّون الجبرية أتباع جهم بن صفوان يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء يأخذها الهواء يمنة ويسرة، والخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه ويكفرون مرتكب المعصية الكبيرة، والمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب بمعنى لا يعاقب عصاة المؤمنين في الآخرة، والكرّامية الذين يقولون إن الله تقوم به الحوادث في ذاته وأقواله ويقولون بأن الله ليس له نهاية من الجهات الخمس وله نهاية من الأسفل، والمشبهة والمجسمة- أسلاف الطائفة المسماة بالوهابية في يومنا هذا- الذين يتقوّلون في الله ما لا يجوّزه الشرع ولا العقل من إثبات الحركة له والنقلة والحد والجهة والقعود والإقعاد (3) والاستلقاء والاستقرار إلى نحوها مما تلقوه بالقبول من دجاجلة الملبسين من الثنوية وعباد الأوثان ومما ورثوه من أمم قد خلت، ويؤلفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة في أهل السنة ويتسترون بالسلف مستغلين ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجة فيها، نعم لهم سلف ولكن من غير هذه الأمة وهم على سنة ضلالة ولكن على من سنها الأوزار إلى يوم القيامة.
وكان أناس يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الفلاسفة والملاحدة والثنوية من الفرس حتى أستفحل أمرهم، فأمر المهدي العلماء من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على هؤلاء فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وأوضحوا الحق وخدموا الدين. وكان لخصماء الدين من الأسلحة ما لا يمكن مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل العداء، فلو تُرك الأمر وشأنه لكاد أن تتسرب شكوكهم إلى قلوب جماعة المسلمين فيطم الخطب.
قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ممزوجاً بكلام الشارح البياضي (4) “(وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما لم يدخلوا فيه) أي فيما فيه اختلاف الأمة من الاعتقادات (لأن مثلهم) بإفنائهم الزائغين بعد كشف شبههم لإصرارهم في اللجاج لم يحوج إلى التوغل في الاحتجاج، وصار مثلهم فيه وحالهم (كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم) ويبرز لهم (فلا يتكلفون) ولا يظهرون الكلفة والمشقة في تعاطيهم (السلاح) لدفع من لم يقاتلهم ” اهـ،، ثم قال: ” (ونحن قد ابتلينا) في عصرنا (بمن يطعن) في الاعتقاديات (علينا) من أهل البدع والأهواء (ويستحلّ الدماء منا) ويستطيلون علينا لشيوع بدعتهم، ونصرة بعض ملوك السوء لهم كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد من الأموية كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي وغيره. (فلا يسعنا أن لا نعلم) بإقامة البراهين اليقينية (من المخطئ منا) أي من المتخالفين (ومن المصيب، وأن لا نذب) ونمنع المخالفين بإقامة الحجج عليهم وإبطال نحلهم (عن) الاستطالة على (أنفسنا وحرمنا، فقد ابتلينا” بمن يقاتلنا) من أهل الأهواء بإظهار الشبه والإغراء الذي هو القتال المعنوي (فلا بد لنا) في دفعهم وإزالة شبههم (من) إقامة الحجج الساطعة والبراهين القاطعة التي في معنى (السلاح) فقد أشار إلى أن البحث فيه والمحاجة صارت من الفروض على الكفاية دون البدع المنهية، وصرّح به في ”الملتقط ” “والتتار خانية”اهـ.
ففي مثل هذه الظروف الحرجة غار الإمام أبو الحسن الأشعري على ما حل بالمسلمين من ضروب النكال وقام لنصرة السنة وقمع البدعة فوفقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وقمع المعاندين وكسر تطرفهم، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها فطبق في ذِكره الآفاق وملأ الدنيا بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة، وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ومضى لسبيله وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ودانت السنة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية. وقد بعث ابن الباقلاني في جملة من بعث من أصحابه إلى البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام ثم إلى قيروان وبلاد المغرب فدان له أهل العلم من أئمة المغاربة وانتشر إلى صقلية والأندلس، وقام بنشر المذهب في الحجاز راوي الجامع الصحيح الحافظ أبو ذر الهروي وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء الآفاق.
وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما ينبغي أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ومن البيّن أن طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق والأحكام مما يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع لا تتبدل حقائقها، فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر للمسلمين لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً، فيدرسون هذه الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية حتى إذا فوَّق متقصد سهاما منها نحو التعاليم الاسلامية من المعتقد وأحكام ردوها الى نحره ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين تنبت فيها بذور تلبيساتهم بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل وقانا الله شر ذلك.
فتبين من ذلك أن نشأة علم الكلام كان ضرورة للرد على أهل البدع من المعتزلة والمجسمة وغيرهما من الفرق الضالة، وللرد على الفلاسفة والملاحدة والمخالفين لأهل الحق في المعتقد.
