الحمدلله وبعد، فإن بعض المبتدعة يمنعون من علم الكلام على طريقة أهل السنة والجماعة بما فيه من تأييد للعقيدة السُّـنية بالدليل العقلي والنقلي من كتاب الله تعالى وسنة نبيه ســيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول هؤلاء في استدلال في غير محله إنه قد ذمّ علم الكلام جماعة من السلف، فروي عن الشعبي أنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. وروي مثله عن الإمام مالك، والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة.
فنقول أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عن ذلك بقوله: “إنما يريدون والله أعلم بالكلام كلام أهل البدع، فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكلام أهل البدع (المعتزلة والمجسّمة وأشباههم)، فأما أهل السنّة فقلَّما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد”، أي للدفاع عن الدين والشريعة، وإلا فأصل هذا العلم موجود في كتاب الله وسنة نبيه في محاججة الأنبياء أقوامهم بالأدلة العقلية مستدلين بالمخلوق على الخالق وأنه تعالى لا يشبه مخلوقاته إذ لو أشبهها ولو من بعض الوجوه لجاز عليه ما يجوز عليها من الفناء والآفة، وهذا مستحيل في حق ربّ العالمين سبحانه ليس كمثله شيء.
قال الحافظ ابن عساكر: “فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية، وناهيك بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية. وتحتمل وجهًا آخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلّم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أُمِر بفعله من شرائع الإسلام، ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع (أي مما جاء الأمر به في القرآن والحديث والإجماع) وترك ما نهى عنه من الأحكام. وقد بلغني عن حاتم الأصم وكان من أفاضل الزهّاد وأهل العلم أنه قال: “الكلام أصل الدين، والفقه فرعه، والعمل ثمره. فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسّق، ومن تفنّن في الأبواب كلها تخلص” اهـ. وقد روي مثل كلام حاتم عن أبي بكرٍ الورّاق رحمه الله تعالى.
وفق الله كاتبه وناشره وعافانا وختم لنا ولمن قال آمين بخير ورزقنا رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم عاجلاً وآجلاً، آمين