قال (5) القاضي أبو المعالي بن عبد الملك: “من اعتقد أن السلف الصالح رضي الله عنهم نهوا عن معرفة الأصول وتجنبوها أو تغافلوا عنها وأهملوها فقد اعتقد فيهم عجزاً وأساء بهم ظنّاً لأنه يستحيل في العقل والدين عند كل من أنصف من نفسه أن الواحد منهم يتكلم في مسئلة العول وقضايا الجد وكمية الحدود وكيفية القصاص بفصول ويباهل عليها ويلاعن ويجافي فيها ويبالغ ويذكر في إزالة النجاسات عشرين دليلاً لنفسه وللمخالف ويشقق الشعر في النظر فيها ثم لا يعرف ربه الآمر خلْقَه بالتحليل والتحريم والمكلّف عباده للترك والتعظيم فهيهات أن يكون ذلك، وإنما أهملوا تحرير أدلته وإقرار أسئلته وأجوبته فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبينا محمداً صلوات الله عليه وسلامه فأيده بالآيات الباهرة والمعجزات القاهرة حتى أوضح الشريعة وبيَّنها وعلَّمهم مواقيتها وعينها فلم يترك لهم أصلاً من الأصول إلا بناه وشيده ولا حكماً من الأحكام إلا أوضحه ومهده لقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} [سورة النحل]، فاطمأنت قلوب الصحابة لما عاينوا من عجائب الرسول وشاهدوا من صدق التنزيل ببدائة العقول والشريعة غضة طرية متداولة بينهم في مواسمهم ومجالسهم يعرفون التوحيد مشاهدة بالوحي والسماع ويتكلمون في أدلة الوحدانية بالطباع مستغنين عن تحرير أدلتها وتقويم حجتها وعللها، كما أنهم كانوا يعرفون تفسير القرءان ومعاني الشعر والبيان وترتيب النحو والعروض وفتاوى النوافل والفروض من غير تحرير العلة ولا تقويم الأدلة. ثم لما انقرضت أيامهم وتغيرت طباع مَن بعدهم وكلامهم وخالطهم من غير جنسهم وطال بالسلف الصالح والعرب العرباء عهدهم أشكل عليهم تفسير القرءان ومَرَن (6) عليهم غلط اللسان وكثر المخالفون في الأصول والفروع واضطروا إلى جمع العروض والنحو وتمييز المراسيل من المسانيد والآحاد من التواتر وصنفوا التفسير والتعليق وبينوا التدقيق والتحقيق، ولم يقل قائل إن هذه كلها بدع ظهرت أو أنها محالات جمعت ودونت بل هو الشرع الصحيح والرأي الصريح، وكذلك هذه الطائفة كثّر الله عدَدهم وقوى عُدَدهم، بل هذه العلوم أولى بجمعها لحرمة معلومها فإن مراتب العلوم تترتب على حسب معلوماتها والصنائع تكرم على قدر مصنوعاتها، فهي من فرائض الأعيان وغيرها إما من فرائض الكفايات أو كالمندوب والمستحب، فإن من جهل صفة من صفات معلومه لم يعرف المعلوم على ما هو به، ومن لم يعرف البارىء سبحانه على ما هو به لم يستحق اسم الإيمان ولا الخروج يوم القيامة من النيران ” اهـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الفتن: باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.
(2) سنن أبي داود: كتاب السنة، باب. شرح السُّنة.
(3) أي زعمهم أن الله يقعد محمداً إلى جنبه على العرش يوم القيامة، كما قال ابن تيمية في فتاويه وغيرها.
(4) إشارات المرام (ص/ 32 وما بعدها)، بتصرف لا يغير المعنى.
(5) تبيين كذب المفتري (ص/ 354- 355).
(6) في القاموس المحيط: مَرَنَ على الشيء مرونًا و مرانة: تعوَّده (ص/1592).
حكم تعلم علم الكلام
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه “الفتاوى الحديثية” ما نصه (1):” الذي صرّح به أئمتنا أنه يجب على كل أحد وجوباً عينيّاً أن يعرف صحيح الاعتقاد من فاسده، ولا يشترط فيه علمه بقوانين أهل الكلام لأن المدار على الاعتقاد الجازم ولو بالتقليد على الأصح. وأما تعليم الحجج الكلامية والقيام بها للرد على المخالفين فهو فرض كفاية، اللهم إلا إن وقعت حادثة وتوقف دفع المخالف فيها على تعلم ما يتعلق بها من علم الكلام أو ءالاته فيجب عيناً على من تأهل لذلك تعلمه للرد على المخالفين ” اهـ.
وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (2): ” (ولم يكن شئ منه- أي علم الكلام – مألوفاً في العصر الأول) عند الصحابة والتابعين (فكان الخوض فيه بالكلية من البدع ) والمنكرات (ولكن تغير الآن حكمه) باختلاف الأزمنة ( إذ حدثت البدع) من المبتدعة ( الصارفة عن مقتضى نص القرءان والسنة) ومقتضى النص ما لا يدل اللفظ عليه ولا يكون ملفوظاً لكن يكون من ضرورة اللفظ (ونبغت) أي ظهرت (جماعة لفقوا) أي جمعوا (لها) لتلك البدع (شبهاً) وإيرادات (ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً) يقرؤه الناس (فصار ذلك المحذور) أي الممنوع منه (بحكم الضرورة) والاحتياج (مأذوناً) بالتكلم (فيه) تعلماً وتعليماً (بل صار) القدر المحتاج إليه (من فروض الكفايات) وقال السبكي ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدع إليه الحاجة أولى والكلام فيه عند فقد الحاجة بدعة وحيث دعت إليه الحاجة فلا بأس به (وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة) أي دعاء الناس (إلى البدعة) وحملهم عليها” اهـ.
وقال الشيخ شمس الدين الرملي الشافعي في شرح الزبد ما نصه (3): “التوغل في علم الكلام بحيث يتمكن من إقامة الأدلة وإزالة الشبه فرض كفاية على جميع المكلفين الذين يمكن كلاًّ منهم فعله، فكل منهم مخاطب بفعله لكن إذا فعله البعض سقط الحرج عن الباقين، فإن امتنع جميعهم من فعله أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به ” اهـ.
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم ” ما نصه (4): “قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجبة نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ”اهـ.
وقال الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجاً بالمتن ما نصه (5): (فإن قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدع) ورد شبهة (والآن فقد ثارت البدع) وهاجت (وعمت البلوى) الناس (وأرهقت الحاجة) أي دنت وقرب وقوعها (فلا بد أن يصير القيام بهذا العلم) والتصدي له (من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال) وحفظها من النهاب (وسائر الحقوق) كذلك (وكالقضاء والولاية وغيرهما) من المناصب العامة والخاصة (وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك) وتعليمه (والتدريس فيه والبحث عنه) والتحقيق فيه (لا يدوم ولو ترك) الاشتغال به (لاندرس) بالمرة وانمحى أثره، ولقائل أن يقول لا يحتاج إلى نشره وتعليمه بل يكتفي منه في رد شبه المبتدعة بما ركز في الجبلة والطباع فأجاب بقوله (وليس في مجرد الطباع) ولو كانت سليمة (كفاية) تامة (لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم) ويدأب فيه لأن أكثر هذا العلم أمور دقيقة نظرية (فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضاً من فروض الكفايات) وهذا (بخلاف زمان لصحابة) رضوان الله تعالى عليهم (فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما لعدم ظهور البدع في زمانهم أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار المشاهدة في صدورهم فكانت الأمور الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي بإزائه (مستقل بدفع شبه المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا (وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم) أي على عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما (فإن هذا) أي علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج إليه في كل وقت وينتفع به ءاحاد الناس ويستضرُّ بِهِ الآخرون (والفقه مثل الغذاء) للأبدان الذي لا يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال إحداها التجرد للعلم) والاستعداد لطلب المعرفة (والحرص عليه) بالإكباب على درسه وتعلمه (فإن المحترف) أي المشتغل بالحرفة والصناعة (يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت) لعدم استعداده لذلك (والثانية الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدَّة الفهم وقيل هو سرعة اقتراح النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم على حقائق معان مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود (فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع بفهمه) بل هو دائماً حيران في أمره (والفَدْم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي بمحاجته (فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه والثالثة أن يكون في طبعه الصلاح ) وهو ضد الفساد ويختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرءان تارة بالفساد وأخرى بالسيئة (والديانة) وهي التمسك بأمور الدين (والتقوى) وهي تجنب القبيح خوفاً من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) وفي معنى الشهوات التعصبات للمذاهب والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهة) إذا عرضت (ينخلع عن) ربقة (الدين فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية (فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) “اهـ.
قال الشيخ الفقيه تقي الدين السبكي: “أكثر العلوم التي نحن نتبع وندأب فيها الليل والنهار حاصلة عندهم- أي عند الصحابة- بأصل الخلقة من اللغة والنحو والتصريف وأصول الفقه وما عندهم من العقول الراجحة وما أفاض الله عليها من نور النبوة العاصم من الخطإ في الفكر يغني عن المنطق وغيره من العلوم العقلية، وما ألّف الله بين قلوبهم حتى صاروا بنعمته إخواناً يغني عن الاستعداد في المناظرة والمجادلة فلم يكونوا يحتاجون في علمهم إلا إلى ما يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة فيفهمونه أحسن فهم ويحملونه على أحسن محمل وينزلونه منزلته، وليس بينهم من يماري فيه ولا يجادل ولا بدعة ولا ضلالة، ثم التابعون على منوالهم قريباً منهم ثم أتباعهم وهم القرون الثلاثة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون بعده، ثم نشأ بعدهم وربما في أثناء الثاني والثالث أصحاب بدع وضلالات فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا يلبسوا على الضعفاء أمر دينهم ولا يدخلوا في الدين ما ليس منه، ودخل في كلام أهل البدع من كلام المنطقيين وغيرهم من أهل الإلحاد شئ كثير ورتبوا عليها شبهّا كثيرة، فإن تركناهم وما يصنعون استولوا على كثير من الضعفاء وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم فأضلوهم وغيروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة وانتشرت البدع والحوادث ولم يكن كل واحد يقاومهم وقد لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به، وإنما يرد على الكلام من يفهمه ومتى لم يرد عليه تعلو كلمته ويعتقد الجاهلون والأمراء والملوك المستولون على الرعية صحة كلام ذلك المبتدع كما اتفق في كثير من الأعصار وقصرت همم الناس عما كان عليه المتقدمون، فكان الواجب أن يكون في الناس من يحفظ الله به عقائد عباده الصالحين ويدفع به شبه الملحدين وأجره أعظم من أجر المجاهد بكثير وبه يحفظ أمر بقية الناس وعبادات المتعبدين واشتغال الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمقرئين وانقطاع الزاهدين:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده…. ولا الصبابة إلا من يعانيها”
انتهى كلام السبكي الذي نقلناه من شرح الإحياء (6) للحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي.
—————————————————
(1) الفتاوى الحديثية (ص/ 27).
(2) إتحاف السادة المتقين (1/ 175).
(3) غاية البيان (ص/ 20).
(4) شرح صحيح مسلم ( 6/154- 155).
(5) إتحاف السادة المتقين (2/ 62- 63).
(6) إتحاف السادة المتقين (1/ 177).
بيان علم الكلام الممدوح وعلم الكلام المذموم
اعلم أن العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول ويعرضه على الكتاب والسُّنة، فإن كان الكلام معقولا في نفسه مؤيداً بالبرهان ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة فلِمَ ينبغي أن يهجر ويترك وإن لم يتكلم به الصحابة والتابعون، وإن كان الكلام باطلاً يُرد ولا يلتفت إليه، لذلك قال الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابه الذي ألّفه في الدفاع عن الإمام الأشعري وبيَّن فيه كذب من افترى عليه ما نصّه (1): “والكلامُ المذموم كلام أصحاب الأهوية وما يزخرفه أرباب البدع المُرْدية، فأما الكلام الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه، وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع، وأقام الحجة عليه حتى انقطع ” اهـ.
وقال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان (2) في باب القول في إيمان المقلّد والمرتاب ما نصه: ” أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا أبو بكر محمد ابن الحسين القطان، أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا سفيان، عن جعفر ابن برقان، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه سأله رجل عن شيء من الأهواء فقال: “عليك بدين الأعرابي الغلام في الكُتَّاب وَالْهُ عمن سوَاه “.
قال الإمام البيهقي رحمه الله: “وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز قاله غيره من السلف فإنما هو لأنهم رأوا أنه لا يحتاج إليه لتبيين صحَّة الدين في أصله، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بُعِثَ مؤيداً بالحُجج فكانت مشاهدتُها للذين شاهَدُوها، وبلاغُها المستفِيضُ ومن بَلغَه كافياً في إثبات التوحيد والنُّبُوَّة معاً عن غيرها، ولم يأمَنُوا أن يوسع الناس في علم الكلام، وأن يكون فيهم مَن لا يكملُ عقلهُ ويضعُفُ رأيُه فيرتبك في بعض ضلالة الضالين وشُبَه الملحدين، ولا يستطيع منها مَخْرجاً كالرجل الضعيف غير الماهر بالسباحة إذا وَقع في ماءٍ غامرٍ قويّ لم يُؤمَنْ أن يَغرق فيه ولا يقدر على التخلُّص منه، ولم يَنْهَوا عن علم الكلام لأنَّ عينه مذموم أو غير مفيد; وكيف يكون العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بين النبيّ الصادق وبين المُتَنَبّىء الكاذب عليه مذموماً أو مرغوباً عنه؟ ولكنهم لإشفاقهم على الضُّعفاء لئلا يبلغوا ما يريدون منه فيضِلُّوا نَهَوْا عن الاشتغال به. ثم بسط الحليمي رحمه الله تعالى الكلام في التحريض على تعلُّمه إعداداً لأعداء الله عزّ وجل.
وقال غيره في نهيهم عن ذلك إنما هو لأن السَّلف من أهل السُّنَّة والجماعة كانوا يكتفون بمعجزات الرسل صلوات الله عليهم على الوجه الذي بيَّنا، وإنما يشتغِلُ في زمانهم بعلم الكلام أهلُ الأهواء، فكانوا يَنْهَون عن الاشتغال بكلام أهل الأهواء. ثم إنَّ أهل الأهواء كانوا يَدَّعون على أهل السُّنَّة أنَّ مذاهبهم في الأصول تخالف المعقول، فقيَّض الله تعالى جماعة منهم للاشتغال بالنظر والاستدلال حتى تَبحروا فيه، وبينوا بالدلائل النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنَّة توافق المعقول كما هي موافقة لظاهر الكتاب والسنّة، إلا أنَّ الإيجاب يكون بالكتاب والسنّة فيما يجوز في العقل أن يكون غير واجب دون العقل، وقد كان من السلف من يشرع في علم الكلام ويَرُدّ به على أهل الأهواء” انتهى كلام الحافظ البيهقي.
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي في تعليقه على “بيان زغل العلم ” ما نصه (3): “والحق أن عقيدة السنة في الإسلام واحدة سلفاً وخلفاً لا تتغير ولا تتبدل بل الذي يتجدد هو طريق الدفاع عنها بالنظر لخصومها المتجددة، وذم علم الكلام ممن كان في موضع الإمامة من السلف محمول حتماً على كلام أهل البدع وخوض العامي فيه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وأجاد: لا يجحد علم الكلام إلا أحد رجلين جاهل رَكَنَ إلى التقليد وشقَّ عليه سلوك طرق أهل التحصيل وخلا عن طرق أهل النظر والناس أعداء ما جهلوا فلما انتهى عن التحقق بهذا العلم نهى الناس ليضل كما ضل، أو رجل يعتقد مذاهب فاسدة فينطوي على بدع خفية يلبس على الناس عوار مذهبه ويعمى عليهم فضائح عقيدته ويعلم أن أهل التحصيل من أهل النظر هم الذين يهتكون الستر عن بدعه ويظهرون للناس قبح مقالاته، والقلاب لا يحب من يميز النقود والخلل فيما في يده من النقود الفاسدة كالصراف ذي التمييز والبصيرة وقد قال تعالى: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{9} [سورة الزمر]”اهـ.
(1) تبيين كذب المفتري (ص/339).
(2) شعب الإيمان (1/ 95- 96).
(3) بيان زغل العلم والطلب (ص/ 22).
بيان أن من السلف مَن اشتغل بعلم الكلام
اشتغل عدد من علماء السلف بعلم الكلام إلى جانب اشتغالهم بالقرءان والسنة، والذي ألجأهم إلى ذلك الحاجة للرد على أهل البدع والدفاع عن عقيدة أهل الحق وحراستها من تشويشات وشُبَه هؤلاء المنحرفين.
ومن أبرز علماء السلف المشتغلين بهذا العلم الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، فقد قال الحافظ البيهقي في كتابه “مناقب الشافعي ” ما نصه (1): “وقرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: كلَّم الشافعي يوماً بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق، وطالب وضيق، فقلت له: يا أبا عبد الله: هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا” اهـ.
وقال الربيع بن سليمان: “حضرت الشافعي وحدَّثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرءان، فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو،فلم يجبه وكلاهما أشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي فاحتجَّ عليه الشافعي، فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وكفَّر حفصاً الفرد، قال الربيع: فلقيت حفصاً الفرد في المسجد بعدُ فقال: أراد الشافعي قتلي ” (2) اهـ.
وللإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: (الفقه الأكبر) و (الرسالة) و(الفقه الأبسط) و (العالم والمتعلّم) و (الوصية).، واختلف في نسبتها إلى الإمام كثيراً، فمنهم من ينكر نسبتها للإمام مطلقاً ويزعم أنها ليست من عمله، ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنى بأبي حنيفة وهذا قول المعتزلة لما فيها من إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم كون الإمام منهم- أي في المعتقد- كما في المناقب الكردرية. والإمام أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلم في أصول الدين بالتوسُّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وقد ذكر الأستاذ عبد القاهر البغدادي أن أو متكلمي أهل السنّة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي، ألّف فيه الفقه الأكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان صاحب التفسير وكان مجسّماً، وقد ناظر فرقة الخوارج والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة فسافر إليها نيفاً وعشرين مرةً، وفضَّهم بالأدلة الباهرة، وبلغ في الكلام- أي علم التوحيد- إلى أنه كان المشار إليه بين الأنام، واقتدى به تلامذته الأعلام.
وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قد خَصَمُوا بالكلام الناس أي ألزموا المخالفين وهم أئمة العلم. وعن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام أبا حنيفة كان متكلم هذه الأمة في زمانه، وفقيههم في الحلال والحرام.
هذه الكتب الخمسة ليست من جمع الإمام أبي حنيفة، بل الصحيح أن هذه المسائل المذكورة في هذه الكتب من أمالي الإمام التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي، فهم الذين قاموا بجمعها، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسمعيل بن حمّاد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمّد بن سماعة ونصير بن يحي البلخي وشداد بن الحكم وغيرهم، إلى أن وصلت بالإسناد الصحيح إلى الإمام أبي منصور الماتريدي، فمن عزاهن إلى الإمام صح لكون تلك المسائل من إملائه، ومن عزاهن إلى أبي مطيع البلخي أو غيره ممن هو في طبقته أو ممن هو بعدهم صح لكونها من جمعه، ذكر ذلك الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (3).
وقال العلامة الأصولي الزركشي في تشنيف المسامع: “إن الأئمة انتدبوا للرد على أهل البدع والضلال، وقد صنَّف الشافعيّ كتاب (القياس) ردَّ فيه على من قال بقدم العالم من الملحدين، وكتاب (الرد على البراهمة) وغير ذلك، وأبو حنيفة كتاب (الفقه الأكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على المخالفين، وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق القويم، وكذلك الإمام أحمد”اهـ.
وقد صنّف سيد المحدّثين في زمانه محمّد بن إسماعيل البخاري – المتوفى سنة 256 هـ- كتاب (خلق أفعال العباد)، وصنَّف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام- المتوفى في حبس الواثق سنة 228 هـ- كتاباً في الردّ على الجهمية وغيرهم، وصنَّف المحدّث محمّد بن أسلم الطوسي- المتوفى سنة 242 هـ- وهو من أقران الإمام أحمد أيضاً في الردّ على الجهمية، وقد ردّ على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة- من علماء السنّة من أقران الإمام أحمد بن حنبل: الحارث المحاسبي، والحسين الكرابيسي، وعبد الله بن سعيد بن كُلاّب- المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل- ويمتاز الأول بإمامته أيضاً في التصوف.
وقد صنَّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الردّ على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي فلَّ بها حَدَّهم وقلل عددهم. وكانت وفاة الأشعري في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة للهجرة ، وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة الأشعري بقليل.
وصنَّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الردّ على المبتدعة والمخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة، كما قطعوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجّمين، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافِقَينْ (4) وأبرزهم في نشره ثلاثة: الأستاذ أبو بكر بن فُورَك، وأبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق، والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نذر من المعتزلة وشرذمة من المشبّهة وطائفة من الخوارج، فلا تجد عالماً محقّقاً أو فقيهاً مدققاً إلا وهو أشعري أو ماتريدي.
وإن حال هؤلاء المنكرين لعلم الكلام لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم:
عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم…. وما عليه إذا عابوه من ضررِ ( البسيط)
ما ضرَّ شمسَ الضحى في الأفْقِ طالعة…. أنْ لا يَرى ضَوْءَها من ليس ذا بصرِ
فائدة مهمة: قال الشيخ الفقيه الأصولي الزركشي في كتابه تشنيف المسامع (5) ما نصه: “قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي (6) أعاد الله هذا الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري وأبي نعيم الإستراباذى، وقال أبو إسحاق المَرْوَزي: سمعت المحاملي يقول في أبي الحسن الأشعري: لو أتى الله بقُراب الأرض ذنوباً رجوت أن يغفر الله له لدفعه عن دينه، وقال ابن العربي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم ” اهـ.
ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي لأنه مثله قام بتقرير عقيدة السلف بالأدلة النقلية والعقلية بإيضاح واسع، فقد جمع هذان الإمامان الإثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه ولا التعطيل ولعن الله من يسمي الأشعري أو الماتريدي معطلاً، فهل خالفا التنزيه الذي ذكره الله بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء{11}) [سورة الشورى]، فإنهما نفيا عن الله الجسمية وما ينبني عليها، وهذا ذنبهما عند المشبهة كالوهابية ومن سبقهم من المشبهة، فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجوداً ليس جسماً، والإمامان ومن تبعهما وهم الأمة المحمدية قالوا إن الله لو كان جسماً لكان له أمثال لا تحصى.
وهذا هو دين الله الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاه عنهم الخلف الصالح، وطريقة الأشعري والماتريدي في أصول العقائد متحدة. فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو ما عليه الأشعرية والماتريدية وهم مئات الملايين من المسلمين، فكيف يكون هؤلاء السوادُ الأعظم على ضلال وتكون شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق؟!، والصواب أن الرسول عليه السلام أخبر بأن جمهور أمته لا يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما (7):” إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ” وعند ابن ماجه زيادة: “فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم “، ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف (8) على أبي مسعود البدري: “وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة” قال الحافظ ابن حجر (9) “وإسناده حسن “، والحديث الموقوف (10) على عبد الله بن مسعود وهو أيضاً ثابت عنه: (ما رءاه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رءاه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح “، قال الحافظ ابن حجر (11): “هذا موقوف حسن” ولا ينافي ما قررناه من أن الجمهور معصومون من الضلالة ما صح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله (12): ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة“، فإن هذا أريد به طائفة متمسكة من بينهم بالدين على الكمال ولا شك أن المتمسكين بالدين على الكمال هم أقل الأمة، وليس معنى ذلك أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام يكونون ضالين من حيث العقيدة خارجين عن الإسلام كما صرحت بذلك الوهابية ووافقهم أبو الأعلى المودودي، فعندهم جمهور المنتسبين للإسلام ليسوا على الهدى بل على الشرك، وقد صح(13) أن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون من هذه الأمة، فلا يمكن أن يكون هؤلاء الثمانون هذه الشرذمة الوهابية، وهل كانت الوهابية قبل قرنين، فإن معتقدها منبثق من محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة مائتين وألف وست للهجرة وبعض معتقداتها مأخوذ من أحمد بن تيمية المتوفى سنة سبعمائة وثمان وعشرين للهجرة وهو شذ عن ما كان عليه من قبله من أهل الحق بقوله: إن جنس العالم ليس حادثاً إنما الحادث الأفراد أي الأشخاص المعينة فكل شخص وفرد عنده حادث ولكن إلى ما لا نهاية له ولا ابتداء، فجعل العرش أزليّاً بنوعه وجنسه بمعنى أن العرش لم يزل مع الله ولكن عينه ليس دائماً بل يتجدد كل ءان بعد عدم، وقد نقل ذلك عنه الإمام جلال الدين الدَّواني وهو من ثقات العلماء كما وثقه الحافظ السخاوي في “البدر اللامع في تراجم أهل القرن التاسع”، ونسب إلى ابن تيمية ذلك الحافظان الجليلان المعاصران له وهما الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي والحافظ أبو سعيد العلائي.
وفيما ذهب إليه ابن تيمية تكذيب لقول الله تعالى(هُوَ اَلأوّلُ{3}) [سورة الحديد]، لأن مراد الله تعالى بأوليته الأولية المطلقة ليست الأولية المقيدة النسبية، لأن ذلك ليس لله تعالى فيه خصوصية، إذ الماء والعرش لهما تلك الأولية النسبية لأنهما أول ما خلق الله لم يخلق الله قبلهما شيئاً كما نطق بذلك الحديث الصحيح (14): “كان الله ولم يكن شىء غيره“، فثبت أن ابن تيمية كذَّب هذا الحديث الصحيح كما كذَّب الآية المذكورة وكذَّب الإجماع لأنه لم يقل قبله أحد من المسلمين إن نوع العالم لم يزل مع الله أزليّاً، وإنما قال بذلك متأخرو الفلاسفة الذين هم على خلاف رأي إرسطو. ولم يخش ابن تيمية من الله حيث افترى على أئمة أهل السنة والحديث بنسبته ذلك إليهم ولا يعرف واحد منهم قال ذلك، لكن ابن تيمية يربأ بنفسه عن أن يُنسب إلى موافقة رأي المُحْدَثين من الفلاسفة الذين وافقهم برأيهم القائلين بمثل مقالته، وليست هذه المسألة من المسائل التي يدخلها الاجتهاد بل من أخطأ فيها كفر بالإجماع، قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب:”اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث فإذاً العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي” اهـ، ذكر ذلك المحدث الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين (15).
وكذلك كان ابن هرمز من العارفين بعلم الكلام، فقد قال الحافظ البيهقي في “شعب الإيمان ” ما نصه (16): “أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أحمد بن سهل، ثنا إبراهيم بن معقل، ثنا حَرملة، ثنا ابن وهب، ثنا مالك أنه دخل يوماً على عبد لله بن يزيد بن هرمز فذكر قصة، ثم قال: وكان – يعني ابن هرمز- بصيراً بالكلام، وكان يردُّ على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه الأهواء” اهـ.
وابن هرمز توفي سنة 148اهـ، قال فيه الذهبي في “السير” (17): “فقيه المدينة، عداده في التابعين وقلَّما روى، كان يتعبد ويتزهد، وجالسه مالك كثيراً وأخذ عنه. قال مالك: كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الفتيا شديد التحفظ، كثيراً ما يفتي الرجل ثم يبعث من يرده ثم يخبره بغير ما أفتاه، وكان بصيراً بالكلام يرد على أهل الأهواء، كان من أعلم الناس بذلك، بيَّن مسئلة لابن عجلان فلما فهمها قام إليه ابن عجلان فقبَّل رأسه “، ثم قال الذهبي: “قال مالك: جلست إلى ابن هرمز ثلاث عشرة سنة واستحلفني أن لا أذكر اسمه في الحديث ” اهـ.
فمن هنا يُعلم أن ما يُروى عن مالك أنه ذم علم الكلام محمول على كلام المبتدعة وأهل الأهواء وليس علم الكلام الممدوح الذي كان ابن هرمز شيخ الإمام مالك بصيراً به كما روى
فمن هنا يُعلم أن ما يُروى عن مالك أنه ذم فالمذموم من هذا العلم ما خالف القرءان أو الحديث أو الإجماع.
وكذلك قطع قاضي البصرة إياس بن معاوية القدرية، وكان يضرب به المثل في الذكاء والدَّهاء والسؤُّددِ والعقل،
روى الحافظ أبو نُعَيْم في “الحلية” (18) عن حبيب بن الشهيد قال:
”سمعت إياس بن معاوية يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني قلت لهم: ما الظلم فيكم؟ قالوا: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلتُ لهم: فإن لله عز وجل كل شىء” اهـ.
ومن الذين اشتغلوا بعلم الكلام للرد على أهل البدع الشيخ الحارث بن أسد المحاسبي شيخ الجنيد رحمهما الله تعالى.
والكلام بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فأول متكلمي أهل السنة من الصحابة علي بن أبي طالب لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد ومناظرته القدرية في القدر والقضاء والمشيئة والاستطاعة، ثم عبد الله بن عمر في كلامه على القدرية وبراءته منهم ومن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني. وادَّعت القدرية أن عليّاً كان منهم وزعموا أن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني . وادَّعت القدرية أن عليّا كان منهم وزعموا أن زعيمهم واصل بن عطاء الغزّال أخذ مذهبه من محمد وعبد الله ابني علي رضي الله عنه وهذا من بهتهم، ومن العجائب أن يكون ابنا علي قد علَّما واصلاً رَدَّ شهادة علي وطلحة والشكَّ في عدالة علي، أَفَتَراهما علَّماه إبطال شفاعة علي وشفاعة صهر المصطفى.
وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز وله رسالة بليغة في الرد على القدرية، ثم زيد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وله كتاب في الرد على القدرية، ثم الحسن البصري وقد ادَّعَتْه القدرية فكيف يصح لها هذه الدعوى مع رسالته إلى عمر بن عبد العزيز في ذم القدرية ومع طرده واصلاً عن مجلسه عند إظهاره بدعَتَهُ، ثم الشعبي وكان أشد الناس على القدرية، ثم الزهري وهو الذي أفتى عبدَ الملك بن مروان بدماء القدرية، ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق وله كتاب في الرد على القدرية وكتاب في الرد على الخوارج، وهو الذي قال: “أرادت المعتزلة أن تُوَحّد ربَّها فَألحَدَتْ وأرادت التعديل فنسبت البخل إلى ربها”. وأول متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب أبو حنيفة والشافعي فإن أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سماه كتاب الفقه الأكبر، وقال صاحبه أبو يوسف في المعتزلة: إنهم زنادقة، وللشافعي كتابان في الكلام أحدهما في تصحيح النبوة والرد على البراهمة والثاني في الرد على أهل الأهواء، وذكر طرفاً من هذا النوع في كتاب “القياس” وأشار فيه إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وأهل الأهواء. ثم من بعد الشافعي تلامذته الجامعون بين علم الفقه والكلام كالحارث بن أسد المحاسبي وأبي علي الكرابيسي وحرملة البُوَيْطي وداود الأصبهاني، وعلى كتاب الكرابيسي في المقالات مُعَوَّلُ المتكلمين في معرفة مذاهب الخوارج وسائر أهل الأهواء، وعلى كتبه في الشروط وفي علل الحديث والجرح والتعديل مُعَوَّلُ الفقهاء وحفاظ الحديث، وعلى كتب الحارث بن أسد في الكلام والفقه والحديث مُعَوَّلُ متكلمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم، وكان أبو العباس بن سُرَيج أنزع الجماعة في هذه العلوم.
ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبد الله بن سعيد التميمي الذي دَمَّر على المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه وءاثار بيانه في كتبه وهو أخو يحيى بن سعيد القطمان وارث علم الحديث وصاحب الجرح والتعديل، ومن تلامذة عبد الله بن سعيد عبد العزيز المكي الكتاني الذي فضح المعتزلة في مجلس المأمون، وتلميذه الحسين بن الفضل البجلي صاحب الكلام والأصول وصاحب التفسير والتأويل وعلى نكته في القرءان مُعَوَّلُ المفسرين وهو الذي استصحبه عبد الله بن طاهر والي خراسان إلى خراسان فقال الناس: إنه قد أخرج علم العراق كله إلى خراسان، ومن تلامذة عبد الله بن سعيد أيضاً الجنيد شيخ الصوفية وإمام الموحدين وله في التوحيد رسالة على شرط المتكلمين وعبارة الصوفية، ثم بعدهم شيخ النظر وإمام الآفاق في الجدل والتحقيق أبو الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري الذي صار شجاً في حلوق القدرية والنجارية والجهمية والجسمية والخوارج وقد ملأ الدنيا كتبه وما رُزِقَ أحد من المتكلمين من التَّبَع ما قد رُزِقَ لأن جميع أهل الحديث وكل من لم يتمعزل من أهل الرأي على مذهبه، ومن تلامذته المشهورين أبو الحسن الباهلي وأبو عبد الله بن مجاهد وهمما اللذان أَثْمَرا تلامذة هم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر كأبي بكر محمد بن الطيب قاضي قضاة العراق والجزيرة وفارس وكرمان وسائر حدود هذه النواحي، وأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك، وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المهراني، وقبلهم أبو الحسن علي بن مهدي الطبري صاحب الفقه والكلام والأصول والأدب والنحو والحديث، ومن ءاثاره تلميذ مثل أبي عبد الله الحسين بن محمد البزازي صاحب الجدل والتصانيف في كل باب من الكلام، وقبل
هذه الطبقة شيخ العلوم على الخصوص والعموم أبو علي الثقفي، وفي زمانه كان إمام أهل السنة أبو العباس القلانسي الذي زادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتاباً، وتصانيف الثقفي ونقوضه على أهل الأهواء زائدةٌ على مائة كتاب. قال أبو منصور البغدادي: وقد أدركنا منهم في عصرنا أبا عبد الله بن مجاهد ومحمد بن الطيب قاضي القضاة و محمد ابن الحسين بن فورك إبراهيم بن محمد المهراني والحسين بن محمد البزازي، وعلى منوال هؤلاء الذين أدركناهم شيخنا وهو لإحياء الحق كل وعلى أعدائه غلٌّ.
ذكرنا ذلك كله من كتاب “أصول الدين، للبغدادي (19).
(1) مناقب الشافعي (1/ 457).
(2) الأسماء و الصفات (ص/252)، تبيين كذب المفتري (ص/339-340).
(3) إتحاف السادة المتقين (2/ 13- 14).
(4) المشرق والمغرب.
(5) تشنيف المسامع (ص/ 395)، مخطوط.
(6) أبو بكر الإسماعيلي الذي مر ذكره أحد أكابر حفاظ الحديث له مستخرج على البخاري،وأصحاب المستخرجات متبحرون في حفظ الحديث.
(7) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، وابن ماجه في سننه:كتاب الفتن: باب السواد الأعظم، والحاكم في المستدرك (1/ 115 و 116)، وأحمد في مسنده (6/396).
(8) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ص/ 42).
(9) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).
(10) مسند أحمد (1/ 379)، وانظر كشف الأستار (1/ 81).
(11) موافقة الخبر الخبر (1/ 115).
(12) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 449).
(13) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة الجنة: باب ما جاء في وصف أهل الجنة.
(14) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ{27} [سورة الروم].
(15) إتحاف السادة المتقين (2/ 94).
(16)شعب الإيمان (1/ 96).
(17)سير أعلام النبلاء (6/379-380).
(18)حلية الأولياء(3/124).
(19) أصول الدين (ص/307 وما بعدها).